حوار الدمع في قصيدة “يا أخت غزة” للشاعر محمود حامد شلبي ل د. سعيد محمد المنزلاوي

القصيدة من بحر الكامل، ضربها مقطوع، والكامل هو البحر الأثير لدى الشاعر يفرغ عبر أنغامه شحناته الانفعالية.

ويصافحنا العنوان “يا أخت غزة”، كأولى عتبات النص، وهو عنوان يحمل نداء لتلك التي نعتها بأنها أخت “غزة”، كما تقول للعربي “يا أخ العرب”، ولم يقل “يا بنت غزة”؛ لأن “غزة” في حاجة إلى مَن يقف بجانبها، وأقرب إنسان لك هو أخوك، هذا الذي يشد من أزرك ويساندك ويدافع عنك، وكذلك لهذا السياق دلالته، وهي المشابهة، حيث أفادت إضافة “أخت” إلى “غزة” التشابه بين الحالين والتوافق في الرزء والمصاب، كقوله تعالى “يا أخت هارون”، أي يا شبيهة “هارون” في العبادة. فهذه الفتاة/المرأة شبيهة “غزة”، فكلتاهما أسيرتان، عاريتان/ جائعتان، ظامئتان، مطاردتان..

كذلك يحوي العنوان في أحشائه بنية النداء، إن الشاعر يريد أن يوصل رسالة إلى من نعتها بأنها أخت “غزة”، و”غزة” بضعة من فلسطين تنزف، وأهلها يتضورون جوعًا وظمأ.

وتدور الفكر الرئيسة للنص حول محاور ثلاثة: (الدمع، والواقع المرير، ورجاء عودة الأبطال)، عرض لها عبر لوحات ستة:

اللوحة الأولى: لوحة الفقد والمواساة، من خلال ثنائية الدمع، والتي سار بها الشاعر في اتجاهين متضادين، يستهل قصيدته بقوله:

(قطرات دمعك لن تعيد فقيدك وصراخ طفل جرحه يدميكِ)

لقد جعل الدمع قطرات؛ تعبيرًا عن كثرة الدمع الهتون، إلا أنها لم تجدِ معها نفعًا، ولذا رجاها بقوله:

(كفي عن العبرات إن كانت لمَن ترجين نصرتهم فقد خذلوكِ)

إنه يطلب منها أن تكف الدمع، فليس هناك من ناصر، فالعرب قد خذلوك، وفقيدك لن يعود، وجرحك لن يداوى.

اللوحة الثانية: لوحة البهتان، نقرؤها في قوله:

(ما عاد يدهشني عوار سكونهم لكن دهاني أنهم جعلوكِ

سببًا لما يجري لغزة حينما قاومت مَن جاءوا ليجتثوكِ

من جذرك المغروس من بدء الأزل وإلى فيافي اللاجئين رموكِ)

إن مشاهد الاعتداء والانتهاكات التي يتعرض لها إخواننا في “غزة”، تمر على مرأى ومسمع من العالم كله، ولكنهم متخاذلون عن نصرتهم، قاعدون عن الدفاع عنهم، وليتهم اكتفوا بهذا، بل إنهم رموهم بأن مقاومتهم هي التي جرت عليهم كل تلك الانتهاكات. وما أقبح ما رموهم به! ونسوا أن غاية إسرائيل اجتثاث “غزة” من جذورها.

اللوحة الثالثة: لوحة العُري، وفيها يسجل الشاعر موقفين متغايرين ومتباينين: موقف الغرب مما يحدث في غزة، وموقف العرب:

(وعَلا صراخ الغرب يشجب ما جرى والعُرب حتى بالكلام نسوكِ

سكبوا مروءتهم بغير روية هانوا وما هنت كما ظنوكِ)

إن غياب العرب عن مشهد “غزة” هو غياب مقصود.

اللوحة الرابعة: لوحة البطولة:

(هل كان ذا عصر البطولة إذ نرى صبر النساء على الدم المسفوكِ

ونضال أبطال الرجال وما رأوا في الموت إلا عزة فَفدوكِ

حتى الطفولة لم تفر من الردى بل إنهم تحت الثرى سبقوكِ)

لقد ضرب أهل “غزة” أروع المثل في التضحية والفداء من أجل ثرى الوطن والقدس الشريف، حاز هذا الشرف النساء والأطفال مع الرجل على حد سواء.

اللوحة الخامسة: لوحة الخنوع:

(أم أنه عصر الخنوع إذا انبرى للهوى والغثيان مَن ظلموكِ

يبنون ريعًا للتفاهة يا لها من سلة للعُرب إذ تركوكِ)

وهي تقابل اللوحة السابقة، فحين نرى شواهد البطولة في صبية “غزة” ونسائها، نرى العرب وقد تسربلوا بالخزي والعار؛ بسبب تقاعسهم عن نصرة إخوانهم في بلد مسرى رسولهم.

اللوحة السادسة: لوحة الأمل، يرسم ملامحها على أرضية العفو:

(وتكرمي بالعفو لا تدعي على أبناء عُربٍ دعوة من فيكِ

فلربما عادوا لرشد بعد أن تفنى غشاوتهم، وما يدريك!

فلعل جحفل خالد من بينهم أخفاه ربي عله يأتيك

أو قد يعود صلاحنا بجيوشه ليحرر الأقصى وذا يكفيكِ)

إن حالة التخاذل لن تطول، ولابد لكل ليل من آخر، ولابد للفئة المستضعفة أن يأتيها نصر الله “إن نصر الله قريب” ولن تعدم هذه الأمة في آخرها أبطالًا مثلما كان في أولها.

إن كل لوحة – كما نرى – تسلم إلى الأخرى في حلقات محكمة النسج، ما يحقق الوحدة الموضوعية للنص.

وهنا نتساءل ما دلالة التضمين مع كسر حرف الروي؟

لقد نهضت أغلب أبيات القصيدة على التضمين، لما له من دلالة ترتبط بموسيقا النص والمعنى العام للقصيدة، جاعلًا من تلاحم الأبيات تلاحمًا وتضامنًا مع الهم الفلسطيني ودعمًا له، حيث تذوب الفوارق بين الأبيات في التحام أجزائها نغميًّا في لُحمة واحدة.

كما أن مجيء كاف الخطاب المكسورة قافية، تعبيرًا عن حالة الانكسار التي تعتري سكان “غزة” إزاء الاعتداء الإسرائيلي الغاشم على الشعب الأعزل.

د. سعيد محمد المنزلاوي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *