في ظل هيمنة الاستعمار؛ عاشت معظم الشعوب العربية مرارة الاضطهاد والتهميش؛ ومن أجل ذلك ظهر المسرح الدرامي الذي كان موجه للجماهير. ففي خمسينات القرن الماضي كان أوّل ظهورٍ لدراما اللامعقول في هذه الفترة التي كانت فيها جل البلدان المغاربية تخضع للاستعمار الفرنسي، حيث أن إرادة الاستعمار كانت ترسل بعثاتً فنيةً إلى المغرب، وكان الهدف منها حينئذ تدريب الشباب المغربي على قواعد الفن المسرحي. فكان الطيب الصديقي أحد هؤلاء المتدربين الذي لديه هوية مسرحية مميزة كصانع جمالي، ومتمكن من أدواته، فكان له تأثيرًا كبيرًا في حركة المسرح المغربي. إبان الاستعمار الفرنسي كان المسرح المغربي يعتمد على الترجمة، والاقتباس، وتحوير المسرح الغربي ومغربته، وعليه فكان ذلك يعكس البعد التاريخي فكان مسرح هواة يرمي إلى بث الوعي الفني، والوطني. لم ينقطع التأثير الغربي على المنطقة العربية منذ دخول المسرح للعرب حتى يومنا هذا. إذ أن العرب قلد الغرب في مشاريع مسرحية متكاملة، فكانت الفرق المسرحية العربية تعمل بطرق وأدوات غربية بمعنى استنساخ تقليدي بحت، وكان هذا التقليد في مسرحيات الكاتب الفرنسي “موليير” الاجتماعية والهادفة، وفيها السخرية الواضحة التي تعبر عن رغبة التغيير عند العرب. كان المسرح أثناء هذا الوقت لا يعبر عن تطلعات الشعب المغربي وقضاياه.
استنادًا على ما سبق أعتبر المغاربة المسرح أداة ومنبر، وكان أساسه الخطاب الذي يمكن أن تحمله تلك الأداة. هذا المسرح كان يشكل إزعاجًا للسلطات الفرنسية، فكان هناك رقابة على تلك المسرحيات، وكثير من تلك المسرحيات أوقفتها الرقابة، وهناك عروض تم إيقافيها أثناء عرضها. شكل المسرحيات كان في هذه الفترة عبارة عن فصول تتخللها استراحة، وأثناء الاستراحة توجد قصائد شعرية تحفيزية، تلك المسرحيّات كانت ذات بُعد نضالي وفكري وفلسفي وديني. في بداية القرن العشرين عرف أهل المغرب المسرح بالمعنى الحرفي للمسرح، كعرض مسرحي متكامل فلم يكن هناك عروض مسرحية مغربية ما عدا المظاهر الدرامية الشعبية الموجودة في أغلب المدن المغربية. من هنا لقد عرفوا فنون الفرجة، حيال ذلك فإن الفرق الأتية من فرنسا وإسبانيا والقاهرة هي من عرّفت المغاربة على العرض المسرحي. ومن ضمن هذه الفرق المسرحية المصرية التي كانت تزور المغرب هي: “جورج أبيض، الشيخ سلامة، فاطمة رشدي”. كانت هذه العروض المسرحية تُقدّم باللغة العربية، ولكنها على الطريقة الغربية فكانت هذه الفرق مصدر إلهامٍ للمغاربة؛ للتعرف على العرض المسرحي، وكان لها التأثير العميق الذي خلفته، وتعدّ أحد عوامل توزيع بذور الثقافة المسرحية وسط الشباب المغاربي الذين كانوا يتخبطون في محاولات مهزوزة تخلو من الجمالية المتطلبة. في الفترة عام (1913 ) م سجل فيها ميلاد المسرح المغربي؛ لأن المغرب كان تحت الاستعمار الفرنسي، ومن البديهي أن تترك التجربة الفرنسية أثرها الواضح على المسرح المغربي، فكان المسرح المغربي يلبس المعطف الغربي روحاً وقالباً وفكراً؛ بسبب الفترة الطويلة التي قضاها المستعمر الفرنسي في المغرب؛ فلعبت اللغة الفرنسية عاملاً مؤثراً بذلك التأثير؛ لسهولة الوصول للمصادر الفرنسية. من هنا فقد التقى الصديقي بأبرز الأسماء المسرحية الفرنسية أمثال “جينيو، وفوازان، وجان فيلار “، وكان لهم الأثر الكبير في تكوين كثير من شباب المغرب مسرحياً. ففي هذا الوقت كان الطيب الصديقي من أهم تلك الأسماء حيث أنه ولد عام (1937) م في “الصويرة “لأسرة تهتم بالعلم والمعرفة، بعد أن أخذ شهادة الثانوية رأى مسؤولون فرنسيون نبوغ الطيب في الثانوية فعرضوا عليه استكمال دراسته في فرنسا؛ فانطلق إلى هناك لاستكمال دراسته الجامعية في الآداب. لقد وهب الصديقي حياته للمسرح؛ لأنه يتقن اللغة العربية والفرنسية حيث أختاره أستاذه الفرنسي “أندرى فوزان” ليترجم بعض المحاضرات في المسرح.وفي( 1956) م أسند لصديقي دور عام ثانوي في إحدى المسرحيات، وعلى هذا المنوال لقد تخلى بطل المسرحية عن دوره في “مسرحية جحا” بباريس بسبب المرض، فأسندت لصديقي البطولة فانبهر الفرنسيون به؛ فاختاره المسرحي الشهير “هوبير جينيو” كأحسن ممثل فأتاح له دراسة تقنيات وفنون المسرح بفرنسا. وعند رجوع الصديقي للمغرب عام ( 1957) م طلّبت منه نقابة الاتحاد المغربي تكوين فرقة “المسرح العمالي” الذي كان بمثابة بداية العمل المسرحي، التي قدّم فيها عددًا من المسرحيات أولها “الوارث”. وفي عام (1960) م طلب منه “روجي سيليس” مدير المسرح في الدار البيضاء إنشاء فرقة تتخذ من المسرح مقر لها. من هنا أعلن ولادة فرقة “المسرح البلدي”، حيث قامت بتقديم عددٍ من المسرحيات مثل: “الخنساء، مولاة الفندق “. لقد أقتبس الصديقي مسرحية “فولبون” لبن جونسون، ثم أشتغل على عدة مسرحيات عالمية. في عام ( 1962) م أنشأ فرقة باسمه، وبنى صرح “أبي المسرح المغربي “، وعليه فقد قدم مسرحيات عالمية مستلهمًا إياها من التراث المغربي والعربي الإسلامي. فكانت مسرحية ” بيكيت في انتظار كودو” أولى خطواته في اعتناق تيار العبث فعمل على جعل النص مغربيًا ليكون اسمه ” في انتظار مبروك” فكانت هذه التجربة كفيلة في إبراز مواهبه؛ فحاول في هذه المسرحية أن يحافظ على الجو العام للمسرحية وفكرتها الفلسفية.
وبناءً على ذلك شكل الصديقي فرقة مسرحية خاصة لفئة العمال تقدم عروض مسرحية؛ لكي يقترب من الواقعية، وهذا ظهر عنده في مسرحية “المغرب واحد” ففي هذه المسرحية سعى جاهداً ليؤكد اكتشاف فضاءات جديدة للعرض المسرحي، فقدم عرضه المسرحي في ميدان لمصارعة الثيران في الدار البيضاء. وعلى هذا الأساس ففي عام ( 1970) م عمل على إخراج مسرحية “الحراز” للكاتب “عبد السلام الشرايبي”، وعام (1971 ) م قدم أعمالاً مسرحيةً مثل “مقامات بديع الهمذاني، و ديوان سيدي عبد الرحمن ” بصيغة فروجية،” وهذه المسرحيات جالت في بلدان عربية وغربية، وعام(1976) م كان أخر عرض لمسرحية “بوكتف” للمسرح البلدي، وبعدها توقف الصديقي عن العمل حوالي خمس سنوات. لقد قال المخرج الفرنسي “جان فيلار” لصديقي كلمات استفاد منها الكثير وهي كالتالي :” تعلم الفن الصحيح من شعبك ” هذه الكلمات كانت لها أثرٌ عميق عليه، وعرف كيف يعمل عليها. لقد حول الصديقي المسرح إلى عرض بصري مليء بالجمال والدقة؛ وكأنه يرسم لوحة فنية معبرة عن التاريخ. ثم قام بتوظيف الموروث المغربي في تجربته المسرحية؛ فعمل على تطوير قالب الرواية القديمة، باستخدام التقنيات الغربية المتنوعة، ووظف حيل مسرحية بكل مهارة وحرفية.
لقد كان الأثر الفرنسي واضحًا في تجربة الصديقي، وتأثيره “بفوازان”، وتجلى ذلك من خلال استخدام التراث لخدمة العرض المسرحي فطوع المناهج الغربية في تجربته. وعلاوة على ذلك هو لم يقم بتقليد تجربة “جان أو فوازان”، ونقلها إلى المغربية بل عمل على تطوير تلك الطروحات في مشروع خاص به. وعلى هذا المضمار كان المسرح منذ نشأته، وما زال يمثل الفضاء الأفضل لطرح تلك الأسئلة الخاصة بوجود الإنسان، ومصيره ومستقبله من خلال سبر أغوار النفس البشرية بكل تشعباتها للتعبير عن أحلام، وآمال وطموح شعب بأكمله والتنفيس عن تخوفاته؛ وبالتالي تمكن هذا المسرح من النفاذ إلى معتقدات الإنسان الدينية والاجتماعية والسياسية والخوض في عادات وتقاليد المجتمع، وانشطته اليومية. في عام (1981) م أخرج الصديقي مسرحية “إيقاض السريرة في تاريخ الصويرة” بعدها توقف فترة ثم عاد مجدداً عام (19884)م فقدم الصديقي مسرحية “كتاب الإمتاع والمؤانسة” حيث كانت معايير المسرحية كلاسيكية ، ثم أخرج مسرحية “ألف حكاية وحكاية في سوق عكاظ”.
من أهم أعمال الصديقي كتابة أكثر من ثلاثين نصًا مسرحيًا، وترجم أكثر من ثلاثين عملاً فنيًا دراميًا، وأخرج عددًا كبيرًا من الأفلام، ومن أبرزها فيلم “الرسالة”، وقدم عددًا من الأعمال المسرحية، والسنيمائية، والوثائقية، وقدم عروضًا مسرحيةً باللغة الفرنسية داخل وخارج المغرب. لقد تولى عدد من المناصب، وأهمها مديرًا فنيًا لمسرح “محمد الخامس” بالرباط، ومديرًا للمسرح البلدي، ثم عمل وزيرًا للسياحة بين عامي( 1980_1982 ) م، وقدم اسهاماتٍ للمسرح المغربي تجعله مؤسسًا حقيقيًا للمسرح المغربي.
واستنادً إلى ما سبق فأن الطيب الصديقي ُيعدّ واحداً من أهم المسرحيين العرب؛ لأنه حقق نتائج واضحة في الفن المسرحي فأصبح ظاهرة مسرحية لها خصوصيتها، وتفردها في قراءة التراث العربي. فهو رائدًا من رواد تأصيل المسرح في الثقافة العربية على صعيد الشكل والمضمون، والتراث العربي والإسلامي بقصد إيجاد الخصوصية الجمالية، وإعطاء مادة صالحة للدراما وشكل عربي أصيل. في عام( 2005) م قدم الصديقي آخر أعماله المسرحية باسم “عزيزي” ثم مرض وتوفي عن عمر يناهز تسعة وسبعون عاماً تاركًا إرثًا مسرحًيا يجعله من مؤسسي المسرح المغربي.
د. لطيفة حسيب القاضي