الحكايات الشعبية الواقعية هي التي كانت تسعدنا، أكثر من تلك التي تتحدث عن الغول والعفاريت والأساطير المخيفة، فقد كنا نحن الأطفال في حالة خوف ورعب، ولا سيما إذا خرجنا من الحجرة المضاءة بسراج، إلى ساحة البيت التي تغمرها العتمة. وما أشد صعوبة الكوابيس الليلية التي كانت ترعبنا أثناء نومنا..!!. وكنا نقول لمن يحكي لنا هذه القصص : كيف تستطيع العودة إلى بيتك، عبر أزقة القرية المظلمة؟!. وكان يجيبنا ضاحكا: أنا لا أخاف…!!.
وعلى ضوء السراج ، وفي عَقْدٍه الواسع الذي يتوسطه كانون النار، وأثناء احتسائنا للشاي الساخن المنعنع، قلنا للخال: حدثنا عن حكايتك مع الضبع.
كان الخالُ في تلك الليلة منشرحَ الصدر، وتواقا لسرد حكايته الواقعية التي حدثت معه شخصيا قبل زمن طويل.
كنت في تلك الفترة فتى صغيرا، أعمل مساعدا لحمّال القمح، ومن كان من الأطفال يعمل في ذلك العمل، كانوا يطلقون عليه لقب ( الطقروز ).
كنت مع الحمّال وجَمَلِه، نُغَمّر القمح المحصود، في مرج ابن عامر ليلا، فقال لي الحمّال : هل تستطيع إرسال هذا الحمل من القمح إلى بيدر القرية ؟!. قلت: نعم ..!!.
ركبت الحمار، وقُدْتُ الجَمَل بحمولته، وانطلقت باتجاه الجنوب، نحو قريتي البعيدة الغارقة في الليل.
وفي منتصف الطريق، وبعد أن تجاوزت نهر المقطع، توقف الحمار الذي أركبه عن السير، ورفع أذنيه خوفا، ولم يستجب لأوامري بالتقدم. وفجأة مرّ الضبع كالبرق أمامنا، مُصدِرا صوتا مرعبا…وقف شعر رأسي ، ولم أستطع الصراخ لأول وهلة …ابتعد الضبع عنا مسافة طويلة، فواصلت السير بحذر شديد، وفجأة ظهر الضبع من جديد، فتوقف مسيرنا، و راح يقترب منا ويبتعد ، ثم نزلت عن الحمار واحتميت بالجمل ….ومضى من الليل جزء كبير ، والضبع يناور و يلاوعنا.
أصخت السمع، فتناهى إلى أذنيّ صوت أجراس لقافلة قادمة من مكان بعيد . صحت من أعماقي: ضبع ..ضبع …انقذونا …انقذونا …وواصلت الاستغاثة، وأنا خائف … وبعد أن كاد اليأس يسيطر عليّ ، سمعت الردّ من أحد الرجال: جاييك ..جاييك ( أنا قادم إليك )…لا تخف ..لا تخف…!!.
بعد فترة وصل الرجل مصطحبا قافلة من الجِمال . تقدم نحوي، وحدثته عن الضبع ، فربت على كتفي، وطمأنني ، وأسقاني ماء، و قال لي: اطمئن …سأبقى معك حتى يشرق الصباح. ولكن كيف يسمح لك أبوك بالخروج ليلا ؟ .لا زلتَ فتى صغيرا…!!. . شرحت له الأسباب ، وشكرته ، وواصلت طريقي في الصباح، وما أن وصلت أول البلد ، حتى غلبني التعب والنعاس ، فنمت تحت شجرة زيتون، وحينما صحوت وعدت إلى البيت، أصابتني حمّى شديدة أقعدتني في الفراش ،و لم أشفَ منها إلا بعد أيام .
الكاتب عبد السلام العابد