أديبة نُوبل.. التي ناصرت القضيَّة الفلسطينيَّة نادين جُورديمير

تعرَّفت «نادين جُورديمير» Nadine Gordimer على ثقافاتٍ عديدةٍ جعلتها تشعُر بقيمة الأدب، كما فهمت الحياة في القارَّة الإفريقيَّة بشكلٍ عامٍّ، ثُمَّ في جنُوب إفريقيا بشكلٍ خاصٍّ، وقد شعرت أنَّ البيض يُحاولُون محو العالم الحقيقي للأفارقة، فنشرت مئات المقالات تُندِّد فيها بالتَّفرقة العُنْصريَّة، وقدَّمت في رواياتها وقصصها القصيرة صُورًا نابضةً للحياة المُهِينَة التي يعيشُها الزُّنُوج، الأمر الَّذي عَرْضُها للكثير من التَّعنُّت، فقد تعرَّضت مُؤلَّفاتها للتَّفتيش، وصادر النِّظام العُنْصري ثلاثة من أهمّ كتبها: «عالم الغُرباء»، و «العالم البرجُوازي الأخير»، و«ابنة برجر». كما وُضعت تحت الإقامة الجبريَّة لمُددٍ طويلةٍ، وعلى الرَّغم من ذلك تسلَّلت كتبها إلى النَّاس، وعَبَّرَت الحُدُود، وتُرْجمت إلى العديد من اللُّغات، وفازت بجائزة نُوبل في الآداب.

إنَّ عُمْق الرِّواية يكمُنُ في قُدْرتها على طرح أسئلةٍ حول كُلّ شيء، فهي بالتَّالي لا تُقدِّم ولا تمنح أيَّة إجابات، لذا فإنَّ فعل الكتابة بالنِّسبة للأديبة الجنُوب إفريقيَّة «نادين جُورديمير» هُو استكشاف الحياة، وعليه تَقَدُّم للقارئ أعمالًا مفتُوحةً، تختار شخصيَّاتها في وقتٍ مُحدَّدٍ من عُمْرهم ثُمَّ تترُكُهُم عندما يكُونُون قد وصلُوا إلى نُقطةٍ أُخرى من حياتهم، إنَّها تكتُب عمَّا تَعَرُّفُه، وعمَّا تستطيع أنْ تَعًلَّمَه، الحياة الإنسانيَّة الكاملة بالنِّسبة لها هُو ما يصنع لُبَّ الفنّ بصرف النَّظر عن اللُّغة أو المكان الَّذي يَكْتُب فيه المٌبدع.

وُلدت «نادين جُورديمير» في20 من نُوفمبر عام1923 م، بمدينة «سبرنجُو» الَّتي تقع شمال «جُوهانسبرج». كان والدُها يعمل في أحد المناجم بـــــــ «ليتوانيا» الَّتي تركها ورحل إلى جنُوب إفريقيا، أمَّا والدتُها فهي من أصل بريطاني.

تقُول «نادين» عن طُفُولتها: «بدأت الكتابة في التَّاسعة من عُمْري، وكان حلمي أنَّ أُصبح راقصة باليه، وبدأت أتدرَّب على الرَّقص مُنْذ سنّ السَّادسة، وبعد ثلاث سنوات تعرَّضت لمشاكل في القلب، فأمرني الطَّبيب بأن أمتنع عن الرَّقص ولزمت الفراش، وأظُنُّ أنَّ هذا الطَّبيب كان مُخْطِئًا، فقد عشت حتَّى الآن وأنا مليئة بالحركة.. إنَّ هذه الرَّاحة الإجباريَّة جعلت الكتابة حياتي».

عالم «نادين جُورديمير » الرِّوائي الثَّري :

في عام 1949 م نشرت أوَّل مجمُوعة قصصيَّة بعُنْوان «وجهًا لوجه» Face to Face، وفي عام 1952 م نشرت مجمُوعة أُخرى بعُنْوان «فحيح الثُّعبان الرَّقيق» The Soft Voice of the Serpent، وفي العام التَّالي نشرت رواية «الأيَّام الكاذبة» The Lying Days، التي تروي فيها عن سُوء مُعاملة البيض للمُلوَّنين، لدرجة أنَّ البطلة «هيلين شُو» تتغيَّر قناعاتها عندما ترى رجُلًا مُلوَّنًا يمُوت مقتولًا على يد أحد رجال الشُّرطة البيض.

وفي عام1958 م نشرت رواية «عالم الغُرباء» A World of Strangers، وهي تحكي عن ناشر بريطاني يُسافر لجنُوب إفريقيا، حيث يُصدم في موت صديقه المُناضل الأسود «ستيفن» في ظُرُوفٍ غامضةٍ.. لقد كشفت هذه الرِّواية القناع عن زيف الليبراليَّة البيضاء، وعرَّت سيادة النَّزعة العُنْصُريَّة.أمَّا رواية «فرصة للحُبِّ» Occasion for Lovingفقد نشرت في عام1963 م،حيث البطل «تو » الَّذي يُحاول كتابة تاريخ القارَّة السَّمراء من وُجْهة نظر السُّود.

وتُناقش «نادين» في رواية «العالم البُرْجُوازي الأخير» The Late Bourgeois World الَّتي صدرت في عام1966 م، المبادئ المثاليَّة السَّاذجة، والرُّومانسيَّة المُزيَّفة للمُخرِّبين، وهُمْ بالتَّحديد: جيش الشَّباب الأبيض. لقد كانت النَّغمة الرَّئيسة المُسيطرة على أحداث الرِّواية: إسقاط الأوهام.

أمَّا رواية «ضيف شرف» A Guest of Honourالَّتي صدرت في عام1970 م، فتكشف فيها عن آليَّات النِّظام الاقتصادي والاجتماعي للاستعمار الجديد. وفي عام 1979 م نشرت «نادين جُورديمير» رواية «ابنة برجر» Burger’s Daughter، حيث البطلة «رُوز» الَّتي يمُوت والدُها المُناضل في السِّجن، والَّتي ينظُر النَّاس إليها بالتَّقدير لأنَّها ابنة المُناضل وليس لشخصها، وعندما تذهب إلى أُورُوبا وتلتقي ببعض المُناضلين الَّذين يُحدِّثونها عن والدها بالكثير من الحُبِّ والتَّقدير، تعُود إلى وطنها وقد قرَّرت أنْ تُصبح مُناضلة مثل أبيها.

وفي عام1981 م صدرت رواية «شعب يُوليُو» July’s People، وهي تدُور حول زوجين من البيض يهربُان إلى الحُدُود عقب اشتعال ثورة للزُّنُوج، وهي ثورةٌ من خيال الكاتبة، وفي هذه الرِّحلة العصيبة يلعب الخادم الأسود دور المُرشد والقائد، الَّذي يسُود في النِّهاية لأنَّه الوحيد الَّذي يعرف الطَّريق.

وتوالت بعد ذلك رواياتها، ففي عام1984 م صدرت رواية «شيء ما هُناك» Something Out There ، ورواية «نزوة الطَّبيعة» A Sport of Nature في عام1987 م، حيث كشفت عن المُشكلات الَّتي أظهرها الوعي الأسود الجديد، وفي عام 1991 م نشرت رواية «أقفز»Jump .

وتُطلّ «نادين جُورديمير» على قُرَّائها لتُثر دهشتهُم بمجموعتها القصصيَّة الجديدة «أيَّام الحياة» Get a Life الَّتي تُغطي فترة زمنيَّة تقترب من السِّتَّة عُقُود في وطنها جنُوب إفريقيا، فهذه المجمُوعة تضُمُّ قصصًا كتبتها مُنْذ عام1952 م وحتَّى عام 2007 م، فيما تُظهر هذه القصص الغضب العارم للكاتبة على الجور والظُّلم.

وكما تقُول النَّاقدة «ناتاشا تريبني» Natasha Trybeny في صحيفة الأوبزرفر Alphabet البريطانيَّة فإنَّ هذه المجمُوعة تُبرهن على أنَّ «نادين» تُثبت مُجدَّدًا قُدْرَتها الفذَّة على المُلاحظة والتقاط الحقائق والإشارات الدَّالَّة على مُعترك الحياة.

كما نشرت في عام2007 م مجمُوعتها القصصيَّة «بيتهوفن كان الأسود السَّادس عشر» Beethoven Was One-Sixteenth Black ، حيث تُواصل مشرُوعها الأكثر حداثة، وهُو المشرُوع الَّذي نرى من خلاله انحسار الموضُوعات المُتعلِّقة بالعُنْصريَّة، فقد صار تُراث التَّمييز العُنْصري لاعبًا أقلّ تأثيرًا، وأكثر هُدُوءًا، لكنَّه يبقى ملحُوظًا، فالقصص تبدُو وكأنَّها تتقاسم وعيًّا بالكيفيَّة الَّتي يتسرَّب بها الماضي إلى الحاضر بشكلٍ لا مفرَّ منه.

الفوز بجائزة نُوبل في الآداب:

اكتسبت «نادين جُورديمير » شُهرة عالميَّة بسبب قيمتها الرِّوائيَّة، ومواقفُها من مُناصرة قضايا الزُّنُوج، فحصلت على العديد من الجوائز الأدبيَّة الرَّفيعة، منها: جائزة «سميث» التي تَمْنَحُها دُول الكُومُنْولث، وجائزة «بوكر»، الَّتي تُعدُّ أهمّ جائزة أدبيَّة تمنح في بريطانيا عام1974 م.

وهي من الأسماء الأدبيَّة الَّتي ظلَّت تتردَّد لعشر سنوات قبل أنْ تفُوز بجائزة نُوبل في الآداب عام1991 م. والغريب أنَّ وسائل الإعلام الغربيَّة قد ذكرت ضمن تعريفها للكاتبة عقب فوزها بأنَّها يَهُوديَّة، رغم أنَّ هذه الصِّفة لم تبرز قطّ في كُلِّ ما كتبت، ولم تُبْد هذه السِّمة في أدبها على الإطلاق، فهي كاتبةٌ إنسانيَّةٌ بمعني الكلمة من شُمُوليَّة وعُمق.

ولقد أشادت لجنة تحكيم الجائزة بمُستواها الفنِّي الرَّفيع، ووصف خطاب ترشيح الأكاديميَّة السُّويديَّة الكاتبة، بأنَّها: «تكتُب بشكلٍ مُكثَّفٍ وبصدقٍ عن الجوانب الشَّخصيَّة بالغة التَّعقيد، والعلاقات الاجتماعيَّة في الأوضاع الَّتي تحياها».

وقد هنَّأها «فريدريك ويليام دي كليرك» Frederik Willem de Klerk (1936- 2021م )، الَّذي كان يترأَّس جنُوب إفريقيا آنذاك، ووصفها بأنهَّا إنجازٌ غير عادي، وجائزةٌ تُشرف جنُوب إفريقيا بلا شكِّ. ويُعدُّ هذا من دواعي السُّخرية؛ لأنَّ الكاتبة حازت الجائزة بسبب نقدها اللَّاذع لنظام «دي كليرك» السياسي العُنْصُري !!

ناصرت «مانديلَّا».. ودافعت عن القضيَّة الفلسطينيَّة :

وكما ناصرت الزَّعيم الرَّاحل «نيلسُون مانديلَّا» Nelson Mandela (2013-1918م) ــــ وقد شغل منصب رئيس جنُوب أفريقيا في الفترة من عام 1994م حتَّى عام 1999م، وكان أوَّل رئيس أسود لجنُوب أفريقيا، اُنْتُخِب في أوَّل انتخابات مُتعدِّدة ومُمثِّلة لكُلِّ الأعراق ــــــــ إبان سجنه، فإنَّها آمنت بالقضيَّة الفلسطينيَّة، وقد عرضت وُجهة نظرها في مواقف عديدةٍ، وأحاديث صحافية شتَّى، تنتقد بشدَّةٍ ما يحدُث ضد الفلسطينيِّين من مُمارساتٍ قمعيَّةٍ، لقد قالت بوُضُوحٍ: «إنَّني أؤمن بحقِّ الفلسطينيِّين في أرضهم، وأُساعد القضيَّة الفلسطينيَّة بكُلِّ وُسْعي، وأُدافع عنها بالفعل وليس بالكتابة فقط، ولا يُوجد مَنْ يُمْلي عليَّ ما أفعلُه».

هذا.. وقد رحَّلت الكاتبة العظيمة عن دُنيانا في الثَّالث عشر من شهر يُوليُو عام 2014 م عن عُمْر يُناهز91 عامًا.

الكاتب والباحث وفيق صفوت مختار

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *