أرفع أسمى آيات التهاني والتبريكات للدكتور فضيل عبد الله على اصدار مؤلفه الجديد، الذي تضمن: توطئة وثمانية عناوين وخاتمة امتدت على مائة وأربع وسبعين صفحة من القطع الوسط، بدأها بطرح فكرة المواطنة من خلال استنهاض التراث لتأسيس حراك ثقافي وثورة أدبية تحمل لواء التغيير والتحديث، وختمها بالدعوة الملحة للثقافة والقراءة من أجل تحصين الذات. حمل الكتاب عنوان: أرباب الأدب المقاوم في ثورة الابداع، وفيه اشارة لإدخال الجيل الجديد ضمن الدائرة الثقافية والثورة الإبداعية من خلال التوعية الثقافية والرؤية الواقعية والعمل الإبداعي للتصدي للفكر الانهزامي وذلك بالتركيز على أسماء أضاءت عالم حاول العدو الصهيوني جاهدا تعتيمه بوسائله العسكرية والسياسية والإعلامية والثقافية.
حمل غلاف الكتاب صورة حنظلة، ذلك الطفل الذي يبلغ العاشرة من عمره، مكتف اليدين إلى الخلف وحافي القدمين، المتمرد الذي رفض التنازل عن مبادئه، وهو يكتب كلمة دراسات ثقافية.
1-عمل الكتاب على جمع أسماء بعض المثقفين الذين حملوا راية النضال وأخذوا مسؤولية التعبير عن مآسي شعبهم وطرحها أمام الأجيال للأخذ بها والانطلاق منها في ابداعات جديدة وزرعها في وعيهم وثقافتهم فتكون قاعدة ثابتة تبني عليها وأثر يحتذى به وعلامة يهتدون بها حتى لا يحيدوا عن طريق النضال والتحرير.
2-ان الأدب المقاوم اتجاه قديم وليس مشروعا وليدا فهو عميق الجذور في تراثنا العربي إلا أنه ازداد تخصصا على مر السنين ومع تطور الأحداث على طريقة الانتقال من العام إلى الخاص، فقد عرف الشعر العربي قديما صورا عديدة من صور المقاومة الأدبية كسييفيات أبي الطيب المتنبي وروميات أبي فراس الحمداني، ولم يكن الأدب يوما في منأى عن مواجهة العدو والحروب الصليبية التي امتدت نحو قرنين من الزمن على أرض الشام وامتدت على الساحل الشامي واحتلت فلسطين وأجزاء من شرق الأردن وصولا إلى الاحتلال الإسرائيلي، عندما طرأ على مفهوم الأدب المقاوم تعديلا أسس له الأدباء الذين عاشوا النكبة وتفتحت تجاربهم الشعرية على وقع الأحداث فعملوا على تأسيس المفهوم الحديث للأدب المقاوم، فكان لهم دور كبير في الإضاءة على ما حدث على أرض فلسطين من انتهاكات وعمليات نهب وسرقة وقتل، إضافة إلى التعبير عن حبهم لوطنهم وفدائهم له ومشاعر الفقد والتهجير والشوق للأرض والعيش في المخيمات.
يبدأ طريق البحث عن الابداع والاسهام في المشهد الثوري المقاوم من التراث ويستند عليه مع الوعي التام بضرورة النظر إلى التراث من منظور نقدي منتج للمعرفة وليس من منظور تقديسي.
3-تحدث الكاتب عن أدب السجون عندما حاول الأسرى جاهدون على نقل تجربتهم إلى العالم الخارجي من خلال أدب مليء بالتضحية والفداء والعزة حيث عكس الحياة والمعاناة اليومية كما ينقل تحدي الأسير لأساليب القمع والوحشية التي تمارس ضدهم والتهويل والتضخيم العدائي وكان من هؤلاء المبدعين وليد الهودلي وسهام البرغوثي، وهناك من حاول نقل تلك المشاعر والمعاناة داخل السجون برموز بسيطة هي أيضا تذكر باللوحات التصويرية التراثية البسيطة التي اعتمدت على الرموز في التعبير عما تريد فيرسم الأسير رموزا بسيطة يقصد بها معناة كبيرة كالأسلاك والقضبان الحديدية كما فعل عيسى عبيد.
ولا يتوقف أدب السجون عند الجانب المؤلم بل انه يأتي بالجانب المفرح فيؤكد على النصر بعد التمسك بالوحدة والحرية، ولا تحرير بدون التوافق المصيري بين أبناء الأرض المحتلة وفي هذا عودة إلى الأخلاق والتقاليد العربية في حين نجد الأدب الصهيوني الذي يفتقد للقاعدة التراثية أدبا عدوانيا نشأ على التعبئة الصهيونية واتسم بالعنف والإرهاب لتحقيق هدف بعينه وهو سلب الأرض واحتلالها.
4-وقد واكب الفن التشكيلي القضية الفلسطينية منذ النكبة وسار معها في كل مراحلها ولم يبقى خلف القضبان فكانت رسومات ناجي العلي بيانات سياسية يومية واكبت الهم الفلسطيني والقومي والعربي، وحاكت الذهن الشعبي، ولامست القلب والوجدان وحركت المشاعر الإنسانية والعربية والوطنية، بالرغم من خلوها من العمق والأبعاد وقربها للفن الشعبي، وحملت صفات اللوحة التشكيلية الغرافيكية والاعلان السياسي.
كما نجد في رسوماته تحديث للأسلوب الساخر الذي استخدم في مسارح الظل للسخرية من الواقع المعاش ومناهضة الذل والاستسلام والبحث عن جوهر الصراع للوصول للقيم والمفاهيم والحقائق والمبادئ.
استطاع ناجي العلي أن يجعل الفن خادما لقضيته فشهد له العالم بأسره على براعته وقراءته الموضوعية للحدث من خلال رموزه التي ابتكرها ليعبر من خلالها عن طموح البسطاء والمنكوبين وعن ألامهم وآمالهم، كما حارب برموزه التطبيع وطالب بفلسطين كاملة، بقصد ترميم الوعي عند الانسان العربي والارتقاء بهذا الوعي إلى حدود المسؤلية.
5-أما ادوارد سعيد الناقد والسياسي والموسيقي فقد حمّل ابنته نجلاء مسؤولية العمل من أجل الأفضل فوضعها على طريق سبقها إليه بعد أن تحلى بآدابه وأخلاقه ورسم لها نهجا تسير عليه بأسليبها المبدعة والمستحدثة، في عملها من أجل الأخرين ومن أجل فلسطين، هكذا ينتقل التراث عبر الأجيال ويتطور بحسب الواقع المعاش وبهذه الطريقة يسير.
6-ورصد غسان كنفاني واستفاد من الأحداث اليومية التي كان يعالجها قصصا ومسرحا ورواية وتحليلا سياسيا ونقدا أدبيا موضحا من خلال ما سبق رؤيته الثاقبة في نبش سراديب القضية الفلسطينية. وقدمها للجيل الجديد الذي تبنى فكره الأدبي وقلمه المقاوم وريشته الفنية وصورته الإنسانية، ليعلمه أن يصرخ بوجه الاحتلال وأن يرفع كلمته في مواجهة الغطرسة والذبح والاعتقال والابعاد وقتل البشر وقلع الشجر وشطب الهوية الوطنية وسرقة التراث.
7-واعتمد محمود درويش على الأساطير وحكايات الجدات لنسج أساطيره التي حملت حكايات شعبه وأحلامه ونشر من خلالها قصة الفلسطيني مع من اغتصب أرضه وحقه وتاريخه وتراثه، وحرمه العيش في موطنه وبيته وحقله وحرمه حق العودة لأرض صباه التي تعلم فيها حرفه ولغته.
8-وحين كتب الأديب رضوان فلاحة واستبعد الأساطير والأحلام المشوشة لينفتح على الحداثة والابداع بقي مرتبطا بالأصالة متمسكا بمدرسة النضال الثقافي العربي الفلسطيني كما فعل من سبقه من أرباب الأدب المقاوم.
9-ولا تزال الأرض هي المحبوبة التي سكنت قلوب الشعراء فتغزلوا بها وتغنوا بجمالها فرأوا محبوبتهم من خلالها وشبهوها بها كما تغنى الشاعر محمد الخضر بأرضه فكانت محبوبته وحياته ودنياه، فقدم مدرسته الكلاسيكية الحديثة من خلال القصيدة العامودية وقصيدة والتفعيلة، فكان شعره عروبيا رفع به هويته الشامية فخرا واعتزازا وتأكيدا على الانتماء.
10-واعتاد الكاتب علي عقلة عرسان في كتاباته عن أرضه وقضيته أن يربطها بتاريخها القديم وتراثها المتناقل عبر الأجيال ليجد في صراع الزمان والمكان صراع روائي معاصر تتداخل فيه الجوانب السياسية والإنسانية والفكرية والأخلاقية والوطنية والجمالية.
11-أما عن حظ المرأة فقد كان منقوصا في كتاب الأستاذ فضيل بالرغم من دورها الهام في الأدب المقاوم، وهي من تقف دوما إلى جانب الرجل في النضال العسكري والثقافي على حد سواء فكانت الشهيدة والأسيرة والجريحة والفاقدة والمناضلة والممرضة والداعمة في ساحات الوغى. و في الساحة الثقافية: استطاعت المرأة أن تصور آلام شعبها وما تعرّض له من مآسي يندى لها الجبين ، وهناك من حولت السجن إلى ساحة نضالية فكان لأدب السجون نصيب منها كالكاتبة عائشة عودة والمناضلة رسمية عودة اللتا قدمتا سيرتهما الذاتية وتحدثتا فيها عن معانتهما في الأسر وتعذيبهما خلف القضبان.
وهناك من النساء من كتبن في حب الوطن والتشبث به كفدوى طوقان وسلمى داود جبران كما كتبت سلمى الخضراء الجيوسي الشعر والرواية والكتب الأكاديمية التي وثقت من خلالها الأدب الفلسطيني الحديث.
وهناك العديد من الفنانات في مجال الفن والرسم اللواتي أسهمن في إقامة المعارض التي حملت عنوان المقاومة والنضال كفجر ادريس وغيرها ممن عملن بجد على النضال بالريشة والألوان بأسلوب حداثي مبدع.
مما سبق لايمكن للعمل الثقافي الأدبي والفني المعاصر أن يكتمل إلا إذا تكامل مع الحركة النقدية الأدبية لتخلق ثقافة جديدة تنذر بأسلوب أدبي نضالي ثوري جديد. فكيف إن كان الحديث عن قضية وطن وأرض مسلوبة واكبت العصور القديمة واستمرت إلى اليوم.
فكان على الأديب المبدع الثوري أن يعيد النظر بما سمع وقرأ وتعلم من تجارب تراثية غنية سابقة ليعتمد عليها ويبني فوقها فيكون منتجه منفتح نحو الحداثة المتوازنة القادرة على اقتحام معارك الفكر والابداع ليكون قادرا على حمل قضيته ورفع رايته النضالية الثورية والاستمرار بها وتناقلها عبر الأجيال.
قراءة نقدية.
د. نجلاء الخضراء