أزمة الإنسان بين الرؤية الإسلامية والمأساة الإغريقية

مدخل:


يمثل الجهاز الإدراكي للإنسان وسيلة الاتصال الرئيسة بينه وبين العالم؛ فالمناطق المركزية للفكر والشعور التي يمثلها كل من العقل والقلب تجد في الحواس الخمسة (السمع، البصر، اللمس، الشم، التذوق) أدوات تعينها على استقبال ما يجري في العالم، وتحويله إلى نتائج مجردة تسكنها، هذه النتائج والمكان الذي تسكنه تسمى بالوعي()، وبناء على هذا الوعي العاكس لحاصل تفاعل الإنسان عقلا وقلبا ومعهما جوارحه الخمسة مع عالمه تتحدد شكل الحياة التي يحياها هذا الإنسان، التي يمكن تقسيمها إلى قسمين كبيرين:
– حياة سعيدة
– حياة مأساوية


إن الإنسان الجنس الذي تمثل الكرة الأرضية بالنسبة إليه الإطار المكاني الحاضن لعمله؛ على الرغم من تشعبه وانتشاره وعدم انكماشه أو تجمده في جزء بعينه من ذلك الإطار فإن الحياة بنمطيها: السعيد والمأساوي تمثل قاسمًا مشتركًا جامعًا لكل عناصره، مهما اختلفت ثقافتهم أو لغتهم أو معتقدهم، لكن يبقى السؤال الذي يطرح نفسه: ما النوع الغالب والمهيمن الذي يسم حياة الإنسان بصفة عامة؟


إن الإجابة عن هذا النسق التساؤلي تقتضي حركة في اتجاهين؛ الأول شديد العمومية والشمول بسؤال كل فرد على حدة من أفراد العنصر البشري بناءً على مسيره في رحلة العمر وما نتج عنها من تجارب وخبرات تركت أثرًا في تكوينه وفيما تشكل من مواقف وأحوال تحمل نظرته للعالم الذي يعيشه وللحياة عمومًا، الاتجاه الثاني اتجاه بحثي معرفي يرتبط بالذهاب إلى ما رصدته الثقافة الإنسانية بتجلياتها المتنوعة المتصلة بكل مجموعة بشرية تعيش في إطار مكاني وزماني وتحتكم في فكرها وأداءاتها السلوكية إلى مرجعيات تتصل بالدين المنزل من السماء، أو ما يسمى بالديانات الوضعية، أو ما اتُفق على تسميته بالعادات والتقاليد الاجتماعية التي كثيرا ما يطرأ عليها التغير مع حركة الزمن وتغير أحوال الناس.


إن محاولة بلورة موقف فكري إذًا إزاء هذه الحالة يأتي وثيق الصلة بلا شك بمعطيات ثقافية ذات مرجعية قد تكون مرتبطة بالمعتقد وقد تكون مرتبطة بأبعاد معرفية أرضية تشكلت في ضوء حقول معرفية كحقل الفلسفة على سبيل المثال، ولا شك في أن الغربة، ذلك المفهوم بكل حمولته الدلالية التي تنضوي تحت تركيبه اللغوي الظاهر تعد حالة مميزة للجنس البشري، منذ نزل آدم الإنسان الأول على الأرض مغادرًا جنة كان يحيا فيها حياة الرخاء والسعادة والنعيم؛ فالشعور بالاحتياج الذي يصاحبه رغبة ملحة في الحركة والبحث والاستكشاف بغرض الحصول والتحقق وإدراك مبدأ اللذة يمكن القول إنه بمثابة حالة مضارعة تقوم على التجدد والاستمرار ولا تعرف التوقف المطلق أو الانتهاء؛ فالإنسان يحد بناؤه الحياتي على الأرض محددات تتجلى في:


– دافع أو رغبة مرتبطان بمناطق السيطرة الإدراكية عنده (العقل والقلب).
– فعل يتشظى في: حركة، قراءة تتوسع في ماهيتها ولا تقتصر على المعنى التقليدى المتعارف عليه، أداء عملي باستخدام الجوارح وباقي القدرات العضلية الجسدية الأخرى.
– غاية تعني الإدراك، الإنجاز، الوصول.
ومحاولة فهم جوهر تلك الحياة التي تمضي بذاك الإنسان بدقة وبيان هويتها مرهون بالتأمل في الغاية، التي يمكن الوقوف عليها عبر وجهين لها:


الأول: الإثبات بأن يصل هذا الإنسان الساعي الرحال إلى ما يصبو إليه.
الثاني: النفي بأن يواجه عثرات وعقبات وموانع تحول بينه وبين الوصول.
وبالنظر المتأمل في الوجه الثاني للغاية فإن الأمر يبدو منطقيًا مقنعًا في محاولة تبرير الشكل المأساوي الذي يغلب على حياة العنصر البشري بناءً على ذلك، لكن ماذا عن الوجه الأول؟ إن الإنسان قد يصل إلى منطقة إشباع وتحصيل لغاية قد سعى إليها، نعم، لكن السؤال الأهم؛ هل يمثل هذا الوصول أو الحصول حد انتهاء مطلق، عنده يمكن القول: إنه بمقدور الإنسان أن يضمن لنفسه حياة بهيئة واحدة فقط فردوسية الطابع، يرجوها ويحرص عليها ويتطلع إليها منذ خرج من جنته وهبط إلى الأرض؟


الإجابة ستكون بالطبع بالنفي؛ فما يدركه الإنسان الجنس في حقيقة الأمر لا يعدو أن يكون غايات يمكن نعتها بالجزئية أو العارضة أو المؤقتة التي سرعان ما يتجاوزها هو أو يتجاوزها عالمه وواقعه الذي يحياه، أو ينتهي تأثيرها وحضورها الفاعل؛ فتصير الحاجة إلى الحركة وما يستتبعها من شعور بنقص وحرمان وما يصاحبها من طوارئ يواجهها، قد يجد فيها عنتًا ومشقةً وألمًا، وغير ذلك بمثابة مرأة عاكسة كاشفة ذلك الارتباط الوثيق بين الحياة في وجهها المأساوي وما يعلله بالنظر إلى منطقة الغاية التي تمثل محطة وصول بالنسبة للإنسان.


الرؤية الإسلامية:


وإذا نظرنا إلى القرآن الكريم نجده في مواضع يشير إلى هذه المسألة المتعلقة بالحياة؛ ففي سورة البلد آية معبرة عن هذه الحال التي لا تقتصر على زمن دون غيره أو مكان دون آخر؛ ومن ثم لا تتصل بجماعة دون غيرها؛ ألا وهي قوله تعالى: ” لَقد خَلَقْنَا الإنسانَ في كَبَد“()؛ إن مفردات المعاناة والألم والشدة وغيرها مما يلقي بظلال سلبية على الإنسان عمومًا يأخذ ويحيل إلى ذلك الوجه الأثير الوجه المأساوي، ويعزز ذلك قوله تعالى: ” قُل متاعُ الدُّنيا قليلٌ والآخرةُ خيرٌ لِمَن اتَّقى ولا تُظلَمُون فَتِيلا“()
إذًا نحن بصدد كَبَد قد يكون من أماراته ذلك القليل على المستوى الكمي الذي لا يفي بمتطلبات ذلك الإنسان وأحلامه وعلى المستوى الكيفي الذي قد لا يرتقي إلى مستوى ما حلم به وتمناه وسعى إلى إدراكه؛ ومن ثم تتأكد جليةً تلك الحالة المهيمنة الغالبة على حياة العنصر البشري كله؛ ألا وهي الغربة.


– المأساة الإغريقية:


وإذا نظرنا إلى ما طرأ على الفلسفة القديمة من تطورات وتغيرات؛ خصوصًا بعد سقراط وأرسطو نجد أن محاولة وضع تصور يوضح كُنه الحياة وما يجب أن تكون عليه، والحديث عن اللذة واقترانها بالفضيلة وكيف يمكن الوصول إليها كان حاضرًا ومحل اهتمام إذا ما تابعنا بإمعان واستقراء هذين الاتجاهين؛ الاتجاه الرواقي في الفلسفة أو المدرسة الرواقية ومؤسسها زينون السيشومي، والاتجاه الأبيقوري، أو المدرسة الأبيقورية ومؤسسها أبيقور().


وما دمنا قد أشرنا إلى الفلسفة اليونانية، فإنه يمكن القول إن التعبير الرمزي الأسطوري عن طبيعة حياة الإنسان والشكل المأساوي الغالب عليها يتجلى في سيزيف وصخرته الشهيرة، ذلك الذي غضبت عليه آلهته جراء ما ارتكبه من آثام في حقها بناءً على الرؤية الأسطورية القديمة؛ فكان الجزاء تلك الصخرة الذي عليه أن يحملها ويصل بها إلى أعلى قمة الجبل حتى إذا ما وصل أو قارب على الوصول تتدحرج الصخرة وتسقط إلى الأسفل، ويكون لزاما عليه أن ينزل ليرفعها من جديد، وهكذا في عملية لا توقف لها ولا انتهاء بنجاح يتحقق()؛ في إشارة إلى تلك الحالة المضارعة التي تحدثنا عنها في بداية تلك الورقة المقالية المتمثلة في حالة الشقاء والمعاناة المستمرة والمتواصلة الحضور مع العنصر الإنساني على هذه الأرض.


لكن هذا الوجه على الرغم من آثاره السلبية فإنه يعد بمثابة مانح يمنح الإنسان (الفرد/الجماعة) الطاقة اللازمة للحركة لمحاولة تغيير ما يترتب عليها، وفي هذه الحركة يمكن تفسير ما يقيمه الإنسان ويقدمه من رصيد تجليه هذه المفردة (الحضارة)؛ فمنطقة الاحتياج وما يصاحبها من ألم ومعاناة تعد منطلقًا ودافعًا للحركة من أجل التغيير وإدراك النقيض، ولولاها ما كان للإنسان أن يدرك ما أدرك من منجزات يستعين بها في مساعيه الرامية دائمًا إلى جعل الحياة بمقومات تتيح له القدرة على الاستمرار والعيش.


يأخذنا هذا إلى قناعة تمثل جوهر فكرة هذا المقال؛ إن الصراعات التي نشأت وتنشأ على الأرض مع تعارض المصالح وتباين الغايات وضعت أفراد العنصر البشري أمام امتحان قاسٍ للغاية، يفضي إلى تساؤل مهم؛ هل ما بين أفراد العنصر البشري من اختلاف ثقافي، عقائدي، لغوي، بيئي بالنظر إلى مكان وطبيعته وخصوصيته على المستوى الاجتماعي، وزماني يكون مدعاة إلى التقارب والتعارف، وإكمال الناقص؛ فما كان عند الآخر تفيد منه الذات، وما كان عند الذات يفيد منه الآخر؟ أم أن ذلك الاختلاف يكون مدعاة للخصام والعزلة اللذين قد يتطوران إلى عداء يتحول إلى ما نراه من حروب دامية على كوكبنا لا تتوقف طبولها منذ نزل آدم إلى الأرض؛ إن الله سبحانه وتعالى يقول في القرآن الكريم:


” يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ”().

إن الرؤية الإسلامية للاختلاف تدفع إلى التعارف، لا إلى النفور والعداء.

أ. د. أحمد يحيى علي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *