عندما نتحدّث عن الأزمة، فإنّنا لا نشير إلى أزمة سياسية مرتبطة بظرف مرحلي أو اختلاف في الرؤى السياسية أو البرامجية لبعض القوى الفلسطينية الفاعلة ميدانيًّا، إنما نتحدّث عن أزمة بنيوية مرتبطة بمقدّمات أو مسلَمات فكرية- سياسية أوليّة قام على أساس منها العمل الوطني الفلسطيني، مقدّمات تحكَمت في رؤية الفصائل الفلسطينية منذ بداية عملها في منتصف الستينيات، و امتدَتْ آثارها إلى يومنا هذا، لكن بدايةً لنحاول تحديد هذه الأزمة و تشخيصها و طرحها بوضوح على بساط البحث.
تعود جذور مشروع التسوية في العمل الفلسطيني إلى مراحلٍ مبكرة، فعلى إثر حرب تشرين التحريريةفي العام 1973 تقدَم الإتحاد السوفييتي حينها بمشروع بريجنيف لتسوية القضيّة الفلسطينية، هذا المشروع تمت الموافقة عليه في الدورة الثانية عشر للمجلس الوطني الفلسطيني، وقد لقي في حينها معارضة من بعض الفصائل الفلسطينية التي ما لبثتْ أن توافقت عليه في صيغة البرنامج المرحلي لمنظمة التحرير المتمثّل في حل الدولتين عام 1979. إذا عُدنا بالذّاكرة إلى تلك المرحلة فقد كان الشّكل المطروح لتطبيق هذه الرّؤية هو الدعوة إلى مؤتمر دولي و إقرار حلِّ الدولتين، و عند النظر إلى هذا الأمر نكتشف أنّ المعوَل عليه في تحقيق هذا النموذج من التسوية السياسيّة هو الثقل السياسي للإتحاد السوفييتي و دول المنظومة الاشتراكيّة في حينها، أي ثقل عامل خارجي دولي ،لا ثقل وقائع ميدانيّة داخلية تجعل من الخصمِ يوافق على هذه التسوية، و هذا الأمر على واقعيته في حينها ،لكنه كما تبيّن لاحقًا غير مُجدٍ في حالة الصّراع مع الكيان الإسرائيلي لخصوصية العلاقة التي تربط هذا الكيان بالمنظومة الدوليّة و طبيعة تحالفاته المعقدة منذ نشأته كفكرة إلى أن تحوّل واقعاً متحققاً. هذا التصور للتسوية السياسيّة أخذ أشكالاً مختلفة من التطورات لاحقًا عبْر مبادرات مختلفة و في ظروف سياسية مختلفة لكنه كان في كلِّ الأحوال محكومًا لتوازنات العالم ثنائي القطبيّة.
مع انهيار الإتحاد السوفييتي وقيام نظام عالمي جديد أ؟أحادي القطبيّة، لم ينهرْم مشروع التّسوية ظاهريًا، إنّما تم تعديل مرجعياته الدولية في مؤتمر مدريد، لتصبح رغبة النظام الدولي الجديد في فرض أنموذجه للعلاقات الدولية و لحل النزاعات الإقليمية هي مرجعية إتفاق “أوسلو” التي لم تجد نفعاً خلال ما يقارب عقدين من الزمن
كما لم يُجْدِ نفعاً ما سمّي رؤية بوش و لن يُجدِ نفعًا ما يمكن تسميته اليوم إلتزامات أوباما أو غيره، و السبب ببساطة هو أنّ عدم اكتمال مقومات و مقدمات أيّ رؤية للتسوية يمكن للطرفين أن يجِد فيها خروجاً من واقع قد يعود بضرر أكبر عليهما إن لم يُقدما على هذه التّسوية. إنّ قيام كيان فلسطيني بالشّروط التي يريدها الفلسطينيون هو في المفهوم الإسرائيلي خطر على مستقبل إسرائيل، وإسرائيل لن تقبل بمثل هذا الخطر إلا تفاديًا لخطر أكبر منه لا يبدو أنّ ملامحه العملية الواقعية قد اتّضحت إلى تاريخ يومنا هذا.
إنّ ما ينطبق اليوم على تصورات القيادة السياسية لمنظّمة التحرير بشأن عملية التسوية، .
إنّ مشروع التسوية مأزوم و ليس له أيّ مستقبل في العمل السياسي الفلسطيني إذا لم تحصل تغيّرات جذريّة تجعل من هذا المشروع مشروعاً قابلاً للتطبيق من حيث المبدأ، ثم تأتي بعد ذلك كلّ القضايا التفصيلية التي لها علاقة بطبيعة التّسوية وشروطها و غير ذلك من التفاصيل المهمّة، لكن ما نريد أن نثبته هو أنّ مشروع التسوية السياسية هو مشروع غير ممكن اليوم و هذا ما أثبتته التجربة العمليّة بعد ثلاثين عاماً من المفاوضات.
الباحث محمد محمود الساعدي