ألبوم الصور قصة قصيرة ل د. سعيد محمد المنزلاوي

      كان وجه السماء قاتمًا، في أواخر شهر نوفمبر، ما أيقظ في نفسها شعورًا بالحزن والكآبة، جعلها تستسلم للحزن وتسمح له أن يتسلل إلى فؤادها المكلوم. عززت من تلك المشاعر أغنية “فات المعاد” وهي تسري بنغمها الحزين كالسكين الحاد على أوتار مشاعرها؛ فتنتفض لها الجفون بدمع ثخين.

      حاولت أن تعالج النوم، فاستعصى عليها، فتكورت في فراشها في يأس من النوم، وقعت عينها على صندوق حاوياتها القديمة، دفعتها رغبة في قتل الوقت أن تقلب فيه، فمنذ مدة طويلة لم تقم بفتحه. عثرت فيه على ألبوم الصور، برغبة طفولية، تناولته بكلتا يديها، كمن عثر على كنز ثمين، كان التراب قد غطى غلافه، جلته بطرف عباءتها، وراحت تنفضه في حنو، قامت إلى أريكتها المفضلة، وأضجعته في حجرها كطفل صغير، اتسعت حدقة عينها وهي تطالع صور حفل زفافها، كانت غضة ويانعة، ثمة صورة جعلتها تبتسم في عذوبة ساحرة، وجفلت عيناها كأنما تستدعي حلمًا جميلًا:

  • أنت أجمل فتاة رأتها عيني.
  • إياك أن تنظر لفتاة غيري؛ فإن غيرتي شديدة.

احتوى أناملها بين كفيه في رقة، وطبع عليها قبلة حارة يوثق بها وفاءه لها.

أفاقت من حلمها على صورتها في المرآة؛ لقد تغيرت ملامحها كثيرًا، كان انفصالها عن زوجها بعد زواج دام عشر سنين، سببًا في فقد نضارتها، ما جعل مساحيق التجميل التي تستخدمها عاجزة عن استعادة تلك النضارة مرة أخرى. كان رحيله عنها رحيلًا لأنوثتها وجمالها معًا.

راحت تقلب في ألبوم الصور، وقعت عينها على صورة تجمعها بأولادها، تناولتها بأنامل مرتعشة، واستيقظ تاريخ بغيض مرت عليه عشرة أشهر، بعد انفصالها عن زوجها.

  • خذ أولادك معك، لا حاجة لي بهم.
  • هل تضحين بأولادك كما ضحيت بي؟!
  • لا أريد شيئًا يذكرني بك.
  • ألهذا الحد ملأ البغض قلبك؟!

أشاحت بوجهها بعيدًا عنه، وأفلتت من قبضة يدها ابنَها الصغير؛ ليبقى وأخويه مع أبيهم. كان صراخ الصبية الصغار يصم أذنيها، فسدتها بكلتا يديها، وحثت خطاها دون أن تلتفت.

لم تدرِ كيف وقع الطلاق، وما الذي جعلها تصر عليه، حتى هدمت بيتها بيديها.

كانت الريح في الخارج من الشدة ما جعلها تدفع بالهواء البارد من نافذة غرفتها، سرت القشعريرة عبر أوصالها، تاقت لحضن دافئ من زوجها. دون وعي هتفت به. لكنها أفاقت على واقعها المرير في ليلها الطويل، زاد من شعورها بالبرودة صوت (أم كلثوم):

(طالت ليالي الألم واتفرقوا الأحباب)

تكورت في مقعدها، وراحت كالمسحور تتابع النغم الحزين، بينما لا تزال تقلب في ألبوم الصور. كانت الصور التالية لأبنائها في نزهاتهم معها ومع أبيهم، لاحظت لأول مرة أن البسمة لا تغادر شفتيه في جميع الصور.

  • تبًا لي، كيف لم ألحظ ذلك البريق الآسر بين ثناياه.

اشتاقت لسماع صوته، لضمة ذراعيه، لحديثه الشجي.. راحت تعتصر ذاكرتها؛ لعلها تذكر سببًا واحدًا للفراق وضياع الحب الذي كان بينهما. لما أعياها التفكير وعز عليها التذكر، توسدت كفيها وأنصتت للنغم الحزين:

(تفيد بإيه يا ندم وتعمل إيه يا عتاب)

ملأت الدموع عينيها، وكان صوت المطر المنهمر من السماء يبعث لها بعض الشجن. أبرقت السماء ثم رعدت؛ فارتعدت فرائصها، عندما تبدد صوت الرعد، استطاعت أن تسمع صوت أم كلثوم: (أنا بإيديه إيه فات الميعاد)؛ فنفضت كفيها ونامت.

د. سعيد محمد المنزلاوي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *