د. خالد مسمار أو الحج خالد كما اعتدنا أن نناديه، صديق قديم منذ عام 1985 جمعتنا الأيام في الأردن وفي فلسطين في تقاطعات مسيرة كل واحد منا، فاجأني حين زرته في بيته في عمَّان بإهدائي كتابه: “أيام.. كلام وخُطا “رحلتي” والذي صدر العام 2020 م في عمَّان بالقطع المتوسط ضاما في جنباته 172 صفحة، والكتاب من عنوانه سيرة ذاتية وشخصية تتحدث عن تجربة طويلة ومسيرة نضالية تحترم، وكان الاهداء للأشبال والزهرات الذين أشرف على معسكراتهم الصيفية في الماضي في اشارة للزمن النضالي الذي كان، وللأحفاد والحفيدات الموجودين ومن سيأتي لاحقا بمشيئة الله، والغلاف الأول حمل صورة الحاج خالد بابتسامته المعروفة والغلاف الأخير مختصر للسيرة الذاتية، وكانت مقدمة الكتاب للسيد عبد الحميد محمود قرمان، والتقديم للكاتب نفسه بدأه بالقول: “أكتب عن رحلتي في هذه الحياة” وأنهاه بالقول: “ثم عن احالتي للتقاعد في السلطة الوطنية”، مستعرضا المراحل التي سيكتب عنها في كتابه.
الكتاب ضم ثلاثة فصول وملحقين وحافظة صور وخاتمة وإن أخطأ المؤلف بالقول “ألبوم صور” وهي كلمة فرنسية غير عربية يقابلها بالعربية “حافظة صور”، وكان الفصل الأول مهم جدا فهو يحدد لما اختار الحاج خالد حركة فتح في بدايات مسيرته، وكيف تم اقناعه بفكرة الدولة العلمانية حين تم طرحها رغم التزامه الديني، والأهم هو مجمل النقد الذي وجهه الكاتب لمسيرة فتح وكيف تراجعت عن أهم مبادئها وهو النقد والنقد الذاتي، وكذلك عدم دراسة أحداث جسام وتقييم التجارب مثل الخروج من الاردن بعد أحداث أيلول، والخروج من لبنان بعد اجتياح 1982 وكذلك الانشقاق بحركة فتح وحصار طرابلس، مرورا بالمجالس الوطنية منذ تبني برنامج النقاط العشر وصولا لاتفاقية اوسلو وما جرته على الشعب الفلسطيني، مرورا بالانقسام الكبير بين غزة والضفة وحصار المقاطعة واستشهاد القائد أبو عمار، وفي عبارتين من هذا الفصل ندرك حجم الخسارة بعدم تدارس الأحداث والاستفادة من التجارب حيث يقول الكاتب في ص 15: “ما يؤلمني أننا لم نأخذ العبر ولم ندرس الأسباب التي أدت إلى ما نحن فيه الآن”، والكاتب يرى من خلال تجربته النضالية الطويلة أن العودة لدارسة المراحل الماضية بعلمية ودقة للاستفادة من تلك التجارب ويقول: “وهذا في تصوري سيقودنا الى تحقيق هدفنا الذي انطلقنا من أجله في قيام دولتنا الفلسطينية المستقله بعاصمتها القدس”، وأنا بدوري أقول للكاتب: وهل تعتقد أنه بقيت هناك قيادة تؤمن بالنقد والنقد الذاتي؟ وهل هناك من هو مستعد للاستفادة من تجارب الماضي والتنحي لقيادة شابة تلتزم البرنامج التاريخي؟ شخصيا لا أعتقد ذلك من خلال تجربتي النضالية المتواضعة منذ عام 1968 شبلا ولم أكن خلال مسيرتي حتى ابتعدت عن العمل الفصائلي عام 1994 بحركة فتح، وبقيت بعد ذلك مستقلا.
نلاحظ أن الفصل الثاني أخذ طابع المشاهد السريعة واللقطات العابرة وما تركته من أثر على حياته بدءًا من مشهد مرحلة الروضة وصولا الى مشهد خالي أبو زياد وجيراني الذي استقبلوه في غزة حين دخلها أول مرة بعد معاناة عدة أيام على المعبر مع الاحتلال كما المئات من العائدين وعائلاتهم الذي افترشوا الأرض بالجوع عدة أيام، وهو مسيرة الكاتب منذ الطفولة وهو ابن مدينة نابلس العريقة، والتي أضاء الضوء عليها وعلى بعض الأمكنة فيها مثل روضة الدير الكبير قبل أن يهدم في وسط نابلس وروضة الدير بجوار جامع الخضر والمدرسة الخالدية والخلدونية ومسرح وسينما المنشية في مبنى مكتبة بلدية نابلس حاليا، وعادات انقرضت مثل الاحتفال بتخرج طفل من السادس الابتدائي، وحلقات الدروس في المساجد والتي كانت لجماعة الاخوان المسلمين وجماعة حزب التحرير والمشاكل بينها، مما خلق في نفس الكاتب ابتعادا وحاجزا بينه وبين هاتين الجماعتين، وأيضا بداية الوعي الوطني بمشاهدة المهجرين قسرا والذين وصلوا نابلس وسكنوا المدارس والخيام في الساحات، وعاصفة ثلجية أدت ألى سقوط الثلوج وتراكمها في نفس عام النكبة حيث أهال الثلج الخيام على رؤوس قاطنيها، قبل بناء المخيمات حيث يقول الكاتب 19: “كان للهجرة تأثير كبير على اتجاهي السياسي فيما بعد”.
كما اشار كيف أن مواظبته على الاستماع للمذياع والذي لم يكن بالسهل توفره بتلك الفترة، كيف ترك أثره على مسيرته وحلمه بالعمل الإذاعي، وكيف أنه أصبح أكثر توجها للناصرية من خلال متابعته لصوت العرب، وأن السينما المصرية لعبت دورا كبيرا في حبه لمصر، وحين عرض عليه وهو طالب بالمدرسة عام 1957 الانضمام لحركة فتح كان جوابه أن عبد الناصر هو من سيحرر فلسطين، ويلاحظ تتالي المشاهد كما انتقاله لعمَّان والظروف السياسية في تلك المرحلة مثل حلف بغداد، وذهابه لدمشق للدراسة وما الذي جعله يغادرها الى القاهرة المدينة الحلم بالنسبة له منذ الطفولة، والمقارنة بين معاملة وتبجيل المعلم في نابلس وعكس ذلك في عمَّان والقاهرة، وشعوره أن انشاء م ت ف كان لعبة الأنظمة العربية،
ومشهد هزيمة حزيران الذي حسم موقفه بالانتماء لحركة فتح لتبدأ مرحلة النضال ومسيرته في صفوف هذه الحركة حتى الآن.
بحكم عمله في إذاعة صوت الثورة الفلسطينية من البداية لها في القاهرة بعد موافقة جمال عبد الناصر على افتتاحها في أيار 1968، وتكليف الأستاذ فؤاد ياسين “أبو صخر” صاحب الخبرة الطويلة بالعمل الاذاعي بالاعداد لها واختيار أول مذيعين وكان الكاتب أحدهم، يستعرض لنا الكاتب مسيرة الاذاعة في القاهرة والمحطات والأماكن الأخرى، ودور الشهيد ابو جهاد خليل الوزير وأبو اللطف، وأشار كيف خرج معهم من مبنى الاذاعة في القاهرة الى ميدان التحرير سيرا على الأقدام معلقا بتعليق نقدي لاذع: “وهل القيادة تمشي اليوم على الأقدام؟!”، منتقدا أيضا سلوكيات فصائلية بتلك الفترة للجبهة الديمقراطية والجبهة الشعبية، وصولا لاغلاق الاذاعة في القاهرة وفي دمشق مرورا بدورها في حرب أيلول عام 1970 في الأردن واعتقال أبو اياد وأبو اللطف وتصريحاتهم عبر الاذاعة الأردنية، ولفت نظري قول الكاتب في ص 43 أن حاووز جبل الأشرفية في حرب أيلول كان به مدفع رشاش 500 للجيش الأردني، وأعتقد أنه يقصد حاووز التاج فلم يكن الجيش أصلا في حاووز الأشرفية، وبيتي كان بالقرب من الاذاعة وحاووز الأشرفية.
يواصل الكاتب سرد مسيرة الاذاعة وكيف أن الرئيس السادات وافق على فتحها من جديد ولكن بشرط دمج اذاعة م ت ف مع صوت العاصفة بإذاعة واحدة، لتبدأ “مرحلة جديدة تتطلب “أسلوبا جديدا” وتوقفت مرحلة البلاغات العسكرية المتتالية!! وخاصة بعد أن فقدت المقاومة الساحة الأردنية، وفي نفس الوقت كانت للكاتب ملاحظات نقدية على هذه المسيرة ومنها أن قيادة الحركة لم تنصف الأستاذ فؤاد ياسين “أبو صخر” حتى وفاته وهو في الثمانين من العمر، بينما كافأت القيادة تلاميذه الذي تربوا على يديه ولم تنصفه هو، كما يلاحظ أن الكاتب لم يغفل دور أحد سواء في مسيرته الاذاعية عبر الاذاعة، أو بمن لهم الفضل بالتعليم والتوجيه ومنهم الاعلامي المصري محمد فتحي وغيره، سواء ممن كانوا بحركة فتح أو لم يكونوا، سواء في مرحلتي الاذاعة في القاهرة وفي الأردن وفي درعا وفي بيروت وفي بغداد والتي لم تستمر أكثر من عدة أيام، وفي صنعاء التي شهدت مفارقات سياسية تسبب بها الكاتب، وتعب في العمل عاناه أيضا، وفي بيروت شن هجوما قويا على النظام في سوريا وأصبح مطلوبا، وبعدها حاول ترك الاذاعة للعمل في الدائرة السياسية ولكن اصطدم بمعارضة القائد الشهيد أبو عمار، الذي ابقاه بالاذاعة وسلمه مهمة المفوض السياسي لقوات جيش التحرير ومهمات طارئة، وبقي في هذا العمل حتى استلم من نبيل عمرو رئاسة مكتب الاعلام حتى عودته للوطن عام 1994.
حتى كان حصار بيروت والمعارك فيها عام 1982م، حيث كانت الاذاعة مركزه الرئيس وتعرض فيها والكادر الاذاعي للخطر ومواجهة الموت مرات عديدة، حتى الخروج من بيروت بناء على الاتفاق الذي تم، ومغادرة الكاتب الى تونس مع عدد كبير يقارب الألف شخص من مختلف التنظيمات ومنهم قوات جيش التحرير بصفة المفوض السياسي لها بقرار من أبو عمار، وهنا قال الكاتب في ص71: “اكتشفت واقعنا المر.. واقع الثورة الفلسطينية من خلال (جمهور) السفينة الذي يمثل شريحة متنوعة تمثل مجتمعنا الثوري”، اضافة أنه كان في غاية الألم على التخلي العربي عن الثورة و”ممارسة ضغوطات كثيرة على قيادتنا من الأصدقاء والحلفاء بالإضافة الى الأعداء كي نترك بيروت رافعين الراية البيضاء، وشذ عن هؤلاء معمر القذافي الذي نصحنا بالانتحار في بيروت دون أن يكلف خاطره إرسال طلقة مدفع أو قذيفة صاروخ تعيننا على الصمود أو حتى تساعدنا على الانتحار”.
ويلاحظ أن الكاتب خالد مسمار لم يشرح عن الواقع المر الذي اكتشفه بالسفينة واكتفى بالايماء حيث كرر في ص 74 القول: “ولأول مرة أرى الثورة وواقعها وألمسه لمس اليد”، والكاتب في بداية الفصل الأول تحدث عن ضرورة النقد الذاتي وعن دراسة التجربة، فكان الأجدر به أن يوضح هذه النقاط بوضوح، وأما عن الدور العربي والإسلامي المخزي الذي دفع الشهيد أبو عمار أن يصرخ بأعلى صوته: “يا وحدنا”، فها هو التاريخ يعيد نفسه بقسوة أكبر بعد التخلي العربي والإسلامي وغض البصر عن إجتياح غزة وحرب الابادة التي تمارسها دولة الكيان على شعبنا الصامد والمقاومة الصامدة بعنفوان من قرابة عشرة أشهر من 7 تشرين أول للعام الماضي، وأيضا عانى الكاتب خلال وجوده بتونس من اجبار عائلته على مغادرة الأردن الى دمشق كونهم من حملة الوثائق الفلسطينية اللبنانية وغير مسموح لهم الاقامة بالأردن الا لفترة محددة، ومنعت الأسرة من الدخول الى سورية إلا مرورا إلى لبنان، مما جعل الكاتب يطلب اجازة ويسافر الى دمشق ولكنه لم يشر كيف تم ازالة المنع الأمني عنه ورفع اسمه من قائمة المطلوبين في سورية والتي اشار لها بفترة بيروت.
أما اتفاق اوسلو الذي أشار له الكاتب أكثر من مرة وبشكل خاص ص 78 بعبارة: “تذكرت كلمة الأخ أبو مازن صاحب الاتفاق عندما قال لنا في آخر جلسة للمجلس الثوري في تونس: الإتفاق أقل من دولة وأكثر من حكم ذاتي”، علما أن الاتفاق كان منشورا بالتفاصيل العامة كمشروع امريكي في صحيفة القبس الكويتية في 31/5/1990 أي في اليوم الثاني للقمة العربية في بغداد، وكان يحمل توقيع الصهيوني زئيف شيئف، وفيه النقاط الأساسية التي جرى التوقيع عليها لاحقا مثل المفاوضات بين م ت ف ودولة الكيان، وعودة القوات بالأسلحة الخفيفة الى غزة وأريحا أولا وتشكيل ثلاثة أجهزة أمنية أولا حيث سيكون مقر السلطة غزة، وإنشاء مطار والمهمات المدنية وتفاصيل كثيرة، وقد أعدت نشر المقال بعد توقيع اتفاق اوسلو في صحيفة الديار الأردنية تحت عنوان: الاتفاق منشور منذ ثلاث سنوات ولكن كالعادة لا أحد يقرأ، وقد أرسلته أيضا للحاج خالد مسمار، وأعتقد أن مواكبة الكاتب من خلال عمله منذ دخوله للوطن تحت مظلة أوسلو حتى احالته للتقاعد وعمله في المجلس الوطني الفلسطيني في عمَّان، كانت تستحق اهتمام خاص.
أما الصراع الحمساوي الفتحاوي منذ بداية تسعينات القرن الماضي فقد أخذ مساحة في نهاية الفصل الثاني، وكنت أقول رأيي علنا في مقالاتي وفي ندوة تحدث فيها المرحوم أحمد عبد الرحمن في حزيران 2002م حيث قلت: أن فتح وحماس خطين متوازيين لا يمكن أن يلتقيا، وهذا موضوع بحاجة لدراسته من جديد ووضع الأصبع على الجرح بدون تحيز فصائلي، وأشير قبل أن أنهي أن الفصل الثالث تضمن مقالات مختارة للكاتب كان قد نشرها مع ملحقين مهمين لتلك الفترة، وأما محفظة الصور فقد اعتمدت المشهد البصري منذ طفولة الكاتب وعبر مسيرته النضالية الطويلة.
وفي النهاية.. هذا التوثيق لمسيرة إذاعة الثورة الفلسطينية من الحاج خالد مسمار مهم جدا حتى لا تذهب هذه المسيرة بدون توثيق كما العادة للكثير من المسائل، ويا حبذا لو لجأ كل من القادة لتوثيق مسيرتهم بحيادية حتى تكون التجربة ملكا لأجيال قادمة، وبكل أسف أني طرحت هذا الموضوع على العديد من الأصدقاء في الفصائل المختلفة من لي إطلالة على مسيرتهم.. لكن بدون جدوى.
الكاتب الإعلامي زياد جيوسي