.. لا أدري متى – على وجه التحديد – فتحت له، فاندفع مُزمجراً غاضباً، تسبقه زعابيبه، ثم لم يلبث أن أمسك برأسي حتى كاد يقتلعها .. توالت عليها – إثر ذلك – مطارق يديه، وبمشاعر متجمدة راحت تدق رأسي بلا رحمة ولا فتور ، لم يستثن عدوانه الغاشم هيكلي.. وهنت مقاومتي، وانتابني مايشبه الإغماء، وأنيني يسبقني، يتمدد فيما حولي .. تخايلني رؤى ضبابية غائمة، تختلط فيها الموجودات من حولي وتتمايل .. افترشت الأبواب السجادة، تبعد وتقترب بلا قانون، والكراسي تطايرت تهتز على الحوائط المتراقصة، بينما النجفة تروح وتجيئ وتدور من حولي، وفوق رأسي تحلقت عيون كثيرة، لم أتبين حقيقتها ترمقني بمشاعر تتباين بين الأسى والشفقة .. تمكَّنَ مني، لم يصده عني مانع، ولم يرده حاجز، سادراً في غيه غير آبه بمن حولي، وبكل جبروته الحيواني، وكفه العملاقة؛ راح يكتم أنفاسي، وأنا أقاومه بوهني، فأتملص منه، ويعاود .. وأتملص ويعاود بلا كلل، حتى كادت تزهق روحي .. ازداد غضباً وعصبية لما رآني – على ضعغي- ما زلت أقاوم، أطلق تِنِّينَهُ لفح نيرانه يجتاح عينَّي، يؤازر صهدها نزيز دمع ينساب بلا توقف، ودون إرادة مني .. بقايا آدمي مقبور في جوف لحاف يئن، عن يميني وعن شمالي تجلس زوجتي ويجلس أولادي إلى جواري يواسونني، غير بعيد يقف قبالتي يترقب، وشرر عينيه يتوعدني ..
عند باب المسجد الكبير؛ توقفت أحدث نفسي: ليس مقبولاً ولا مباحاً أن أسبب الأذى لغيري من هذه الجموع التي تجلس آمنة تنتظر صعود الخطيب المنبر ..
بعفوية مددت يدي إلى جيبي، أخرجت كمامة كنت دسستها فيه، تلثَّمتها قبل أن أعبر العتبة .. هالني ما رأيت من تباين ردود أفعال الجالسين نحوي، بين دهشة، وتوجس، وترقب .. لم يكن بالمسجد – تقريباً – سواي يتقنع بالكمامة .. عيون تتابع خطوي، ورقاب تلتوي تستطلع أين سينتهي بي المطاف .. في فُسحة من الصف وقفت لأداء الركعتين، اعتراني الأسى لما رأيت مجاوريَّ يتباعدون، يتحاشونني ” كأنني مطليٌّ بالقار أجربُ” برغم العطاس والسعال الذي يتناهى إلىَّ بين الحين والآخر من هنا وهناك .. آثرت السلامة، واتخذت قراري، قمت من فوري أنشد الصف الأخير لأبتعد قدر الإمكان عن زخم الجموع .. هناك رأيت شبيها بي عند طرف الصف، ربما هو الوحيد غيري بالمسجد الذي يرتدى الكمامة .. يبدو أن ما دار بخلدي وتراءى لي منذ حللت قد أصابه مثله، فلما أُقيمت الصلاة؛ اجتذبته – وللحق لم يعترض – لننفرد خلف الصف الأخير ..
الكاتب أحمد عثمان