احتواء قصة قصيرة للقاص عبدالصمد الشويخي

جلست قبالتي تخنقها العبرات تبدو كأن قطار الحياة قد فاتها فاضطرت لركوب قطار آخر وجدته مزدحمًا يغص بالمسافرين تتعالى أصواتهم وتضطرب حركتهم جيئة وذهابا فيطير النوم من عينيها؛ ليسكن أعشاشًا في مؤانئ أخرى فلم تعد مؤانئ عينيها تحفل باستقباله… ترك صولجانه قبالتهما ورحل … كانت تبدو ملائكية القسمات ناضرة الوجنات لكن رياح الهجر والخوف والشك والتمنع قد أنهكت روحها،وجف لحاء شجرتها،وانطفأت جذوتها أصبحت قشرة فارغة بلا لُبٍّ… رغم ما يتملكها من رغبة عارمة في احتوائه واحتضانه، وماتراه في منامها إذ يغشيها النعاس أمنة؛ فتجده قريبا فتحتضنه وتمسك بكلتا يديه تتشبث برقبته؛ ليحميها من عوادي الزمن،و يذب عنها ذئابًا تطاردها تحاول الفتك بها والنيل منها، وما تعانيه من جفاء القريبين منها، وما تقاسيه من جفاء أناس قريتها التي شابت جدرانها، وعجزت عن مقاومة التغيير فانساحت، وانداحت، وصارت جزءا من غدٍ محهولٍ، وتنازلت عن صمودهاَكبريائهاومقاومتها، وسلمت مفاتيح قصر الحمراء لفرديناندو وإيزبيلا (الملكين الكاثوليكين) ضعفت أسوارها وعجزت عن مقاومة الزمن وليس ثمَّة شيءٍ يهزم الإنسان سوى قلبه وعواطفه المشبوبة حين أحب أبو عبدالله (ثريا) ازداد التغيير رويدا رويدا،واتسعت فجوته حين تبدى حسن (ثريا) بدأ يستعرض قوته وفحولته… ترك غرناطة مدينته المحبوبة؛ليلاحق أفرنجيَّة يطارحها الغرام حتى تتهاوى أسوار قلاعه لا يأبه للشَّيب، ولا للكبر، ولا للصَّوت المتغير المثلعم المتحشرج… ارتعشت يده، وخارت قوته وتبعثر عقد الملك الظافر، وأمسى القصر المترنح يصرخ من شدة هول الصَّدمة، وفي جنبات الحمراء صدًى يتردد : (لا غالب إلا الله) وهو لايدري مامعناه، ووزير السُّوء يمعن في جلب المحظيَّات الشقراوات الحسناوات الفاتنات زرقاوات العيون منسدلات الشَّعر حين تفرد أحداهنَّ ضفائرها يتساقط حصن، وحين يعتلي الزغل البرج ينتزع القوط مدينة أخرى … ضاعت كل حكايات الجدات والخالات هباء كان سقوط طليلة ومالقة وأشبيلية وسرقسطة والبشرات سقوطًا يتبعه سقوط كانت تنتحب الأشجار، ويسقى القصر سقيا عذاب، وموسى بن أبي الغسان يشحذ همم النَّاس رفض معاهدة التسليم يصرخ فيهم:( للأعمى في غرناطة فقط أن يتحسر فهو لايقدر أن يرى جمالها فمالكم تقاعستم عن نصرتها…!! ).


لكن رياح خريفٍ مرٍّ تحمل كلَّ وريقات أشجار الحزن يسقط معها أثرًا من آثار حنينه للأرض ظل يقاوم ويناوئ ويناور،ويلوك الأفكار بسفح الجبل وبقمته وكهوفه… تطول لياليه ويغشاه برد شتاء وجليد، ويتبعه حرُّ الصَّيف الجائر يتبدَّل عنوةً كلُّ أديم الأرض الغضِّ البضِّ يتحول أحراشًا قاسيةً جافةً تنضو الأندلسُ عنها ثوبَ عروبتها؛ لتلبس ثوبًا قشتاليًّا يكشف عورتها تصمت أصوات مآذنها تنعق أجراس كنائسها تنتظر الملك الغالب؛ كي يأتي بلاجدوي؛ فالقوم نيام ماعدت تُجْدِي صرخاتُكَ يا موسى سَلِّمْ رايتك؛ فالكلُّ مهانٌ، وسنين الصَّمت العربيِّ ستتسع وتمتدًّ الزمانُ… يتوالي ضياع الأندلس،ويتتابع،ونظل في غفوتنا َنتباهى بغفلتنا وعائشة الحرة تبكي ثكلاها، وولديها في عرض البحر متجهين لمدينة فاس، ومن أقسى علامات الخزي أن المهزوم يطاطئ رأسه… جالت كل الأفكار برأس حبيبة غرقت في نهر العشق تنازع رغبتها فرارًا بالجسد المتعب هربًا من تباريح الوجد، ومن وجعٍ جعل الصَّدر يضيق ينكمش القلب، وتتمدد أوردته؛ فتعاني وخزات الألم الصَّامت، والعشق الصَّاخب تهربُ من قدرٍ مخبوءٍ؛ لتلاقي قدرًا حطَّ رحاله بالقلب لاتدري أتفتش عن أغنيات ربيع حلَّ أم تبحث عن أمنيات صقيع رحل؟!


أتدفنُ هذا الغرام العصيَّ أم تقطفُ رُمَّانَ حُبٍّ جَنِيٍّ شهيٍّ؛ وتطعمُ من شوقها أطيارَ عاشقها المستبدِّ؟!
تتسائل متى يستريح النَّهار ويطرق بابي، ويقرع بقلبي ضفاف التَّلاقي، ويعانق شمس الأماني بروحي، ويسكب حبك في وجنتيَّ وضاءةً و نورًا، وعطرًا؟!
فما عدت أحلم إلَّا بحضنك، وماعدت أشتهي إلا اقتراب، وما عدت أرغب إلا بك،وما عاد ينقصني إلَّا (احتواءٌ) بليل الشِّتاء يذيب الجليد يزيل سحب الأسى،وغيوم الحنين.

القاص عبد الصمد الشويخي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *