“اعتذار” قصة للكاتبة سوسن محفوظ

لم تكن البدايات رحبة كما يحدث للبعض..

ولم تكن مليئة بالأحلام كما ينبغي أن يكون.

كانت أشبه بشلال هادر ينحدر على صخور جافة محاولًا منحها وشم الحياة دون القدرة على تفتيت عصيانها.

تجمعت الكلمات المهترئة ذات الأحرف المبتورة والمعاني السطحية على ورقة بيضاء، وكتبت كلماتها بالحبر الأزرق متناثرة على السطح مانحة إياه حياة غير كاملة، وطفل أجهض قبل ولادته.

وصلتني الورقة عبر زميل بحجرة الدراسة أعرفه ولا أعرفه، أعطاها لي دون اكتراث وانصرف بعدها، فقمت بفض الورقة بأيد مرتعشة لتفاجئني الأحرف المكتوبة بشكل شبه عشوائي لكنها تعطى معنى واحدًا، وشعورًا لا يتكرر كثيرًا.

“أنا بحبك يا إيمان”.

انتفضت من مقعدي فزعة حين قرأتها أكثر من مرة، وأعدت قراءة اسمه المكتوب أسفل الجملة الوحيدة عشرين مرة، ووقف بي العمر للحظات عند نظراته الطويلة لي أثناء طابور الصباح في مدرستنا الإعدادية المشتركة، وفى الفسحة حين كنا نلتقي مصادفة، وسقطت الورقة التي هزت تاريخ حياتي، وأنا أضع رأسي المثخن بالأفكار على الطاولة الموضوعة أمامي، فلم أنتبه لقدوم المعلم الذى دخل الفصل ثم بدأ بالشرح وأنا ما زلت في غيبوبتي العميقة، لتهزني صديقتي بعنف كي أفيق.

عدت للحياة التي منحتني صكّ أنوثتي المبكرة، وشهادة تخرجي من مرحلة الطفولة وتدحرجها نحو بواكير المراهقة والشباب.

وعدت أنظر لزميلي الذى منحنى أهم ورقة صادفتني حتى الان، فوجدته يستمع إلى المعلم دون أن يعير نظراتي أي اهتمام، وبت أنا في عالم ضيق لا يسع سواي وصاحب الورقة الممهورة باسمه، وعاد بي الزمان ساعتها عند اسمه وعائلته والمعلومات القليلة التي أعرفها عنه، لانصرف كلية إليه وأنا أستشعر وجوده لأول مرة وأتذكره وهو يبتسم لي ببطء عند انصرافنا إلى حجرات الدراسة في هذا الصباح.

لكني انزعجت للفكرة، فقد خفت من معرفة أهلي للخبر، واتهامي في سمعتي وأنا الفتاة المحافظة التي لا يعنيها سوى أمرين مذاكرتي، وسيرتي بين الناس، خاصة في قرية صغيرة كالتي أعيش فيها.

وبدأت أبكي خوف افتضاح ذنبي الذى لم أرتكبه، وعقابي على مشاعر ولدت في قلب أحدهم لي، ولم يكن هناك مفر من البوح لصديقتي التي تجاورني في مقعدي بالدراسة والتي نصحتني بشكوى هذا الطالب إلى مدير المدرسة وتعريفه بأمر الورقة التي أرسلها.

كيف لي لحظتها وأنا الطفلة ذات الثلاثة عشرة عاما والتي تقف في منتصف المرحلة الاعدادية أن أدرك أنى بذلك أخسر الحب الأوحد الذي أهدته لي الأقدار دون معاناة، والقلب الذي أحبني في صمت دون الجرأة على البوح به.

انتهت الحصة التي لا أعلم كيف بدأت ومتى انتهت، وساقتني زميلتي إلى حجرة المدير التي لم أدخلها إلا قليلا، وبقلب مرتعش، وشفاه تهتز من هول الموقف بدأت أحكي ما حدث لي للمدير الذى كان مشغولًا في سد الحصص الفارغة لهذا اليوم وتأفف المدرسين من تحمل حصص الاحتياطي، ليشعل السيجار الذى يحمله وهو يسألني بشيء من العصبية والكثير من التذمر عما أريد قوله؟

صمت أمامه ولم تسعفني الكلمات ساعتها، لتقوم زميلتي بالشرح نيابة عني، ويقوم هو بدوره لتحويلي إلى الإخصائية النفسية والاجتماعية.

وأمام المدرسات المجتمعات في الفسحة في حجرتهن قمت بذكر ما حدث ومنحها تلك الورقة التي ندمت على إهداري لها لبقية عمري.

تناولتها المعلمة على عجل، لتقرأها بشيء من السخرية، ثم تطويها في النهاية وتدسها بين أوراق عدة أمامها وهى تخبرني أنها ستتولى الأمر، وستأتي بهذا الطالب وتفعل معه الأفاعيل، و عليَّ أن أهدأ كي أستطيع الاستمرار في اليوم الدراسي.

كيف للهدوء الذى غادرني في هذا اليوم أن يأتيني ثانية، والصمت المطبق على أحداث حياتي أن أسترده وأنا أجلس في مقعدي خاوية من العقل.

انتهى اليوم دون معرفة أي شيء مما دار فيه، لا تلك الواجبات التي كان من المفترض أن أحصلها ولا الدروس التي كان على معرفتها.

وطوال الوقت كنت أبكي وأنا مرتجفة، خائفة مما ترتبه لي الاقدار.

أثناء الانصراف قابلت معلمة اللغة العربية وكانت الأقرب إلى قلبي، ناديتها بينما كانت تهرول في طريقها، وقفت واستمعت إلي وأنا أحكي بحرقة لا أعرف مصدرها، ربتت على ظهري، منحتني الأمان الذى كنت أحتاجه طوال اليوم، وأبلغتني أنها ستتحدث معه في الأمر ونصحتني بعدم إخبار والدى في الوقت الحالي، ثم مر صاحب الخطاب أمامي، لأشير إليه ومعي زميلتي ونحن نخبرها بالأمر.

أمرتني بالانصراف وذهبت هي للتحدث إليه، كان الفضول يقتلني لسماع ما يقوله فاقتربت من جديد لأصل إليه فأجده يقدم اعتذارات متوالية أمام المعلمة، لكني وبغضب اختزنته طوال اليوم سألته عن معنى ما فعله ومغزى خطابه، ليحوطني بنظرة كسيرة في عينيه، ونظرة حنان مغلفة بالاعتذار قبل أن يقول لي:

– أعتذر، سامحني.

ثم هرول من أمامي وأنا أحدجه بنظراتي ومعلمتي تأمرني بالرحيل بدل الوقوف في عرض الطريق وتخبرني أن اعتذاره كافٍ وأنه لن يعيد فعلته ثانية.

بينما أنا أرفض الرحيل متعللة بضرورة معاقبته وأني سأبلغ والدى بالأمر، نصحتني بعدم إبلاغه وأن إدارة المدرسة ستقوم بعمل اللازم لكنى لم اَبه لكلامها ونفذت ما أردته دون معرفة عواقبه.

في الصباح حين حضر والدي معي إلى المدرسة كان زلزال عنيف يوشك أن يقع بعد حديث والدي مع المدير في أمر رسالة الأمس وهو يسأله كيف يحدث لابنته المؤدبة المحترمة هذا الأمر داخل أسوار المدرسة؟ ويأمره بمعاقبة الجاني على فعلته.

تدخلت الاخصائية النفسية في الحوار ووعدت أبي بحل الموضوع بشكل ودي مع الطالب صاحب الرسالة، ولولا غيابه اليوم لكان لها تصرف اَخر معه.

هدأ والدي قليلًا، ووعد بمتابعة الأمر بنفسه مع إدارة المدرسة.

لكن صاحب الرسالة لم يحضر في الغد ولا في الأسبوع التالي ولا الشهر الباقي على انقضاء الفصل الدراسي بعد أن قام والده بنقله من المدرسة، لأهدأ أنا وأسرتي ويستريح كلانا من هذا الأمر المزعج، الذى تحول بمرور الوقت إلى ذكرى عابرة تضئ في الذاكرة لدقائق ثم تمرّ مسرعة ليمر العمر دون تكرار ما حدث ثانية، ودون إبداء أحدهم الإعجاب بي.

كنت أتساءل طوال الوقت لماذا لم أعش قصة حب كما حدث لزميلاتي، ولم أرتبط بأحدهم كما أري أمامي؟

سار الأمر هكذا حتى انتهت المرحلة الجامعية دون أن يعترف لي أحدهم بحبه أو يكتبها في ورقة صغيرة كما فُعل بي من قبل.

وبت أفكر في صاحب الرسالة التي أعطيتها للإخصائية النفسية، وأتساءل أين ذهبت به الحياة؟ وهل يذكرني أم تراه أغلق بابي للأبد.

كل ما عرفته أنه التحق بإحدى الكليات العسكرية ويعمل ضابطا بعد تخرجه وقد انتقل للعيش في المدينة القريبة منا.

ليأتيني زوجي الحالي طالبًا يدي بعد أن رشحتني له إحدى أقاربه، وتتم الموافقة على عجل وكنت قد أنهيت دراستي دون القدرة على الحصول على عريس مناسب كما فعلت معظم زميلاتي.

لم أحب زوجي، ولم أمقته.. لم نتبادل كلمات الحب وإن كنا مارسنا شعائره.

وبت أبحث عن صاحب الاعتراف الأوحد لي بحبه في متاهات الحياة حتى عثرت عليه في زحام أحد الأفراح يتأبط ذراع زوجته.

انتابني الشعور ذاته، والخوف الذي تملكني في ذلك اليوم البعيد، فلم أستطع الوقوف أمامه، والنظر لعينيه الدافئتين بعد مرور كل هذا العمر.

هرولت أجرّ أطفالي أمامي وأنا أعتذر لقلبي قائلة:

-أعتذر، سامحني.

الكاتبة سوسن محفوظ

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *