الأديب البرتغالي الحائز على جائزة نوبل في الآداب جوزيه ساراماجو من الأدباء الذين لم ترهبهُم الآلة الإعلاميَّة الصَّهيُونيَّة

فعل الكتابة عند »جوزيه ساراماجو« يُعتبر نوعًا من تحقيق الوجود. وهو يرى أنَّ حُرِّيَّة الفكر والتعاطف مع الكتابة الحميمة تقود إلى نوعٍ من التوازن العقلي، ذلك التوازن الذي يسمح له بالتفكير العميق في قضايّا العالم الذي يعيش فيه، كقضايّا: الديمقراطيَّة، والفقر، والطغيان.

وُلد »جوزيه ساراماجو« José Saramagoفي 16 نوفمبر عام 1922م. ينتسب إلي أسرةٍ صغيرةٍ تقطن قرية تُدعى »أزينهاجا«. لم تستطع أسرته تحمُّل مصاريف المدرسة فكان عليه أن يدخل معارك الحياة في سنٍ مبكرةٍ، فعمل في حرفٍ متواضعةٍ. حيث تعلَّم الميكانيكا فعمل حدَّادًا (صانع أقفال). وهو يعترف بذلك دون خجل، فيقول:» أنا من عائلةٍ أُميةٍ، فقيرة جدًّا،لم يصل أحد من أفرادها الجامعة، ولذلك كان من الطبيعي أن أترك المدرسة في مرحلةٍ مبكرةٍ من حياتي، وفي الوقت ذاته عملت علي تثقيف نفسي بنفسي دون مساعدة أحد ».

تزوَّج في عام 1944م من فتاةٍ تعمل ناسخة على الآلة الكاتبة تُدعى »إيداريس«، والتي توفيت في عام 1988م. وفي نفس العام تزوَّج من الصحافيَّة الإسبانيَّة »بيلار ديل ريو« ثُمَّ انتقل معها للعيش في جزيرة »لانثاروتي « بجزر الكناري ( وهي جزر تابعة لإسبانيا في المحيط الأطلسي)، حتى رحيله في 18 يونيو 2010م.

منذ عام 1965م تفرغ للكتابة الأدبيَّة، وهو يُعتبر من أكثر الكُتَّاب تأثُّرًا وتعمُّـقًا بدراسة الأدب الإسباني، ومن أشدَّهم كتابة حول أثر أدب القرون الوسطى في الأدب الأوروبي الحديث.وقد كتب »ساراماجو« الشعر والرواية والقصَّة القصيرة والمسرحية والدراسة واليوميات.

تجاهلت الأوساط الأدبيَّة البرتغاليَّة »ساراماجو« لوقتٍ طويلٍ منذ صدور روايته الأوَّلى »أرض الخطيئة« عام 1947م، وكذلك ديوانه الشّعري »قصائد مؤكَّدة« عام 1966م ، بحيث لم يثر أي منهما أيّة ردود أفعال في الأوساط النقديَّة آنذاك. وهو لم يدخل دائرة الضوء إلَّا وهو علي مشارف الستين من عُمْره، عندما أصدر روايته» الإله مانشو« عام 1982م، والتي مثلت ـــــــــ من منظور كثير من النُقَّاد ـــــــ بداية لمسيرته الأدبيَّة المتألقة، وهو الذي طالما تمنى أن يُصبح كاتبًا مرموقًا، وقد تحقَّق له ذلك، يقول» ساراماجو«: «لو أنَّني مت في سن الستين، لما تركت شيئًا له قيمة « !!

في عام 1977م صدرت له رواية »دليل الرسم والخط اليدوي«، وفيها تناول حياة أسرة ريفيَّة منذ بدايات القرن العشرين حتى سنوات الستينيات الثوريَّة، مُلقيًا الضوء علي التحوُّلات الاجتماعيَّة والسياسيَّة في البرتغال في تلك الحقبة. ثُمَّ تلتها رواية »النهوض من القاع« عام 1979م، ورواية »ثورة الأرض «عام1980م، وهى الرواية الأهم التي من خلالها عرفنا أسلوبه الروائي الخالص وحصل بها على جائزة مدينة لشبونة، ثُمَّ رواية »بلتسار وبليموندا« عام 1981م حيث تدور أحداثها حول مُعلِّم مكتئب يلتقي ممثلًا يشبهه تمامًا، ويُحلِّل الكاتب من خلال هذه العلاقة الطبائع البشريَّة والفروقات بين إنسان وآخر.

وفي عام 1984م ظهرت روايته »سنة موت ريكاردو رييس«، والتي يحكي فيها »ساراماجو« عن شبه الجزيرة الأيبيريَّة (إسبانيا والبرتغال) منفصلة عن أوروبا وتطوف بين إفريقيا وأمريكا،متمنيًا تحويلهما إلي دولةٍ واحدةٍ. وقد أثارت دعوته »الوحدوية« هذه ردود الفعل في إسبانيا والبرتغال، إلى درجة أنَّ وزير الخارجية البرتغاليَّة آنذاك: »لويس أمادو« Luis Amado كان أوَّل المُعلقين عليها قائلًا: «إنَّ ذلك غير ممكن، وإنَّ ساراماجو مفكِّر وكاتب حُرّ يمكن أن يُدلي بكُلِّ الآراء التي يُريد من دون أن يلومه أحد« .

أمَّا في عام 1986م فقد نشر رواية بعنوان »تاريخ حضارة مدينة لشبونة«، وهي رواية تاريخية تدور أحداثها حول حصار البرتغاليين لمدينة لشبونة الإسلاميَّة عام 1147م، والرواية تنتقل بالقارئ بين لشبونة اليَّوم، ولشبونة القرن الثاني عشر. وفي عام 1992م صدرت له رواية »الإنجيل بحسب يسوع المسيح«، وهي الرواية التي تعرَّضت لهجومٍ كاسحٍ من قِبل الفاتيكان إلي حدِّ اتهامه بالكفر والإلحاد. وقد منعت الحكومة البرتغاليَّة تدريس أعماله في المدارس والجامعات ممَّا دفعه إلي ترك البرتغال والهجرة إلي إسبانيا. ثُمَّ اصدر رواية »قابيل« عام 1993م التي هاجمها الفاتيكان أيضًا. وفي عام 1995م صدرت له رواية »العمى« حيث استخدم »ساراماجو« فيها صورًا مجازية عن العمى المُعدي الذي يضرب مجتمعًا تُسيطر عليه العبثية، وفيها يتخيِّل وباءً مُرعبًا هو» »العمى« الذي سينتقل بالعدوى إلي ملايين النَّاس منذ أن أُصيب به ذلك السائق المشؤوم، وهكذا ستتحوَّل البلاد (أي بلاد كانت) إلي شعبٍ من العميان حيث تسود الفوضى ويتغيَّر سلوك النَّاس بشكلٍ جذري، فيصبحون أشدّ شراسة من الحيوانات في البحث عن الملاذ والطعام، وتكثر النفايات والقاذورات والجثث في كُلِّ مكان. وهي رواية نقدية كُتبت بأسلوب روائي فلسفي يمضي فيه»ساراماجو« إلي المواقع الإنسانيَّة الباطنيَّة ليُحلِّلها ويكتشف أغوارها برؤية فنانة حاذق.

وفي عام 1997م صدرت له رواية» كُلّ الأسماء«، ورواية »الكهف« عام 1998م، وأخيرًا رواية »انقطاعات الموت« عام 2005م، حيث يفترض »ساراماجو« غياب الموت تمامًا عن إحدى المدن ممَّا قاد أهلها إلى اكتشاف مدى أهمية الموت في حياتهم .

وللكاتب عدة مسرحيات نذكر منها: »الليل« عام 1973م ،و »الحياة الثانية لفرانسيسكو دي أسيس« عام 1987م. كما أصدر عددًا من الدواوين الشَّعرية منها: »ربما فرح« عام 1970م ،و»حقيبة المسافر« عام 1993م. كما أصدر كتابًا بعنوان: »دفاتر لانثاروتى«، وهو عبارة عن كتاب في اليوميات، في أربعة أجزاء. كما قام بترجمة بعض أعمال كبار الأدباء والمفكرين أمثال: الروائي الفرنسي»جي دي موباسان« (1850-1893 م) ، والأديب الروسي »ليو تولستوي« (1828- 1910م) ، والشاعر الفرنسي »شارل بودلير« (1821- 1867م) وغيرهم.

وللكاتب رواية بعنوان »المنور«، حيث قامت أرملته ومترجمة أعماله إلي الأسبانيَّة »بيلار ديل ريو« بتقديم ترجمتها إلي الإسبانيَّة ثُمَّ صدرت في عام 2012م. وهي تقول عن هذه الرواية: «إنَّها الرواية المفتاح لأدب ساراماجو، فهي تتطرَّق لسرد تفاصيل الحياة في البرتغال أثناء النظام القمعي الديكتاتوري في أربعينيات القرن المنصرم، أثناء حكم الطاغية أنطونيو دي أوليفيرا سالازار«.

هذا، وقد ترجمت أعماله إلى أكثر من ثلاثين لُغة عالمية. ويُعد »ساراماجو« هو أوَّل أديب برتغالي يحصل على جائزة نوبل في الآداب عام 1998م، فأهداها إلى بلاده ولُغته الأمّ. وقد أنصف بفوزه المستحق اللُغة البرتغاليَّة التي كانت تبحث عن الاستمرارية في ظلِّ تجاهلها ( يتحدَّثها حوالي 230 مليون نسمة).

هذا، وتشهد مواقف «ساراماجو» السِّياسيَّة على شجاعته وجُرأته، ويكفى أنَّه من الأدباء القلائل الذين لم ترهبهُم الآلة الإعلاميَّة الصَّهيُونيَّة التي تُلاحق كُلّ مَنْ يقف في وجه الاستبداد الإسرائيلي المُتغطرس بتُهم «مُعاداة السَّاميَّة». لقد جاهر دومًا بآرائه المُناهضة للجرائم التي ترتكبُها الدَّولة الصَّهيُونيَّة في حقّ الفلسطينيِّين العُزل، وشبَّه تلك الجرائم بما ارتكبته النَّازيَّة، بل قال: «إنَّها أكثر بشاعة». ولم يكتف «ساراماجو» بالقول وحسب، و إنَّما زار «جنين» بعد المذبحة التي مارستها إسرائيل، واندهش من الصَّمت الأورُوبِّي الأمريكي المُخزي الذي يُشجِّع إسرائيل على المُضي في جرائمها اللَّاإنسانيَّة البشعة. كما قاد المُظاهرات في إسبانيا مندِّدًا – آنذاك – بحصار إسرائيل للرَّئيس الفلسطيني الرَّاحل «ياسر عرفات» (1929- 2004م).

وقد ربطته علاقة وطيدة ومتميزة بالشَّاعر الفلسطيني الرَّاحل «محمُود درويش» (1941- 2008م)، الذي قال عنه في إجلالٍ وتقديرٍ : «أنْ تقـــــرأ محمُود درويش – بالإضافة إلى أنَّ ذلك يُمثِّل تجربة جماليَّة من المُستحيل نسيانُها – يعنى القيام بجولةٍ أليمةٍ على خُطى الظُّلم والعار اللذين كان ضحيَّتُهُما الشَّعب الفلسطيني على يدِّ إسرائيل».

وهو الذي قال عندما زار فلسطين: «إنَّ ما يحدُث هُنا جريمة يجب أنْ تتوقَّف،جريمةٌ يجب أنْ نضعها إلى جانب أُوشفيتز،إذ أنَّ رام الله بأسرها حُوصرت، والشَّعب الفلسطيني بأسره وضع في جيتوات،ليس هُناك أفران غاز في فلسطين،ولكنَّ القتل لا يتمُّ فقط من خلال أفران الغاز، هناك أشياء تمَّ فعلها من جانب الاحتلال الإسرائيلي تحمُّل نفس أفعال النَّازي في أُوشفيتز.. أُمُورٌ لا تُغتفر تحدث للشَّعب الفلسطيني».

الكاتب والباحث وفيق صفوت مختار

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *