صدر للنَّاقد «حُسين عيد» عن مؤسَّسة دار الهلال، كتابًا توثيقيًّا، بعنوان: «بهاء طاهر.. النَّاي الحزين». وقد جاء الكتاب في أربعة أبواب تناولت ملامح الحُزن الغالب على حياة وأعمال الرِّوائيّ الكبير الرَّاحل « بهاء طاهر»، ثُمَّ عرض تحليليّ سريع لأهمِّ مجموعاته القصصيَّة والرِّوائيَّة وكُتُبه الأخرى المُتضمِّنة لأهمِّ القضايّا المُعاصرة.
الموت كان شبحًا مُخيفًا أكتنف حياة الرِّوائيّ الكبير، وهُو طفلٌ صغيرٌ في السَّابعة مِنْ عُمْره، حينما كانت قذائف المدفعيَّة تمسُّح السَّماء بحثًا عن طائرة ألمانيَّة مع بدايات الحرب العالميَّة الثَّانية (1939- 1945م) فكانت تلك الحرب تحمل بين طيَّاتها تهديدًا سافرًا بالموت. وفي السَّابعة أيضًا حيث كان يعيش في قرية «المنشأة» بأقصى صعيد مصر، واجه كارثة انتشار وباء الملاريا الَّذي ضرب سُكَّان القرية البائسة في مقتلٍ، حتَّى أنَّه فَقَد نصف أُسرته !!
ولا ننسى أنَّ «بهاء طاهر» في طفولته كان يبدو عليه الضَّعف والهُزال، الَّذي أوحى لأُمّه بأنَّه لن يُعَمِّر طويلًا، لدرجة أنَّها كانت تُعطيه المُقوِّيات الشَّعبيَّة حتَّى يتمتَّع ببعض «السُّمنة». لقد كان مرضُه مُستمرًا ومعه بالطَّبع كانت تتزاحم الهواجس والمخاوف من موتٍ مَحْتُومٍ. وحينما رأى والده يُواجه الموت بشهقاتٍ مَكْتُومةٍ، رُبَّما في تلك الواقعة تحديدًا أدرك أنَّ الموت كان يتحيَّن اللَّحظة المُناسبة لينقضّ على البشر وهُم في غفلةٍ عنه.
ويُمكننا قراءة ملامح الحُزن البادية على «بهاء طاهر» مُنذ أنْ صدرت له قصَّة «المُظاهرة» (1964م) حتَّى قصَّة «بالأمسِ حلمت بك» (1983م)، كان حُزنه الشَّديد يعُود هذه المرَّة إلى هجمة السَّبعينيَّات مِنْ القرن المُنصرم، فلقد كانت هجمة ضدّ جيل بأكمله، لقد أُغلقت مجلَّة «المجلَّة» الَّتي كان يترأَّسها الأديب «يحي حقي» ( 1905 – 1992م)، وأغلقت مجلَّة «الفكر المُعاصر» التي كان يترأَّس تحريرها الدُّكتُور «فؤاد زكريَّا» (1927- 2010م)، وأُغلق كذلك المُلحق الأدبيّ لجريدة المساء الَّذي كان يُشرف عليه الصّحافيّ «عبد الفتَّاح الجمل» (المُتوفّي في عام 1994م)، كما أغلق المسرح القومي، في هذه الأثناء ذهب الشَّاعر «صلاح عبد الصبور» (1931-1981م) إلى الهند، والشَّاعر «أحمد عبد المُعطي حجازي» (المولود في عام 1935م) إلى فرنسا، والشَّاعر «مُحمَّد عفيفي مطر» (1935-2010م) إلى العراق، والنَّاقد «رجاء النَّقَّاش» (1934-2008م) إلى قطر، والفنَّان التَّشكيلي «جُورج البهجُوري» (المولود في عام1932م) إلى باريس، أمَّا «بهاء طاهر» فطار إلى جنيف.
أحبّ المُوسيقا، وعشق المسرح، وظلّ هُو ورفاق دَرْبه، أمثال: «رجاء النَّقَّاش» ، والقاصّ «مُصطفى أبُو النَّصر»، والشَّاعر «مُحمَّد سُليمان» أوفياء لأحلامهم الكبيرة حينما أرادُوا أنْ يصنعوا أدبًا جديدًا يُغيِّر المُجتمع، بعيدًا عن العاطفة المُلتهبة، أدبًا واقعيًّا يتناول هُموم المُجتمع بلُغةٍ كاشفةٍ وفي نفس الوقت لُغة جميلة ومُعبِّرة.
يتناول النَّاقد في كتابه بعض أعمال «بهاء طاهر» بالنَّقد والتَّحليل، فعلى سبيل المثال يتطرَّق إلى مجموعته القصصيَّة «لم أعرف أنَّ الطّواويس تطير» (2009م)، فهي قصص تدُور حول وحدة الإنسان الذي يمضي دائمًا مسرَّبلًا في دائرة الحياة الجهنَّميَّة، سواء عاش في بلده أو في بلدٍ آخر ، إنسانٌ يخضع لانقضاء الزَّمن وُصُولًا إلى خريف العُمْر تمهيدًا لانتظار ما لابُدّ منه، لا يملك إزاء تلك الحياة إلَّا التَّقبُّل والرِّضا.
أمَّا في روايته «قالت ضحّى» (1985م) فقد أراد «بهاء طاهر» أنْ يقوم بمُحاكمة ثورة يُوليُو المصريَّة، وقد اختار زمنًا مُحدَّدًا من تاريخ الثَّورة ليكُون نُقطة البدء الَّتي تنطلق منها أحداث الرِّواية، وفيها حاول أنْ تكون شخصيَّات الرِّواية الرَّئيسة رُمُوزًا أو نماذج تقُوم بتجسيد المُجتمع المصريّ. لقد حاول الأديب إبراز إيجابيَّات الثورة وسلبيَّاتها أيضًا، ولكنَّه كان قد ركَّز علي السَّلبيَّات أكثر، وهذا ما يتضح في: (الخوف مِنْ الثَّورة بين المواطنين ومحاولة إظهار أنَّهم مِنْ أنصارها اتّقاء لشرِّها ــــ تشدُّق كبار المسؤُولين بالعبارات الطَّنَّانة ــــ نقدٌ عنيفٌ لمشاركة الثَّورة في حرب اليمن ).
وفي رواية «الحُبّ في المنفى» (1995م)، حيث تَنْعكس فيها علاقات حُبّ تبدأ مِنْ الطُّفولة وتتنوَّع بين علاقات متقابلة وأخرى متوازية يَحْكُمُها جميعًا منظُومة مُعيَّنة تسطع بينها نماذج سامقة تَرْسُم في مُجملها لوحة باهرة لحركة البشر وسط هدير جوّ الاعتراف. زمنُ الرِّواية يمتد إلى عدَّة أشهر خلال عام 1982م، وتقع خلال أحداث غزو إسرائيل لجنُوب لبنان ومذابح «عَيْن الحُلوة»، وينتهي في أعقاب مذابح «صابرا» و«شاتيلا».
وأخيرًا رواية «نُقطة النُّور» (حُلْم الفنَّان بالتَّغيير) الصَّادرة في عام 2001م، فأغلب الظَّنّ أنَّ « بهاء طاهر» بعد عودته إلى مصر عام 1995م، وبعد رحلة اغتراب دامت حوالي خمسة عشر عامًا، أصبح مهمومًا بما يجري تحت بصره في الواقع من أحداثٍ، مثل: الفساد الَّذي استشرى في المُجتمع، وظُهور أشكال جديدة مِنْ الجرائم، والبُعْد الصَّارخ عن صحيح الدِّين.. عندئذ برز سؤال حول كيفيَّة النَّجاة، ورُبَّما في خضم اللَّحظة راوده حُلْم الفنَّان الأزليّ بالتَّغيير، بعيدًا عن تجربته الخاصَّة، مُعتمدًا في الأساس على رُؤيةٍ فِكْريةٍ، فجاء عملُه مُثقلٌ تحت وطأة الواقع المرير بحُلمٍ كبيرٍ لتغيير هذا الواقع، وهو ما نجدُه متناثرًا داخل الرِّواية، ورُبَّما هذا الَّذي دفعه إلى استعجال النَّتائج، فأجهض العمل قبل اكتمال فترة الحمل ،فولدت الرِّواية جنينًا مُشوَّه الملامح غير مكتمل التَّكوين، وهذا ما أكَّده النَّاقد في كتابه.
كان هذا عرضًا سريعًا مركَّزًا لعملٍ نقديٍّ مُهمٍّ، يُمثِّل إضافةً جديدةً لجوانب مُهمَّةٍ مِنْ عالم « بهاء طاهر» الصَّادق والثَّري والخصب والحزين أيضًا.
الكاتب والباحث وفيق صفوت مختار