تعد طبيعة الديانة المصرية القديمة ومصدرها من بين الموضوعات الأكثر إثارة للجدل في العصر الحديث، ويعزى ذلك إلى التشابه الواضح بين العديد من مقومات الإيمان لدى المصري القديم وبين الرسالات السماوية التي أضاءت درب الإنسانية من خلال الوحي الإلهي والتوجيه الرباني المتمثل في هدي الرسل والأنبياء.
من هنا، وصل العديد من الباحثين والمهتمين إلى أن الديانة المصرية القديمة تمثل ديانة توحيدية خالصة.
إن ما قيل دون ذلك يعزى إلى أخطاء المترجمين، بينما تمسك الفريق الثاني بأن الديانة المصرية القديمة ديانة وثنية قائمة على تعدد الآلهة بشكل كامل، وبغض النظر عن خلاف الفريقين، فإن هناك فعلاً تشابهاً لا تخطئه العين المدققة الرصينة بين رسالات السماء والعديد من عناصر الديانة المصرية القديمة، نظرًا لأن تلك العقيدة تعود إلى عصور غابرة من التاريخ، فإن ذلك يشير إلى أن عناصر التوحيد في العقيدة المصرية القديمة لم تكن نتيجة لتأثير احتكاك المصريين القدماء بالعبرانيين أو اليهود لاحقًا، بل إنها تعود إلى جذور عميقة تمتد إلى ما قبل ظهور تلك الشعوب على مسرح التاريخ. ولذا، فإن من المنطقي افتراض وجود أصول قديمة وسماوية لهذه الديانة.
في هذا السياق، أود أن أطرح تساؤلاً دائماً ما يخطر ببالي: هل يمكن أن يكون الخالق سبحانه وتعالى قد أرسل نبيًا خاصًا لأهل مصر، دعاهم إلى التوحيد، ولكن لم يُذكر اسمه في كتابه الكريم؟.
-( وَرُسُلًا قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِن قَبْلُ وَرُسُلًا لَّمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ ۚ وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَىٰ تَكْلِيمًا (164) رُّسُلًا مُّبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ ۚ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا (165) لَّٰكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنزَلَ إِلَيْكَ ۖ أَنزَلَهُ بِعِلْمِهِ ۖ وَالْمَلَائِكَةُ يَشْهَدُونَ ۚ وَكَفَىٰ بِاللَّهِ شَهِيدًا(166))- سورة النساء.
الأصل الإدريسي:
-( وَٱذۡكُرۡ فِي ٱلۡكِتَٰبِ إِدۡرِيسَۚ إِنَّهُۥ كَانَ صِدِّيقٗا نَّبِيّٗا (56) وَرَفَعۡنَٰهُ مَكَانًا عَلِيًّا )(57))- سورة مريم.
في فجر التاريخ المبكر، نالت مصر شرف وجود رسول خاص بها، وهو إدريس المعروف في التوراة باسم أخنوخ، الذي يُعتبر النبي الأول المعلم. عمل إدريس على تعليم المصريين مبادئ التوحيد ونقل لهم المعارف التي انتشرت في كافة أرجاء العالم. وقد اعتُبر من قبل بعض المؤرخين أنه أصبح ملكًا لمصر، بينما زعم آخرون أنه شخصية أوزوريس، كما سيتم توضيحه لاحقًا، كما شهدت مصر زيارة خليل الله إبراهيم عليه السلام الذي تزوج منها، بالإضافة إلى نشأة يوسف الصديق الذي ترعرع في مصر حتى أصبح عزيزها. كما زارها سيدنا يعقوب والأسباط، وعاش فيها النبيان موسى وهارون، وولد وتربى فيها يوشع بن نون. فضلاً عن ذلك، يشير تراث الكنيسة القبطية المصرية إلى تشريف السيد المسيح عليه السلام لمصر طفلاً. كما يخبرنا التراث الإسلامي بتشريف النبي محمد صلى الله عليه وسلم أرض مصر في رحلة الإسراء والمعراج، حيث زار جبل الطور بحسب بعض المرويات الحديثية، مما يعكس دور مصر المحوري في التاريخ الديني والثقافي.
ما دفعني لطرح سؤالي: هل من الممكن أن يكون الخالق سبحانه وتعالى قد أرسل نبيًا خاصًا لأهالي مصر، يدعوهم إلى التوحيد، ولكن لم يُذكر في كتابه الكريم؟، إن عقيدة التكوين المصرية ومبدأ الثواب والعقاب تمتدان إلى عصور سابقة بكثير، تصل إلى آلاف السنين، وهذا يعزز فرضية وجود رسول أُرسل إلى مصر، أو أن الجذور الأصلية للعقيدة ، أو أن الأصل في العقيدة إدريسي، وقد وصلتنا هذه المعلومات متوشحة بالعناصر الأسطورية الملحمية، كما هو مألوف في تاريخ الشعوب القديمة.
إن صفات الإله الخالق في الديانة المصرية القديمة تتقاطع مع المعاني الموجودة في الرسالات السماوية. حيث يوضح القرآن الكريم في العديد من آياته مبدأ وحدانية الله، الذي لا إله سواه، كما جاء في قوله تعالى:
-(قُلۡ هُوَ ٱللَّهُ أَحَدٌ (1) ٱللَّهُ ٱلصَّمَدُ (2) لَمۡ يَلِدۡ وَلَمۡ يُولَدۡ (3) وَلَمۡ يَكُن لَّهُۥ كُفُوًا أَحَدُۢ (4))- سورة الإخلاص
-(اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّوم (255) )- سورة البقرة
-( وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (27))- سورة الروم ( -( لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ(11 ))- سورة الشورى.
-(هُوَ ٱلۡأَوَّلُ وَٱلۡأٓخِرُ وَٱلظَّٰهِرُ وَٱلۡبَاطِنُۖ وَهُوَ بِكُلِّ شَيۡءٍ عَلِيمٌ (3)هُوَ ٱلَّذِي خَلَقَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٖ ثُمَّ ٱسۡتَوَىٰ عَلَى ٱلۡعَرۡشِۖ يَعۡلَمُ مَا يَلِجُ فِي ٱلۡأَرۡضِ وَمَا يَخۡرُجُ مِنۡهَا وَمَا يَنزِلُ مِنَ ٱلسَّمَآءِ وَمَا يَعۡرُجُ فِيهَاۖ وَهُوَ
مَعَكُمۡ أَيۡنَ مَا كُنتُمۡۚ وَٱللَّهُ بِمَا تَعۡمَلُونَ بَصِيرٞ(4))- سورة الحديد
(لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا ۚ فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ(22))- سورة الأنبياء
وايضاً وردفي في التوراة في سفر أشعياء – أَنَا هُوَ الرَّبُّ وَلا إِلَهَ غَيْرِي. لَيْسَ هُنَاكَ آخَرُ، شَدَّدْتُكَ مَعَ أَنَّكَ لَمْ تَعْرِفْنِي. حَتَّى يُدْرِكَ النَّاسُ مِنْ مَشْرِقِ الشَّمْسِ وَمِنْ مَغْرِبِهَا أَنِّي أَنَا هُوَ الرَّبُّ وَلَيْسَ هُنَاكَ آخَرُ.
وأيضا في سفر التكوين – في البدء خلق الله السموات والأرض تك ( 1- 1) .
على الرغم من تنوع قصص الخلق في مصر القديمة وفقًا للمناطق الجغرافية المختلفة، إلا أن الميثولوجيا الأونية التي ترجع إلى مدينة هليوبوليس (عين شمس الحالية) تُعتبر الأكثر انتشارًا وشيوعًا. وقد انتشرت هذه الميثولوجيا في جميع أنحاء مصر القديمة، وتتوافق بشكل كبير مع نظرية الأشمونين والعديد من النظريات الأخرى. وتفصح هذه النظرية عن:
إن العالم قبل وجود الآلهة كان عبارة عن محيط أزلي لا نهائي من المياه، وأُطلق عليه اسم (نون)، ومن هذا المحيط ظهرت روح (الإله آتوم) (آتوم من رع خبر)، إله الشمس في صورته الكاملة، والذي خلق نفسه بنفسه بشكل ذاتي وكان يستقر على تل فوق تلك المياه. لذا نجد أن الخالق آتوم هو واحد، مما يعني الأول في بعض الآراء. يشير المصطلح الآخر إلى الكمال أو الاكتمال، مما يدل على أنه يعتمد على ذاته بشكل كامل ولا يحتاج إلى أي شخص آخر، بينما يحتاجه الجميع.
لاحقاً، تم توحيد آتوم مع رع، ثم تم دمجهما مع آمن (أمون) كما يُشاع، وأيضاً مع بتاح (فتاح). يعُدُّ آتوم رع الخالق الوحيد لدى المصريين القدماء، فهو الذي خلق السماوات والأرض والكيانات العُليا التي وكلها بحفظ أو تمثيل عناصر الطبيعة أو أداء أدوار خاصة مع البشرية، قد توازي أدوار الملائكة كما سنرى لاحقاً.
ورغم أن قدماء المصريين قد وقعوا بفخ التغير والتبديل والتحريف، وذلك بسبب تباعد الزمن بين أجيالهم المتعاقبة وبين الرسالة الإلهية، وتقديمهم العبادة إلى الكيانات الأدنى التي خلقها الإله الكامل آتوم، فإن هناك نصوصًا كثيرة تركوها تشير إلى معرفتهم بأن الإله الحقيقي واحد، وهو ذات الرب الواحد الذي قام أخناتون بثورته الدينية من أجله، ورمز له بقرص الشمس (آتون)، قام كهنة آمون بإجهاض ثورة أخناتون، حيث يحتوي كتاب الموتى ومتون الأهرام، بالإضافة إلى ترانيم أخناتون، على نصوص تعبر عن مفهوم التوحيد. ومن بين تلك النصوص، نجد ما ورد في متون الأهرام من عصر الدولة القديمة، الذي يعود إلى حوالي 4500 قبل الميلاد.
- الإله واحد، أحد، ولا ثاني له. الإله باطن خفي، ولا أحد يعرف تكوينه، ولا أحد يمكنه أن يدرك كنهه وماهيته، ولا شبيه له، وهو خالق الكون وكل ما فيه، خلق السماوات والأرض والأعماق، وما تحت الثرى، والمياه والجبال.
- السيد المطلق مالك كل شيء، الذي لا نهاية ولا حد له، لا تدركه العقول ولا تصل إلى كنهه الأفكار.
صفات الله الخالق:
إن الله، في الديانات السماوية، واحدٌ لا شريك له، وهو العليم القدير الحكيم، الأول والآخر. تتجاوز صفاته تصورات العقل البشري وإدراكه، فهو يدرك الأبصار بينما لا تدركه الأبصار. وهو وحده خالق الكون. وفي النص السابق من العقيدة المصرية، نجد تجلّي تلك العناصر ذاتها بأجمل الصور والعبارات.
وقد توزعت صفات الإله الواحد عند قدماء المصريين بين الأقانيم الثلاثة أو التجليات الثلاثة التي تم ضمها معًا من خلال رع، فالخالق الواحد والكامل والأول والتام والمستغني عن غيره هو آتوم، والخفي الذي لا يُرى ووجوده فوق إدراك البشر هو آمن أو آمون، بينما صاحب الإرادة المطلقة الذي يخلق عن طريق الكلمة وينفخ الروح في الكائنات هو بتاح.
وكل من هذه الشخصيات أو الأقانيم هي ذات الإله نفسه، إذ أصبح الجميع رع، ورغم ذلك وقعت الأجيال البعيدة في فخ عبادة مخلوقات هذا الرب الواحد، مما يماثل وضع مشركي قريش الذي ذكره الحق سبحانه وتعالى:
-( تَنزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (1) إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَّهُ الدِّينَ (2)أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ ۚ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَىٰ إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ ۗ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ(3))- سورة الزمر.
قصة الخلق والتكوين:
يشير الإسلام إلى أن الله سبحانه وتعالى خلق السماوات والأرض في ستة أيام، وكان عرش الله على الماء، كما في قوله تعالى:
-(هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا ۗ وَلَئِن قُلْتَ إِنَّكُم مَّبْعُوثُونَ مِن بَعْدِ الْمَوْتِ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَٰذَا إِلَّا سِحْرٌ مُّبِينٌ (7)- سورة هود
وقد ورد معنى مشابه في سفر التكوين الاصحاح الأول أيضا :ً1- فِي الْبَدْءِ خَلَقَ اللهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ.2- وَكَانَتِ الأَرْضُ خَرِبَةً وَخَالِيَةً، وَعَلَى وَجْهِ الْغَمْرِ ظُلْمَةٌ، وَرُوحُ اللهِ يَرِفُّ عَلَى وَجْهِ الْمِيَاهِ.
في نظرية التكوين لدى المصري القديم، يظهر لدينا محيط المياه الأزلي نون، وفي هذا المحيط يظهر عرش آتوم متمثلاً في اليابسة الأولى، حيث تجلى الرب فوقها مظهراً صفة الخلق والتكوين. وبذلك، تجلت قدرة الإله على العرش فوق الماء الأزلي الذي سيُخلق منه كل شيء، إن التأمل في ما خلفه الأجداد يمكن أن ينقل الإنسان إلى أعماق الفكر، وعليه، إذا تمسكنا بالنص الحرفي، فإننا نجد أن لدينا إلهاً واحداً خالقاً، الذي تجلى فوق الماء على اليابسة قبل أن يخلق أي شيء.
تكوين السماء والأرض وفصلها:
من المعروف أن الرسالات السماوية تتفق على خلق السماوات والأرض في أحقاب زمنية مقدارها ستة أيام، ويعكس هذا الخلق فعل الإله الواحد. كما يوضح القرآن الكريم في السياق الإسلامي أن السماوات والأرض قد كانت في البداية كيانًا واحدًا ثم جرى فصلها، كما ورد في قوله تعالى:
-( وَمَن يَقُلۡ مِنۡهُمۡ إِنِّيٓ إِلَٰهٞ مِّن دُونِهِۦ فَذَٰلِكَ نَجۡزِيهِ جَهَنَّمَۚ كَذَٰلِكَ نَجۡزِي ٱلظَّٰلِمِينَ (29) أَوَلَمۡ يَرَ ٱلَّذِينَ كَفَرُوٓاْ أَنَّ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضَ كَانَتَا رَتۡقٗا فَفَتَقۡنَٰهُمَاۖ وَجَعَلۡنَا مِنَ ٱلۡمَآءِ كُلَّ شَيۡءٍ حَيٍّۚ أَفَلَا يُؤۡمِنُونَ (30) وَجَعَلۡنَا فِي ٱلۡأَرۡضِ رَوَٰسِيَ أَن تَمِيدَ بِهِمۡ وَجَعَلۡنَا فِيهَا فِجَاجٗا سُبُلٗا لَّعَلَّهُمۡ يَهۡتَدُونَ (31) وَجَعَلۡنَا ٱلسَّمَآءَ سَقۡفٗا مَّحۡفُوظٗاۖ وَهُمۡ عَنۡ ءَايَٰتِهَا مُعۡرِضُونَ (32) وَهُوَ ٱلَّذِي خَلَقَ ٱلَّيۡلَ وَٱلنَّهَارَ وَٱلشَّمۡسَ وَٱلۡقَمَرَۖ كُلّٞ فِي فَلَكٖ يَسۡبَحُونَ (33) )- سورة الأنبياء.
في إطار المعتقدات المصرية القديمة، قام الإله آتوم بخلق إله الهواء (شو) وإلهة الرطوبة (تفنوت). وقد نتج عن التزاوج بينهما ظهور إله الأرض (جب)، الذي يجسد العنصر الذكوري، وآلهة السماوات (نوت)، التي تمثل العنصر الأنثوي، حيث كانا مرتبطين ببعضهما البعض. وقد أسند الإله آتوم إلى (شو) مهمة فصلهما عن بعضهما.
التشابه في قصص الأنبياء والصالحين:
إن التشابه الواضح لا يقتصر فقط على الخلق والتكوين، أو على وحدة الخالق وصفاته المتعالية، بل يمتد ليشمل بعض ما ورد في قصص الأنبياء. فقد كانت الشعوب القديمة، قبل ظهور الكتابة، تنقل تراثها الديني والتاريخي شفوياً من خلال قصص وروايات أسطورية.
تُظهر الأسطورة الملكية التي ترتبط بسليل الآلهة، أن الملك أوزير، المعروف في اللغة اليونانية بأوزوريس، هو أول الملوك الذين تولوا الحكم بعد رع مباشرة. ويُعتبر هذا الملك الإله مؤسس الحضارة المصرية، حيث يُنسب إليه الفضل في تعليم المصريين العديد من العلوم الأساسية، بما في ذلك الفلك والزراعة والطب والهندسة وغيرها،
ومن الصعب إنكار التشابه اللفظي والقصصي بين إدريس عليه السلام وأوزير. فكلاهما يمثل ملكًا عادلًا مُلهَمًا من السماء، وقد قدما للناس المعرفة في مجالات الزراعة والتخطيط والكتابة والطب والحكمة، كما تعلما فنون الملابس المخيطة. بالإضافة إلى ذلك، ترك كلاهما الدنيا مرتين؛ حيث عُرج بإدريس إلى السماء ليتلقى العلم قبل أن يعود ليعلم الناس، ثم رُفع في النهاية، كما تم قتل أوزوريس ثم بُعِثَ مرة أخرى، ورفع إلى مرتبة الألوهية. وقد ورث إدريس، المعروف أيضًا بأخنوخ، ملكه ومكانته لابنه متوشالح، بينما أورث أوزوريس نفس الإرث لابنه حورس. وقد ذُكر إدريس في سفر التكوين: ـ وعاشَ أخنوخُ خَمسًا وسِتينَ سنَةً، ووَلَدَ مَتوشالَحَ. وسارَ أخنوخُ مع اللهِ بَعدَ ما وَلَدَ مَتوشالَحَ ثَلاثَ مِئَةِ سنَةٍ، ووَلَدَ بَنينَ وبَناتٍ. فكانَتْ كُلُّ أيّامِ أخنوخَ ثَلاثَ مِئَةٍ وخَمسًا وسِتينَ سنَةً. وسارَ أخنوخُ مع اللهِ، ولم يوجَدْ لأنَّ اللهَ أخَذَهُ سِفرالتكوين-الإصحاح الخامس-الآيات من 21 إلى 24.
عرف اليونانيون سيدنا إدريس عليه السلام باسم هرمس، الذي يُعتبر رسول الآلهة وناقل العلوم. وقد تم دمجه مع الإله المصري تحوت الذي يؤدي نفس الوظيفة. ممت بعكس بوضوح تداخل الثقافات والمعارف، وليس من قبيل الصدفة. على الرغم من ذلك، تبرز قصة أوزير لتتطابق في جوانب رئيسية مع قصة إدريس عليه السلام، مما يُظهر تأثير الأسطورة المتبقية عن نبي شهد تغييرات عبر الأجيال والعصور.
يبدو أن أوزير يحتل مكانة بارزة في هذه القصص، إنّ من يتأمل في قصة الأخوين قابيل وهابيل المذكورة في القرآن الكريم والتوراة، يصعب عليه تجاهل تفاصيلها الواضحة في قصة أوزوريس وأخيه القاتل ست أو سوتخ. إنّ التشابه الغير عادي في عناصر القصتين، بالإضافة إلى سردية أوزير- إدريس، يتواجد في سياق قصة الخلق والتكوين والإله الواحد القادر الذي نصب عرشاً على المياه الأزلية، مما يعزز فرضية الأصل السماوي للديانة المصرية القديمة.
التشابه مع ما ذُكر عن سيدنا موسى عليه السلام في بردية مصرية:
تُعتبر قصة موسى عليه السلام من أبرز القصص المذكورة في القرآن الكريم والكتاب المقدس، وما يثير الدهشة هو ما ورد في بردية مكتوبة بالخط الديموطيقي تعود إلى العصر اليوناني معروضة في المتحف البريطاني، تتضمن قصة (سي-أوزير) ابن الأمير “ساتنى” (خع-ام-واس) ابن الملك رمسيس الثاني، وكان سي-أوزير ساحر يتمتع بقدرات عجيبة، وفي البردية يواجه ساحراً إثيوبياً جاء بهدف إذلال الفرعون، وقد قام هذا الساحر الإثيوبي بعدة أعمال سحرية، إلا أن (سى – أوزير) استطاع أن يبطل جميعها، ومن بين هذه الأفعال، ألقى الساحر الحبشي مجموعة من العصي على الأرض، فتحولت إلى حيات، فقام سي أوزير بإلقاء حزامه على الأرض وقرأ بعض الأكواد السحرية، ما أدى إلى تحول الحزام إلى ثعبان ضخم قام بابتلاع أفاعي الساحر الحبشي. ورغم أن البردية تعود إلى العصر البطلمي، فإن ما تحتويه من مضمون فريد يسهم في الإجابة على تساؤل يطرح غالبًا حول غياب قصص الأنبياء في السجلات التاريخية، تؤكد هذه البردية أن هذه القصص تعيش في صورة مرويات شعبية أسطورية، ويمكن اكتشاف أثارها عند إجراء البحث في النطاق المناسب.
الحياة الآخرة وميزان الحساب:
يُعتبر مصير الإنسان العنصر الأهم في الديانة بعد عقيدة التوحيد، حيث يسعى الإنسان من أجل هذا المصير إلى عيش حياة فاضلة، ليُقابل جزاءه الحسن في الآخرة. ويشير القرآن الكريم إلى أن أعمال الإنسان تُوزن بعد وفاته، حيث تُقارن الأعمال الصالحة بالسيئة. وميل أحدى كفتي الميزان يؤدى إلى تحديد مصيره الأبدي، إما إلى الجنة أو إلى النار، كما في قوله تعالى :
-(فَأَمَّا مَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ (6)فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ (7) وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ (8) فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ (9) وَمَا أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ (10) نَارٌ حَامِيَةٌ- (11))- سورة القارعة
تمثل فكرة الميزان تعبيرًا ساميًا عن قيمة العدل، إذ لا يجب تحميل شخصٍ وزر آخر، مما يعكس علم الله الشامل وقدرته على وزن كل فعل بدقة تامة، حتى لو كانت بحجم ذرة. وقد تجسد هذا المبدأ النبيل في الحضارة المصرية القديمة مع اختلاف الشكل، حيث يظهر مشهد مهيب يقف فيه المتوفي أمام المحكمة الإلهية التي يرأسها الإله أوزير. وفي هذا السياق، يقوم الإله أنوبيس بتقديم قلب المتوفي ليتم وزنه مقابل ريشة الصدق، مما يبرز أهمية العدالة في تلك الحضارة، ويختص تحوت بتولّي الميزان، فإن رجحت الأعمال الحسنة للمتوفى، فإنه ينتقل إلى حقول خضراء مزدهرة، والتي تُعتبر بمثابة الجنة. أما إذا كان قلبه مثقلاً بالشرور، فسيبتلعه الوحش الأسطوري عمعموت، مما يؤدي إلى هلاك روحه.
الخاتمة
إن استكشاف عمق الديانة المصرية القديمة وعلاقتها بالرسالات السماوية السابقة يعد قضية تتطلب أبحاثاً معمقة نظراً لتنوعها وغناها بالتفاصيل، فالذي ينغمس في هذا المجال يجد نفسه مشدوداً إلى التعمق واستكشاف تلك الأبعاد الخفية، وكشف ما يكتنزه تاريخ الأجداد من عظمة حضارة رائدة كانت بمثابة منارة للإنسانية.
الكاتب سيد جعيتم