العنوان “أنا”، و”أنا” إسقاط على الذات، وحديث عن مكنون النفس، وإفصاح عن دخيلتها، والحديث بضمير المتكلم أصدق بيان يصدر عن النفس ويخبر عنها.
فهي “أنا” الكشف والإفصاح، و”أنا” البيان والإيضاح، و”أنا” البوح والاعتراف.
فماذا يريد الشاعر أن يقول عن نفسه؟ لقد قسم الحديث عن نفسه إلى شرائح، جعلها في مقاطع، جاعلًا من نفسه جغرافية، وطنًا، أرضًا، سماء، …. وزع نفسه بين روح وجسد ونفس وعقل، بين انتماء ولا انتماء، بين نور وظلام، بين خوف وأمان، بين فرح وحزن.
الأنا هنا هي المسيطرة، الناطقة في صدق وجلاء، في نشوة وانتشاء، في ضعف وانكسار.
إنها حكاية الذات وتأريخ لها، ورصد لحركتها وشوقها وحلمها وأملها وألمها، هي كشف لكينونة الذات، وتعرية لها أمام الآخر دون ستر أو غطاء.
وعلى أنغام بحر الوافر تفجرت ينابيع البوح حاملة أنات الشاعر وآلامه ووجده، مما جعله يستعين بالوافر والذي أعانه على حمل الكلمات الجياشة في عدوها والتي ينفثها صدره المكلوم، ومن ثم كثر العصب، ليلتقط أنفاسه الحرى، مما سمح للتداخل بين بحري الوافر والهزج في الكشف عن مكنون الذات وفض بكارة الكلمات.
و”الأنا” في شعر د. طارق عتريس أبو حطب جاءت معادِلًا للذات، ومعادَلًا بها بما يكشف عن معاناته والتي تتماهى لحد الذوب في حالات وجودية ووجدية وميتافيزيقية.
ويحضر الضمير المتكلم المنفصل “أنا” في عدة تجليات تبوح بها قصيدته المعنونة به، وعبر سياقات القصيدة في مقاطعها المتعددة.
والعنوان “أنا” يحيل إلى الذات، ويفتح شهية المتلقي إلى استكشاف مواقع خفية واقتحام مجاهل النفس وسبر أغوارها واستكناه كنهها، ففي المقطع الأول يحدثنا الشاعر عن نفسه، فيقول:
(أنا عمر من الأحزان يحياني
وأحياه)
يتلبس الشاعر إحساس عميق بالحزن، ملأ هذا الحزن جنبات عمره، وامتزج به، حتى غدا هو والحزن صنوان، مختزلًا عمره كله في الحزن يحيا به ويحيا فيه.
ثم يقول:
(أنا الشوق
أنا اللقيا
أنا الملتاع في كون
يعانقني
نعيق الهجر منتشيا
فيصليني
ويحرقني
ورغم الآه ألقاني
شريدًا ضل ممشاه)
يأتي التجريد مع تكرار الضمير “أنا” والتي ناوب معه “ياء المتكلم”، مما جعله لا يخبر عن شوقه وإنما هو ينعت نفسه بالشوق وباللقيا وبالالتياع، وبالرغم من ذلك أصلاه الهجر وأحرقه بناره فضل الطريق.
(أنا غصن
من الأوجاع منكسر
وقلب شفه الوجد
وأحلام مبعثرة
وآمال
تمزق بالأسى نبضي
تعربد في حناياه)
يحيل الشاعر نفسه إلى غصن، وعهدنا بالغصن أن يكون وارف الظلال مثقلًا بالثمار، ولكن الغصن الذي جعله الشاعر معادِلًا لذاته هو غصن من الأوجاع، زاده وجعًا انكساره بالحزن والذي اعترى آماله فراحت تمزق نبض فؤاده وتعربد في حناياه.
(أنا نجم
أضاء الدرب في ألق
أزاح غياهب الحزن
من الأيام والدنيا
وبدد غيمة اليأس
وأعطى الشوق أنوارا
وأقدارا
وأشعل فيه تذكارا
وأجرى للهوى دربا
لكي يحيا
لكي يسعى
يحيل العمر أزهارا
وأنغاما
وقيثارا
فضل النجم مسعاه)
في هذا المقطع يبدد الشاعر غياهب الحزن بالضياء، حيث تتألق الكلمات مع هيمنة صوت (الراء) محدثًا تكرارًا أكد على قصدية الشاعر في إضاءة الكلمات، مع استعانتها بالأصوات الانفجارية، والتي فجرت النور في الكلمات التي تراوحت بين البصرية والسمعية؛ فنرى الشوق أنوارًا، والهوى دربًا، والعمر أزهارًا وأنغامًا وقيثارًا. ولكن باءت كلها الفشل وعاوده التيه.
(أنا الحزن
إذا غنيت عانقني
ظلال اليأس في زهو
وطوقني
وأرقني
وأضناني
وأجرى الدمع أشلاء
وأنهارا
بلا شطآن
أو مرسى
فأسبح بين أمواج من النيران تحتدم
وتضطرم
يموت الحلم محترقا
وجوف الموج
مأواه)
إن غنائية الضياء لم تصمد طويلًا فغلبه الحزن، فنرى هذا المقطع رجع الصدى لمطلع قصيدته، فهو هنا يفصل ما أجمله هناك، ويقرن بين الغناء وبين الحزن واليأس. ويبدو أن حزن الشاعر حزن ميتافيزيقي يراه في كل شيء حوله ويطوقه ويؤرقه ويضنيه، حتى إنه:
(يغلفني
دثار الهم ينهشني
ويعصرني
ويشرب نخبه مني
ويطويني
ويرديني
يجفف نبع أوردتي
ويهدم طيف بنياني
ويحرق روضتي الخضراء
ويهدي الريح أنسامي
وأحلامي
ويعلن في الفضا موتي
ويخرس ضحكة الذكرى)
إن تصدر الأفعال المضارعة كل جملة مع كثرة ورود ضمير المتكلم، تشي جميعها بهيمنة الهم عليه، والذي عبر عن هيمنته بأنه (يطويني، يرديني، يهدم طيف بنياني، يحرق روضتي، يعلن في الفضا موتي، …).
إن هيمنة الهم استمرار لهيمنة الحزن، فهما وجهان لعملة واحدة تسحق الشاعر تحت دثارها وتسيمه العذاب بنيرها. وتكون النتيجة:
(فألقاني
رمادا ما له لون
فحيح الريح يحمله
يفرقه
فما شفعت لي الشكوى
ولا هشت لي الآه)
لقد استخدم الشاعر اللغة الموحية في قوله “فحيح الريح”، والفحيح هو صوت الحية، وثمة علاقة بين صوت الحية والصوت الذي تصدره الريح في عنفوانها وغضبتها. إنها النهاية الحتمية نتيجة تلك المواجهة مع الذات ومع الآخر، والتي تنقلنا قسرًا إلى المقطع الأخير:
(أنا الوجد
أنا الروض
أنا الماء أنا الطين
أنا الزهر
أنا الطير
أنا الفرح
أنا الدمعة
أنا المصلوب في ذاتي
أنا المسلوب أوردتي
أنا المقتول بالشفعة
أنا الحرف
أنا الحلم
أنا فجر الهوى الآتي
أنا النبض الذي غنى
أنا الفجر الذي ولى
أنا العطر الذي فاح
أنا العشاق والعشق
أنا الدنيا التي تحيا
ونور بهائها هلا
أنا الملقى إلى اليم
أنا المأسور في همي
أنا من مات في القرعة
وعاد الفجر أحياه)
في هذا المقطع الختامي طغيان لضمير المتكلم المنفصل ذكر وحده واحدًا وعشرين مرة، عدا مرات ورود ضمير المتكلم المتصل ثلاث مرات. تماهى فيه الشاعر مع الموجودات ومع الطبيعة في اتحاد صوفي تعانق فيه التناص الديني بالأسطوري، مما منحه مساحة في الزمان وبعدًا واستغراقًا في المكان.
وكما بدأ حديثه بالحزن انتهى إليه مما يجعل قصيده مدورة تدور رحاها في حلقة مفرغة مبتدؤها ومنتهاها هو ذلك الحزن الذي خيم على الذات فاصطبغت به.
وهنا تأتي حقيقة الأنا في كشفها عن مكنون الذات ومعاناتها في تجربة الحزن التي تحيط بها إحاطة السوار بالمعصم حتى إن الشاعر لا يستطيع الانفلات من قبضته.
د. سعيد محمد المنزلاوي