نسعى في هذه المقالة، إلى الإضاءة على معنى مصطلح “الإعلام الحربيّ”، والإطّلاع على أسباب نشوء هذا النّوع من الإعلام المتخصّص، ورصْد التطوّر الذي طرأ على آليّاته التنفيذيّة واللوجستيّة الحديثة.
ما هو الإعلام الحربيّ؟ إنّه كناية عن جمْع البيانات والمعلومات والصّور والحقائق والرَّسائل، من المصادر المنْبثقة عن الانشطة العسكريّة والاستعدادات القويّة للجّيوش. ومنْ ثمَّ العمل على شرْحها ومعالجتها والتأكّد من مصْداقیّتها وصياغتها بأسلوب دقيق ونشْرها على الصَّعيد المحليّ والإقليميّ والدوليّ، وذلك عبْر وسائل الإعلام كافّة. ويأتي هذا العمل بهدف إشاعة المعلومات الصَّحيحة عن الامكانات العسْكريّة التّابعة للدّول الأخرى، وخاصّة المعادية منها. وكذلك بهدف إحباط نوايا الحملات المضادّة، التي تسعى إلى إضعاف المعْنويّات العسْكريّة والدّفاعيّة لجيش الوطن، أو التأثیر على التلاحم بین الشَّعب والجيش، مع التأكید على الولاء للوطن.
وممّا يترتّب على دوْر الإعلام الحربيّ، نشْر الاخبار والمعلومات الدَّقيقة التي ترْتكز على الصّدق والحقائق ومخاطبة الجماهیر، إذْ يساعد هذا الأمر على إدارك ما یجري في الأمجلة الحربيّة وتكوين آراء صائبة في الأمور الهامّة المعْنيّة بها، بحیث لا تتعارض تلك الحقائق والمعلومات مع الأهداف العسْكريَّة العلْيا التي تخدم قضايا الشَّعب والدّولة في آن واحد.
ولأنَّ الإعلام الحربيَّ يُعتَبر أحد الأفرع المتخصّصة للإعْلام العامّ، فإنَّه يتمتّع بمناهِجَ عديدة منها:
-المنْهج التَّاريخيّ: يرصد مراحل التطوُّر التاريخيّ للحدث وأسلوب معالجتِه، والتعبير عن تطوّر مراحله، وما يستجدّ فيه من متغيّرات.
-المنْهج الإجْتماعيّ: يركّز على عمليّة التفاعل، ويحاول متابعة العناصر المختلفة للموقف، عبر تحديد وزْن كلّ متغيِّر في عمليّة التفاعل وشرْحه وردّه إلى مقوّماته.
-المنْهـج النَفْسيّ: يركّز على تتبّع ظاهرة الرأي العامّ، لدى الجماهير والحالة النفسيّة للشَّعب، إزاء التطورات التي تحدث حوله داخليًّا وخارجيًّا.
-المنْهج السّياسيّ: هو المنهج الذي يرى في الرأي العامّ الإتّجاه الوحيد الذي تنْصهر في بوْتقته جميع الإتّجاهات المعبّرة عن حالة المجْتمع سياسِيًّا. وهو منهج لابدَّ أنْ يكون دقيقًا وصريحًا حتىّ يحشد الجماهير من أجل تحقيق الهدف القوميّ.
وللإعلام الحربي دور هامّ في تنفيذ الاستراتيجيّة الاعلاميّة للجَّيش والدَّولة، لا سيَّما أنّه يقوم على غرْس مبْدأ الدّفاع والبذْل والعطاء والتهْيئة النفْسيّة والمعْنويّة للجنود، وعلى تعزيز الكيان المعنويّ للوطن، باعتبار أنَّ التوعية بمفهومها الشَّامل، تُعتبر ركيزة أساسيّة لوقوف الشَّعب إلى جانب جيشه الباسل. كما يعمل هذا الدَّور على الاسهام في إعداد الشَّعب للمعركة، من خلال التعْريف بأهداف الحرب، وشرْح أبعاد قضيّة الصّراع، حتىّ تكتمل عناصر الثّقة والدَّعْم والتأييد.
نشأة الاعلام الحربيّ
برز الاعلام الحربي، في مطلع القرن الماضي، إبّان الحرب العالمية الثَّانية، حيث استخدمتْ سويسرا البثّ الإذاعيّ عبْر الموجات القصيرة، لشرْح سياستها للعالم. وبما أنَّ وثائق نشراتها الإخْباريَّة أصبحتْ اليوم في متناول الجميع، عبْر شبَكة الإنترنت، فإنَّ ذلك سمح للمؤرّخين بإظهار معالم الصّورة التي كانت سويسرا آنذاك، ترغب في إعطائها عن نفْسها.
وكانت إذاعة سويسرا العالميّة، قد حلّتْ مع مضيّ الأعوام، محلَّ إذاعة الموجات القصيرة، واحتفظتْ بالتَّقارير الصَّادرة عنها آنذاك، ومنْ بينها مخطوطات النشرات الإخْباريَّة والتعليقات التي تمَّ بثّها أثناء الحرب العالميّة الثانية.
وقد تمَّت عملية ترقيم هذا الكمَّ الهائل من الوثائق، ودمْجها في بنْك معلومات يسْمح بالوصول إلى الوثائق والاطّلاع عليها. لكنَّ الدّراسة التاريخيَّة التي تتوخَّى التأريخ لدور الإعلام المسموع في تعزيز دور الإعلام الحربيّ، وفكّ شيفْرات الرَّسائل المرْسلة عبْر الموجات القصيرة، سواءٌ في سويسرا أو غيرها من الدُول التي شاركتْ في تلك الحرب، مازالتْ في مرحلة التطْوير، لا سيّما فيما يتعلَّق بدور الإذاعات العالميّة. لذلك تسمح محفوظات إذاعة الموجات القصيرة السويسْريّة تلك، بإعطاء الدَّفْع نحو المعرفة في هذا الميْدان، خصوصًا وأنَّ إذاعة الموجات القصيرة التي استخدمتْها سويسرا في تلك الحقبة من العقْد الثَّاني من القرن العشرين، تتمتَّع بإمْتلاك خاصيَّة كبيرة تكْمن في كونها مؤسَّسة قامتْ بتقديم خدمة موجَّهة للجمهور في الخارج. وهو ما يتطلَّب معالجة الأحداث بشكل مغاير لما يتّم في وسائل الإعلام المحليَّة. وهذه مسألة ثمينة، لأنَّ الأمر يتعلَّق بوسيلة الإعلام السويسْريَّة الوحيدة التي خاطبت الخارج في أوقات الحرب. ولكنْ، من البديهيّ أنَّ قراءة هذه الوثائق لن تؤدّي بالضَّرورة إلى تغيير جذْريّ، أو تجديد شامل للنَّتائج المعروفة عن سويسرا، أثناء الحرب العالميَّة الثَّانية.
بدايات تأسيس الصَّحافة العسكريَّة في بلادنا العربيَّة
يُعتَبر الإعلام المطبوع من أهمّ أدوات الإعلام الحربيّ، لما له من أثر ونفوذ في وجدان المواطن، مدنيًّا كان أمْ عسكريًّا. فمنْ خلال الصَّحافة يستطيع جيش الوطن توْعية دور المواطن للمشاركة في إعداد الدَّولة لجيش معزّز بأهم العتاد للدّفاع عن الشَّعب والأرض، وكذلك إبراز دور الدَّولة في السَّعي إلى أنْ يكون لها قوَّات مسلَّحة قادرة على العمل والتحرّك، في الإطار الوطنيّ والإقليميّ معًا.
ولقد انبثقت الصَّحافة العسْكريَّة عن الصَّحافة بشكلٍ عام، مع بدْء تأسيس الصّحف، حيث جرى إفْتتاح مجلاَّت عسْكريَّة للكتابة عن الحروب وتطوّراتها، وذلك في القرنيْن الثَّامن عشر والتَّاسع عشر، حيث عرف الوطن العربيّ الصحافة العسكريَّة في وقت مبْكر، ولعلَّ أقْدم مطبوعة عسْكريَّة متخصّصة ظهرتْ في الوطن العربيّ كانت ( الجريدة العسكريَّة المصْريّة ) التي أُنشِئتْ بعناية إسماعيل باشا في مصر، في العام ألف وثمانمائة وخمسة وستّين، وهي جريدة كانت تصْدر في القاهرة في الأوَّل منْ كلّ شهر عربي ، وكانتْ تُطبَع في المطبعةِ الأميرية. والغريب أنَّها كانتْ تُوزَّع في ذلك الوقت مجَّانًا على القرّاء .
ومنْ أوائل الدَّوريَّات العسكريَّة العربيَّة ( جريدة أركان حرب الجيش المصريّ ) وهي شبْه مجلّة بقَطْع صغير، صدرَ العدد الأوّل منها في القاهرة بتاريخ الحادي عشر من شهر تموز( يوليو) في العام ألف وثمانمائة وثلاثة وسبعين. كانتْ تصدر منْتصَف كلّ شهر هجريّ وكانتْ تنشر رسومًا للأسلحة والخرائط لبعض المواقع. إلى ذلك، شهدت البلدان العربية، حركة واسعة في سياق تأسيس مجلاَّت عسكريَّة، نذكر منها (مناظر الحرب) عبيد الله أسعد في الجزائر، و( الحرب و السلم) الأديب اللبناني نسيب عريضة في نيويورك، ومجلة ( الدفاع العربي ) محمد المحيسن ومحمد حسن خروب بمدينة دترويت في أميركا.
ومنْ أقْدم الدَّوريات العسكريَّة في العراق ( المجلَّة العسكريّة ) التي صدرتْ عن وزارة الدّفاع العراقيَّة في شهر كانون الثاني( يناير) من العام ألف وتسعمائة وأربعة وعشرين. وقد شهِد هذا النَّوع المتخصّص في الإعلام الحربيّ المطبوع، إزدهارًا في حركة التَّأسيس والتَّطوير في البلاد العربيَّة، وفي لبنان بشكل خاصّ، بدءًا من منْتصف القرن العشرين إلى أيَّامنا هذه.
دور التّلفاز في الاعلام الحربيّ
يُعتبر التّلفاز العربي اليوم في مضْمار الاعلام الحربيّ، من أهمّ الوسائل الإعلاميَّة المرئيّة، بإعْتباره أحد عوامل الجذْب الاعلاميّ الذي ينقل بالصَّوت والصّورة، الأحداث الهامَّة على أرض الواقع، كما أنَّ انتشاره في العالم العربي، يُعتَبر إنتشارًا كاملاً، ونسْبة مشاهدته تفوق أيَّ نسْبة لوسيلة إعلام أخْرى، حيث يمكن أنْ تشاهده طبقات المجتمع كافّة، على اختلاف إتّجاهاتها وميولها. وقد خصّصت مؤسسات التلفزة في العديد من الدّول العربيَّة برامج حربيَّة، تتولىَّ إدارتها أقسام مسؤولة و تعمل على إعداد مذيعيها ومراسليها وفقرات هذه البرامج، إعدادًا علميًّا وفنيًّا، لتذاع في أوقات ثابتة بمعْظم قنواتها، وذلك بهدف إبراز الأنشطة الهامَّة للقوَّات المسلَّحة على مستوى الدَّولة بكلّ أفْرعها، وتعْريف الشَّعب بما يجري داخل قوَّاته المسلَّحة من جهود، منْ أجْل الحفاظ على الاستعْداد القتاليّ دوْمًا.
مهامّ المراسل الحربيّ
لا شكَّ في أنّ المراسلين الحربيّين همْ أصحاب أخطر المهامّ في ميدان الإعلام، لأنَّهم ببساطة يُغطّون الحروب في ميادين القتال، ويوجدون فى رحاها، كما أنَّهم يتحرَّكون مع القوَّات خلال تطوّر أعمال القتال، وفى مراحل العمليَّات على إختلافها، من بداية إعداد القوَّات حتى تَحرّكها إلى الخطوط الأماميَّة،حيث يرْصدون الوقائع على الأرض من مفارقات وحالات إنسانيَّة، إلى بداية المعارك وطبيعة الإشتباكات وقوّة النّيران فيها وضراوتها وتصرّف القادة في المراحل الحرجة وقراراتهم أثناء المعارك. فالمراسل الحربيّ، يبقى تحت أجواء حرب دائرة يتخلَّلها دورات عنيفة وشرسة، ويبقى مُعرَّضًا للإصابة وحتّى للقتل. لذلك فمنْ قواعد عمل المراسل الحربيّ أنْ لا يكون مُسلَّحًا على الإطلاق، بأيّ سلاح ناريّ أو حتىَّ سلاح أبيض، مع ضرورة أنْ تحققّ ملابسه قدْرًا ملائمًا من الحماية ضدَّ النِّيران والشَّظايا، وأنْ تكون هذه الثياب ذات لون مختلف عن هندام الجنديّ، بما في ذلك الخوذة الموْضوعة على الرَّأس،على أنْ يتميَّز بإرتداء القميص الخارجيّ فوق ملابسه المكتوب عليها الكلمة التي تشير إلى طبيعة وظيفته الإعلاميَّة. خاصّة وأنَّ الجيوش اليوم، بدأتْ تُحرّك مع قوّاتها، أطْقم تصوير بالفيديو، من أجْل التوثيق الداخليّ.
أقدم مراسل حربيّ عربيّ
نتناول البداية التي شهدتْها مهنة المراسلة الحربيَّة في الدول العربيَّة. ونسْترجع إسم أقْدم مُراسِل حربيّ فى مصر، وهو محمَّد حسنين هيكل، الذي اختارته إحدى الجرائد الإنكليزية لكي يشارك فى تغطية بعض معارك الحرب العالميَّة الثَّانية فى مراحلها الأخيرة. ومنْ بعدها قام بتغطية حرب فلسطين في العام ألف وتسْعمائة وثمانية وأربعين، كمراسل مُتجوّل.
وقد شهدت الحروب المعاصرة في الماضي، قفزة نوعيّة في ميادين المراسلين الحرْبييّن، فدخلتْ إليها المراسلات الحربيّات، مع أولّ مُراسِلة أميركيَّة تدعى مارجريت بورك وايت، التي سُمِح لها بتغْطية الحرب العالميَّة الثانية من مناطق القتال. وازْداد مع مرور الزَّمن، إقدام المزيد من الصحفيَّات من سائر بلدان العالم، على هذه المهْنة الخطرة. ليس فقط في وسائل الإعلام المطبوع، بل في وسائل الإعلام المسموع والإعلام المرئيّ، على حدٍّ سواء. واللاَّفت أنّ هذه المهنة تجذب المنخرطين فيها لسببيْن رئيسيَّيْن أوَّلهما الشّهرة المضمونة، وثانيهما الوقوف على حقيقة المعركة، وكشْف خباياها للعالم.
الإعلام الحربي التكنولوجي في أرض المعركة
تطوّرت وسائل الاعلام الحربيّ في يومنا هذا، ولم تعد مقتصرة على البيانات المكتوبة والمنشورة والمعلنة في فضاء الميديا وواقعها، بل دخلت مباشرة بتكنولجيّاتها العالية الدّقة سواء في وسائط التصوير الرقميّ أو التصوير الضوئيّ، إلى ساحات الاهداف في مناطق العدوّ والمرتفعات والمباني العسكريّة والتجسسيّة المختلفة النُّظُم والادوار. وبتْنا نرى فيديوات مصوَّرة بطريقة مباشرة، تعرضُها كتائب القسّام في عملياتها الهجوميّة ضدّ جنود جيش العدو الصهيونيّ ومواقعه. كما بتنا نرى على جبهة الجنوب اللبنانيّ، كيف يصوّر مقاتلو المقاومة الاسلامية عمليّاتهم بدقّة، حتى أنّهم استخدموا الصاروخ الذي يتمتّع بفكرة غير مسبوقة في تاريخ الأسلحة المضادّة للدّروع، وهي تعقُّب الهدف بكاميرا تصوير مثبّتة في الصاروخ نفسه، على غرار الطائرات المُسيّرة، حيث تبحث الكاميرا عن الصورة والألياف الضوئيّة وتتوجّه إلى الهدف، لكي يُطبق الصاروخ عليه.
بالمقابل، تلعب اليوم وسائل التواصل الافتراضي، دورًا عالميًّا مهمًّا في نشر الصور وبث مقاطع الفيديو المتعلّقة بمشهديات الحرب التي يلتقطها المراسلون الحربيون، خصوصا في الحرب الدائرة بين حركة حماس والجيش الصهيوني في قطاع غزّة من جهة، وبين رجال المقاومة الاسلامية في جنوب لبنان والجنود الصّهاينة، من جهة مقابلة. وقد بات الملايين في جهات الارض، يروْن في اللحظة ذاتها، المجازر الوحشيّة التي يرتكبها الجيش الاسرائيليّ في غزة، والدّمار الهائل الذي تخلّفه غاراته المكثفة، وجثث النّساء والشّيوخ والاطفال المكدّسة والمحترقة، الامر الذي استثار نخوة الأجيال الشابة في جامعات أميركا وأوروبا وبلدان عديدة حول العالم، فلجأوا إلى الاعتصامات والتّظاهرات وحتى إلى ترداد شعارات تدعم فلسطين وتنتقد دولة الاحتلال الاسرائيلي.
وفي الختام، يمكن القول إنّ دور الإعلام الحربيّ دخل اليوم عصر التّقانة الضوئيّة والرقميّة الحديثة، وأصبح يلعب دورًا متعدّد الاساليب، متشعِّب الاهداف، ومفتوحًا على كلّ الاحتمالات التي لا يمكن توقّعها حتّى في الغد المنظور.
الكاتبة الصحفية غادة كلش