الإنْسَانُ وما بَعْدَ الإنْسَانْ:أَ’سَايبْوُرغْ’ فَضَائيٌّ افتراضيٌّ، أم ‘كائنٌ أَلْحَوِيٌّ’ هجينٌ؟! للكاتب عبد الرحمن بسيسو

هل يمكن للإنسان، على تعدّد خصائص هويّته ومكونات تعريفاته التي نعرفها، أن يتحوّل من كونه “كائنا حيّا”، أو “كائنا عضويّا بيولوجيا”، أو ربما “ظاهرة طبيعيّة” بلغت الآن، فيما يتصوّر علماء وباحثون متنوّعو التّخصّصات، أقصى درجات نضوجها، ليصير “شيئاً آلياً ميكانيكيَّاً”، أو جهازاً مُصَنَّعَاً”، كائناً تِقَانِيَّاً حيوياً مُبرمجاً” ذَا ماهيةٍ، ومُؤَسِّساتِ هُوِيَّة، وطبيعة حياتية ووجودية، مُغايرة تماماً لما كان له أن يكتسبه، ويجلي وجودَهُ في وُجُوْدهِ الإنساني الحيوي الخلاقِ، عبر الأزمنة؟

وهل يمكن للإنسان أن يتجاوز حقيقة كونه “كينونة وجودية عاقلة” لا تزال محكومة بسعيها اللاهب إلى بلوغ كمال وجوديّ محتمل، ليذهب إلى التّماهي بـ”كائن هجين” قد يُشار إليه على أنّه التّجلّي الأمثل للكائن المُتَجَاوِز الذي يجسّد حقيقة الإنسان حين يبلغ أقصى مداه، لِيَلِدَ، كما الفينيق أو على نحو آخر، كائنا جديدا يخرج من رمادِ احتراقه بنيران الحداثات وما بعدها وما بعد بعد بعدها، ولا نقول من ضلعه، ليكون هو الكائن الذي يأتي بعده، والذي يتأهّبُ لإزاحته، والحلول محلّه، أي ليكون هو “ما بعد الإنْسَانِ”، أو ربَّما “ما بَعْدَ مَا بعْدهِ” بمراحلَ وأحقابٍ وأزمنة؟

ليس للإجابة عن هذين السؤالين المتداخلين أن تفارق حقيقة ساطعة مؤداها أنّ الزّمن التّقاني الانفجاريّ المتمدّد في مساحات الكون، قد أمعن في تعميق حضوره الطّاغي في مساحات الطبيعة وفي أدقّ تفاصيل الحياة الإنسانيّة، وذلك مع توالي مجيء كل لحظة من لحظاته بمبتكرات ووقائع وعمليات تطويريّة ومنتجات وآلات جديدة وتحولات متسارعة تفضي إلى تعزيز صيرورة الواقعة الحضارية التّقانيّة التي قد تبدو، لشدّة إسرافها في الوجود، غير مرئية تماما، ولكنّها هي، وليس غيرها، الواقعة الأرسخ حضورا والأشدّ تأثيرا في مصائر الطبيعة، والحياة، والنّاس، وفي مآلات الوجود بشتى مكوناته ومداراته.

وما هذه الواقعة التي تتسرب في تفاصيل حياتنا وتتمدّد، بخفاء ظاهر أو بظهور خفيّ، في أنسجة خلايانا، إلا عملية تفكيك الكائن البشري الذي أدرك إنسانيَّته، وإعادة تجميعه، وتشكيله، في مجرى تحوّلٍ طاغٍ يكرّس الإطاحة بجميع التصنيفات والمفاهيم والتّعريفات القديمة، وفي مقدمتها التصنيفات والمفاهيم البيولوجية، والاجتماعية، والثقافية، والفلسفية.

ولعلّ هذا التّفكيك المتلازم مع إعادة التشكيل، هو ما شرعنا نلمس ما يؤكّد أنَّ اللَّوازم والكيانات والهياكل المصاحبة له، أو الناتجة عنه، قد شرعت هي أيضا في ترسيخ حضورها في وجود يبدو أنّه قد بلغ، بدوره، أقصى مداه، فشرع، هو أيضا، في تجاوز نفسه وصولا إلى ما بعده، وما بعد ما بعده.

فكيف تتمّ عمليات تفكيك الإنسان، وإعادة تجميعه وتشكيله وفق مفهوم تقانيٍّ جديدٍ يُفْقِدُهُ جوهر هويّته الإنسانية الجامعة التي رسخت في وُجُودِه منذ بدءِ كينونته وتبلور وجوده، فيفقده اسمه ولا يجعله إنسانا، بل “ما بعد إنسان”؛ أي كائناً “ألحوياً”، حسب المصطلح الذي نقترحه للدلالة على هذا الكائن، أي كائناً سَيُبحث له، بدأبٍ علمي يستثمرُ الذكاء الاصطناعي، عن مصطلح يلتقط سمات مكوناته الآلية الجديدة، ويدرك علاقاتها الممكنة مع مكوناته الحيوية والبيولوحية، فيضفرها في إهابه، ويتعرّف على جوهره العميق، فيسمّيه؟

ويبدو جليّا، في ضوء ما تضمّنته الفقرات السّابقة أو ألمحت إليه، أنّ عمليات تفكيك الكائن البشري وإعادة تشكيله ليصير “كائناً ألْحَوِيَّاً”، إنّما تقولُ دلالة “موت الإنسان”: مفهوماً، وتجربة حَيَاةٍ، وتجليات وجود، إِذْ هي عملية تتمّ عبر سياقات، ومسارات، وخطوط إنتاج، تلغي الحدود المعروفة بين العوالم الكونيّة والثّنائيات، المتجاوبة أو المتعارضة، حيث هنا يصير هذا الـ”ما بعد إنسان”، أو هذا الكائن المُعَاد تشكيله، أو تصنيعهُ، والذي يأتي مقرونا بـ”ما بعد حداثة” أو بـ”ما بعد ما بعد حداثة”، كائنا تقانيّا مُرَكَّبَا من ثنائيةٍ مُلْتَحِمَة تضفر الطبيعي باللَّاطبيعي، والمطبوع بالمصنوع، والمولود الطبيعي البيولوجي بالمصنّع التّقاني الافتراضي، أي تضفر البيولوجي الحَيوي بالتّقاني الآليِّ، أو تزاوج بينهما في سياق تركيبٍ كَانَ، قبل بضعة قرونٍ فحسبُ، تصوُّرِيَّاً عقلياً مجرّداً، أو وَهْمَاً، أو كان مَحْضَ تصوّرٍ خياليٍّ عِلْمِيٍّ أو غير عِلميٍّ، ولكنّه لم يعد كذلك، إذْ هو يمعن، منذ زمن ليس بقصير أبدا، في تجسيد نفسه وترسيخ حضوره في الحياة عبر تمظهرات نلْمسها في كلِّ لحظة، وفي كل حيِّز اجتماعيّ أو اقتصاديّ أو ثقافيّ، وفي كلّ مجال معرفيّ، وفي كلّ بؤرة اهتمامٍ، ومكانٍ، وحين.

وبغية إدراك جوهر هذا الكائن الجديد عبر تعرّف مكونات هويته وقراءة سماتها والكشف عن دلالاتها التَّكوينية العميقة، وهي الدلالاتُ المسكونة بخصائص ماهيته الكاشفة عن مغزى انبثاقه، ووظائفه القائمة الآن، والممكنة مستقبلا، أو رسالته المنطوية على دلالة وجوده في الوجود، أو ربما في “ما بعد الوجود”، توالى إلحاحُ الحاجة المعرفية إلى الإمساك به معرفياً عبر بلورة، أو اجتراح، كلمة جديدة تُؤكِّدُ شروعه في الوجود إِذْ تسميه تسمِيَةً لا تجيب عن السؤال: “مَنْ هُو هذا المخلوق الجديد، أو مَنْ هو هذا الكائن الذي يأتي ليُغَيِّبَ الإنسان الذي عرفناه مذ وُجِدَ الإنسانُ؟” فحسب، وإنَّمَا تتأسّسُ على أولويّةِ بلورة إدراكٍ معرفي تكونُ الإجابةُ الممكنة فيه عن سؤال الوظيفة؛ ما الذي يفعله هذا الكائنُ الآن؟ وما الذي سيفعله في مستقبل كل زمانٍ قادمٍ، وفي مستقبل كُلِّ مكانٍ معلوم أو غير معلومٍ، من زمكانات العالم؟ هُوَ صلب التّسميةِ الأصوب وخلاصة جوهرها .

وربما تكون إرهاصات العثور على مصطلح يقتنص هذه التّسمية قد تحقّقت في مصطلح سُكّ في ستينات القرن الماضي من قبل عالمين أميركيين هما عالم الأعصاب، المخترع، والموسيقار مانفريد كلاينر، وعالم الطّب النفسي الحائز، لمرتين، على جائزة لاسكر الأميركية (التي تعادل جائزة نوبل) ناثان سنايدر كلين، وما كان هذا المصطلح إلاّ كلمة الـ”سايبورغ” (Cyborg) التي تصهر في أتونها اللّاهب الآلة الجامدة التي يبدو أنها لم تعد جامدة (Cybermetic – Cybernetic) بالكائن العضوي الحيّ (Organisim)، والتي نقترحُ، لتعريبها، مصطلح “الكائن الألحوي”، ومشتقاته العربية الكفيلة بتسهيل استخدامه في حقول وسياقات معرفية، وعملية، عديدة.


إنّها إذن تَسْمِيَة هُوياتيةٌ وظيفِيَّةٌ مخترعة للإنسان الذي تَجَاوز، عبر سلسلة حداثاتٍ وانفجاراتٍ معرفِيَّةٍ مُتَساِرعَةٍ لم تكفّ عن تجاوز نفسها، إنسانيّته، عائداً صَوْبَ بشريته الانتقالية السابقة من حيث الوجود على إنسانيته، فترك الإنسان الذي صارَ إليه، والكائنَ البشريَّ (الحيواني) الذي كانه قبل أنْ يُدركَ إنسانيته، وراءه، ليصير كائناً آخر، كائناً ألحوياً (آليَّاً متحركاً فيه قدرٌ من حَيَاةٍ)، كائناً لا يبحث عن إدراك تحققه الأعلى في إدراك إنسانيَّته، بل في الوصول إلى إدراك أعلى تجليات هذا الكائن المهجَّن والمُصَنَّع، المُفَارقِ لإنسانية الإنسان ومنظوماتِ مبادئه وأخلاقه وقيمه؛ أي هذا الـ”سايبورغ Cyborg”؛ هذا الكائن “الألحويّ” الذي لم ندرك تماماً، بعدُ، إن كانت تسميته، على هذا النّحو الذي يتجاوز ماهيّة الإنْسَانِ ويبدّلُ جوهرَ هُوِيَّته الراسخ في إنسانيَّته، تسميَةً تلتفطُ حقيقة حقيقته التي شرع يعكسها عبر نهوضه بأداء مهمات الوظائف المتعددة التي شرع مُمَوِّلوا تصنيعه وتكثير وجوده بإسنادها إليه، سواء أكانت هذه الحقيقة تسمو به وتعلو بدلالة وجوده كإنسانٍ تجاوز نفسه ليسمو بإنسانيته بإدراك أقصى ممكنات كماله الإنساني المُمْكِن، أم كانت تحطّ من قيمته وتأخذه إلى دركِ إدراكِ “هُوِيَّةٍ قاتِلَةٍ” يُمَيِّزُها جَشَعٌ هَمَجيٍّ يقترنُ بتوحُّشٍ بشَرِيٍّ عنصريٍّ، تَمَلُّكُيٍّ استئثاريٍّ، أنانيٍّ إلغائيٍّ، غَيْر مَسْبُوقٍ من حَيْثُ قدرتهِ الهائلة على الفتكِ بممارسيه، دون أنْ يعوا ذلك أو يشعروا بوجوده، بقدرِ فَتْكهِ بالمستهدفينَ به، المُدركينَ، بكامل وعيهم، وجِماَعِ أحاسيسهم، ضراوةَ استلابه، وغشامةَ عنفه، وشراسةَ تَوحُّشه، وشِدَّةَ فتكه!”

الكاتب عبد الرحمن بسيسو

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *