الانتقال من الخصوصية للعمومية..سمة من سمات الققج للأديب محمد البنا قراءة تحليلية لنص تناسخ للأديب المصري أحمد عثمان


قصتي “تناسخ” المشاركة في مسابقة ال ق ق ج بالمنتدى العربي للنقد المعاصر – دورة الأستاذة رجاء بقالي، ولم يحالفها التوفيق ..!!


تناسُخ

ـ أمازالت جثة هابيل لم توار التراب ..؟! أين قابيل؟
من فوق طللٍ خرساني أطلق الغراب نعيقه حانقاً ..
جاس بعينيه في الأرض اليباب .. هالهُ كمُّ الجثثِ والأشلاء أينما يمم ..
تلبَّسته لوثةٌ عاتيةٌ، تراءت له جحافل عيونهم الحمراء تزحف نحوه، .. جفل، أوجسَ منهم خِيفةً، صفَق جناحيه مُوَلِّياً؛ يشق غيمَ النَّقْع .. يزدرد مُرَّ قنوطِهِ
ـ كم قابيلٍ سأُعلِّم .. ؟! لاطاقة لي بكل هذا …

  • الاستهلال

عندما يتفوق المبدع على نفسه، فيبدع ما لا مباشرة فيه، ويصوغه كدرة لغوية غنية بكلماتها الرصينة، المتناغمة ايقاعًا داخليا، الموحية ببلاغتها ودقتها وعمق دلالتها…عادة ما يكون هذا المبدع هو أحمد عثمان!
ارتأيت أن أستهل دراستي للنص بهذه المقدمة التعريفية بقاصٍ من خير ما أنجبتهم مصر المحروسة إبداعًا في القص القصير جدًا، بصرف النظر عن فوز ” تناسخ ” من عدمه في مسابقتنا للققج، فذلك تقييم أساتذة محترفين محترمين، وهذا قرارهم، ولكني كناقد وكقاص لا يسعني إلا أن أقدم رؤيتي للنص ..ما فيه وما عليه.

  • القراءة النقدية

  • تناسخ؛ عنوان نكرة، يوحي لغويًا بالتوالد المستمر المتماهي شكلًا وموضوعًا، ويوحي أدبيًا بما سبق لغويًا، وما يلي أدبيًا من تشابهٍ في الأفعال.
  • يستهل القاص متنه بالدخول المباشر للب الحدث دون أي تمهيد أو توطئة أو مقدمات، وذلك عن طريق جملة حوار انشائية استفهامية تشي بالدهشة المستغربة ( أمازالت جثة هابيل لم توار التراب ..؟! أين قابيل؟)
    وكما يتبادر إلى ذهن ومخيلة أي قارئ للنص؛ تبادر إلى ذهني كما البرق؛ قصة قابيل وهابيل والغراب؛ تناص مباشر تام كامل، وإحالة برقية من الماضي السحيق المتجذر في ذاكرة ابن آدم أيًا كان جنسه ودينه، إلى الحاضر الآني..قاتل وقتيل، وجسدٌ لم يواره التراب بعد، وغراب يندهش!
  • فهل اكتفى القاص بهذا التناص المنصوص؟ وبذا يصير النص نصًا عاديًا لو أكمله ببنيته التناصية الملتجأ إليها، ولصار التناص لا دهشة فيه…أم أن وراء الأكمة ما وراءها ؟…إذًا لنذهب لنر!
  • تأتي الجملة الثانية لتضع محدثنا ‐ السائل – في موضعه التعريفي الصحيح (من فوق طللٍ خرساني أطلق الغراب نعيقه حانقاً ..)؛ الغراب.
    ليكمل السارد العليم وضع الحجر الثاني في البنية الهندسية لمتنه؛ مجيبًا إيحائيًا ليبين لنا علة الاستفهام ( هالهُ كمُّ الجثثِ والأشلاء أينما يمم ..).
  • مما سبق يتضح لنا أن القاص لم يكتف بالتناص الأوحد الخاص بقتيل واحد، وإنما زامله بهابيل وهابيل وهابيل إلى عدد لا يحصى من القتلى، وكذلك فعل مع قابيل (تراءت له جحافل عيونهم الحمراء تزحف نحوه، .. ) فها هو قابيل الفرد تمثل لنا جحافل متناسخة منه أيضًا، وكما قيل في أمثالنا الشعبية ( الكثرة تغلب الشجاعة، علمتك يا ابن آدم وما اتعلمت)؛ أوجس الغراب من نظراتهم خيفة على حياته الشخصية، فولّى ميممًا طريق نجاة – التحليق مبتعدًا- كما ورد في المتن (صفَق جناحيه مُوَلِّياً؛ يشق غيمَ النَّقْع).
    لينهي نصه الرائع ب ( يزدرد مر قنوطه) مغمغمًا
    (- كم قابيلٍ سأُعلِّم .. ؟! ).
  • التقنيات

  • أنسنة الغراب، ليبدأ النص بسؤاله المستغرب ويختتم النص بسؤاله اليائس، وما بين استغراب واستنكار، وقنوط وفرار؛ أنشأ القاص بنيته
    السردية كما سبق وذكرنا بالراوي العليم.
  • الانتقال من الخصوصية للعمومية، ومن الفردية للتناسخ المتعدد بلا نهاية.
  • الخطاب السردي

لا يخفى على فاهم أن النص بأكمله نصٌ يشير بإصبعه السبابة إلى الحالة المتردية التي آلت إليها البشرية الآن في عصرنا الحاضر من حروب ومجازر ونزاعات دموية، واسترخاص الجسد البشري الطاهر المكرم من فوق سبع سموات!

  • النص ينتمي لنوعية القص الساخر المؤلم أو ما يطلق عليه إصطلاحًا ( الكوميديا السوداء ).
  • اللغة والأسلوب

لغة متينة سليمة منتقاة بعناية، وأسلوب سردي متدفق سلس اتكأ بقوة على البلاغة اللغوية، وهنا لا يفوتني أن أنوه إلى أن الاهتمام الزائد المغالى فيه أوقع القاص في مظنة الإسهاب، فأكثر من الوصف الذي لو اقتصصناه من المتن، لصار النص أنموذجًا للقصة القصيرة جدًا، فلزوم ما لا يلزم ولو كان حرفًا ينتقص من جودة المتن قياسًا بمعايير تصنيفه، فما بالك بجمل زائدة!!
الصورة الأكمل للنص – وجهة نظر شخصية كقاص وكناقد – ولا تلزم المبدع بشيء البتة، فما هى إلا اقتراح إن شاء عمل به، وإن شاء أهمله ولا غضاضة…


(((( تناسُخ
ـ أمازالت جثة هابيل لم توار التراب ..؟! أين قابيل؟
من فوق طللٍ خرساني أطلق الغراب نعيقه حانقاً .. هالهُ كمُّ الجثثِ والأشلاء أينما يمم ..
تلبَّسته لوثةٌ عاتيةٌ، تراءت له جحافل عيونهم الحمراء تزحف نحوه، .. جفل، أوجسَ منهم خِيفةً، صفَق جناحيه مُوَلِّياً؛ يشق غيمَ النَّقْع .. يزدرد مُرَّ قنوطِهِ
ـ كم قابيلٍ سأُعلِّم .. ؟! )))))

هنيئًا لك ولنا بإبداعك وتمتعنا بقراءته.


الأديب محمد البنا

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *