البحث عن الزائر الخفي الذي لا يبرح مكانه للكاتب عبدالسلام اضريف

هنا، في أجزاء أنحاء هذا العالم العربي، شيء ما يكتنفه الغموض؛ شيء ما خارج عن السيطرة، ظاهر من حيث أثره ونتائجه، لكنه مبهم من حيث تجسيده، عصيّ في تشخيصه، متواصل غير منقطع، ليس له مكان، وهو فوق الزمان. نجده في زوايا القصائد الشعرية، وأسفل التلال، في المروج والمحيطات، في واحات نخيل العوهق، وعلى ضفاف البحيرات المليئة بالطمي وبالعلق، دون الأسماك.

نجده قابعًا في ثنايا اللاشعور العامر بكل ألوان الانكسارات والبؤس والقهر، دائم التأهب، ويده على الزناد على طول ما اصطُنع عليه بتسمية الحدود الفاصلة بين أجزاء القطر الواحد. نجده في الحفلات الموسيقية، راقصًا بجانب رواد لا همّ لهم سوى البحث عن المتعة المؤقتة، هروبًا من واقع آسن، طعمه مزيج لا يمكن تجرعه ولا صياغته.

إذا حاصرته من الداخل، يخرج لك من النافذة، محفورًا على جميع يافطات الإشهار المنصوبة على جنبات كل قارعات الطرق. نستنشقه ولا يتحول إلى ثاني أكسيد الكربون، بل يبقى عالقًا مع ترسبات أخرى في تجاويف الرئة، لا يبرحها إلا باستئصالها.

نجده في أعراسنا، وضمن طقوس إبرام عقود البيع والشراء والزواج، يصاحب نبضات القلوب، ينتشي مع خلايا الدماغ. نجده ساهرًا في المعي الغليظ ضمن مجموعة أخرى من البكتيريا، يُلوّح لك بيديه من أعلى شرفات الزمن، يطير ضمن مجموعة النورس القادم من الشمال أثناء الفصول الباردة، لا يأكل الطعام، لكن نراه في الأسواق، شبيه بطائر العنقاء، ينبعث من الرماد دون أن تطلبه.

يشهد على طقوس عقود الزواج المبرمة في السماء، لا يمكن رؤيته بالعين المجردة، ينوخ مع إبل الصحراء، ويزور روابض أودية القوافي الشعرية، يقتفي دائمًا أصوات زغاريد كل من زرياب وكل أوتار موسيقى الغيتار الإسبانية. يطرب عند سماع أغنية “أخي قد جاوز الظالمون المدى”، ويبكي عند سماع قصة قيس بن الملوح وطرفة بن العبد، ويرقص مع سقوط أمطار الخريف الأولى. فهو ليس بالشجر ولا بالحجر، يشعر بحزن الأمهات الثكالى، يراود باستمرار خمارات النبيذ الرخيص الذي لا يُسكر، والذي يترك مغصًا بديلاً عن نشوة لا شرقية ولا غربية. معجب بحِكم الحسين بن منصور الحلاج، وفاه دائم التكرار لفلسفة عمر الخيام في الحياة، يردد مع محمود درويش:

قالت الأم:
في بادئ الأمر لم أفهم الأمر.
قالوا: تزوج منذ قليل.
فزغردت، ثم رقصت وغنيت حتى الهزيع الأخير من الليل، حيث مضى الساهرون ولم تبقَ إلا سلال البنفسج حولي.
تساءلت: أين العروسان؟
قيل: هناك فوق السماء ملاكان يستكملان طقوس الزواج.
فزغردت، ثم رقصت وغنيت حتى أصبت بداء الشلل.
فمتى ينتهي يا حبيبي شهر العسل؟

وما يزال البحث مستمرًا، ودون هوادة، في إطار تشخيص دقيق لواقع عالم عربي مليء بالمفاجآت، عن شتات هوية هذا العالم العربي الذي أصاب نفسه بطلقات نارية متتالية قاتلة.

فإلى متى؟

الكاتب عبدالسلام اضريف

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *