” وكنت اشفق على أمي حين فارقت أبي..
وها أنا أعيش الفقد لا أم لي ولا أب..”
منى ملوح/ الأردن في أكتوبر ٢٠٢٤
القراءة
- القدرة على الإيحاء بتركيب مشهدٍ يطل من كواليسه مشهدٌ أشد قوة وأكثر تأثيرا، لعمري هي الإبداع بعينه، ومبدعتنا السيدة الأديبة الملهمة منى ملوح تمتلك هذه المقدرة بجدارة، بل وتجيد توظيفها بمهارة في لوحة بانورامية مبهرة، شديدة الإضاءة، كما حدث ولاحظت ذلك من متابعتي لها في الكثيير مما أبدعته، ونشرته على حائط منتدانا، وكما حدث أيضًا عند قراءتي لهذه اللوحة الإيحائية…فقد الأب هنا مجازي – ظاهر اللوحة – وهو في حقيته افتقاد الزوجة – أم الساردة – لزوجها، ومن ثم تطلق الساردة قنبلتها الإيحائية لتصيبنا بالدهشة، بل وأي دهشة !!
إذ تحيل الشجن والحزن كله فجأة (و هأنا أعيش الفقد ..لا أم لي ولا أب)..أي إيحاءٍ هذا يا مبدعة !! - الساردة – الأبنة- في ظاهر النص – تعيش الحالة الشجينة كما عاشتها أمها كزوجة، وأكثر….إذ هى الأخرى فقدت زوجها، وبفقده فقدت كل شيء ..الأم والأب والزوج.
- تماهٍ رائع مع بعض طقوس إحدى القبائل الهندية، التي تدفن الزوجة حية مع جثمان زوجها إذا فارق الحياة قبلها، إذ تنتهي حياتها المستقبلية برحيل الزوج وانتقاله إلى عالم البرزخ.
- والآن نستعرض باختصار عناصر النص النثري، من حيث كونه قطعة نثرية موجزة ومكثفة باقتدار، إذ يبدأ المتن ب واو العطف، وهي تعطف ما بعدها على ما قبلها، والمغزى الذي نستشفه ها هنا – نتيجة للعطف- أن المتن مقتطع من نصٍ أكبر، أو هو مكمل لمتنٍ سبقه، وسكت عنه القاص.
النقطة الثانية هى شبه الجملة ” كنت ” وهى كما نرى مكونة من الفعل الماضي الناقص” كان ” وأُلحقت به ” تاء المتكلم”، والمغزى أن ما سيليه من خبر هو إخبارٌ عن ماضٍ انتهى كحدث وكتأثير، وما تلاه هو إشفاق ابنة على حزن أم/ زوجة لفراقها زوجها/ أبو الابنة.
ونتوقف هنا قليلا نتأمل ( لفراقها أبي )، بداهةً نستقي منها أن الأب رحل لآخرته، أو على أقل تقدير انفصل عن الأم وذهب لحال سبيله، وفي كلا الحالتين حزنت الأم حزنًا شديدًا، ونلاحظ هنا مقارنة خفية ألا وهى أن الساردة / الابنة؛ أشفقت على مصاب أمها، ولم تأت بالذكر – قلامة ظفر- عن حزنٍ لفقدها أبيها!! وهذا الذي يقودنا مباشرة إلى تأويل الشق الثاني من المتن (وها أنا أعيش الفقد لا أم لي ولا أب..) تأويلًا مباشرًا مستقيمًا، إذ قفزت الحالة السردية من الماضي إلى الحاضر الآني ب ( ها أنا ) وأعقبتها ب مضارع مستمر ( أعيش/ الفقد)، وورود كلمة ( الفقد ) هنا هى تصويب مسار التأويل لكلمة ( فراق) وتأصيلها في اتجاه غالب ( الموت ).
الأديب محمد البنا