كلما كانت مواضيع النص الأدبي كثيرة ومتعددة، والأشكال والطريق التي تقدم فيها النصوص/القصائد متنوعة، تكون أكثر جاذبية للقارئ/للمتلقي، لأنها تلبي كافية الرغبات، فمن يرغب في الحب والهموم الشخصية سيجدهما، ومن يريد المواضيع الاجتماعية والسياسية سيجدهما، ومن يبحث عن جمالية النصوص الحديثة/القصيرة والمختزلة والمكثفة، سيجدها حاضرة، وممن يريد الاستمتاع بالأدب (التقليدي) أيضا سيجده، ومن يريد السهولة والبساطة سيجدها، ومن يبحث عن الرمز والعمق أيضا سيجده، فالديوان يكاد أن يكون جامعا لكل الأشكال والمدارس الأدبية، وهذا ما يجعلنا نقول إن الشاعر أظهر في “شغف الأسئلة” طاقات أدبية متعددة ومتنوعة، جاءت باسلوب سلس وممتع، وهذا ما جذب القارئ إليها مستمتعا بما قدمه الشاعر.
الشاعر يفتتح الديوان بقصائد طويلة/تقليدية، وكأنه يريد بها تأكيد أصالته الأدبية، وقدرته على الحديث (مطولا) عما يريد تقديمه، يقول في “آت مع ملوحة الدمع”:
“كامنٌ مثلَ ( رشيمٍ )* بائسٍ في غَيْابِةِ الترابِ
وقدْ طالَ انتظاري…
أَراني وأنا أكابدُ الكثيرَ من عَنَتِ الإشاراتِ
وتنويعِ النغماتْ…
ما زلتُ أحتاجُ الكثيرَ من الجدرانِ
لأمارسَ فوقَ أديمِها
نزقَ الكتابةِ.. وإعلانَ المشاعرْ!
لقد تآكلتْ أظافري وأنا أكتبُ أحزاني
وأضناني اليأسُ وأنا أتفتتُ في مهبِ الرجاءْ…
فكيف أخرجُ إليكِ”
نلاحظ أن القصيدة تقليدية وطويلة وتحمل هموم الشاعر، ونجد أن مكان الحدث/”الجدران” (مغلقة/تحاصر) الشاعر: “فكيف أخرج إليك” وما وجود ألفاظ قاسية: “انتظاري، أكابد، عنت، أحتاج، الجدران، نزيف، تآكلت، أظافري، أحزاني، وأضناني، اليأس، أتفتت، مهب” إلا تأكدا لفكرة الألم/الحزن/القسوة التي يمر بها الشاعر.
ونلاحظ هيمنة (الأنا) على المضمون من خلال ياء وأنا المتكلم: “انتظاري، أراني، أظافري، أحزاني، وأضناني، أكابد، ما زلت، لأمارس، أكتب، أتففت، أخرج” (فالطغيان الأنا) بهذه القوة والشكل يعيدنا إلى الأدب الرومنسي، أدب الخمسينيات والستينيات من العقد الماضي، حينما كان الشاعر/الأديب يهيم بحبيبته فلا يرى إلا بها وبعينيها، ولا يرى سواها، فكل ما فيه يندفع تجاهها ونحوها، فهو كله وما حوله وبه وما فيه لها.
وإذا ما علمنا أن الشاعر تجاوز الآن العقد السادس، والنص كتب حديثا، نتأكد أنه يكتب بعقلة الشباب المندفع وبقوة وسرعة تجاه الحبيبة، وهذا ما يشير إلى أن ديوان “شغف الأسئلة” كتبه الشاعر من قلبة/من داخله، وليس بقلمه.
بعدها يحدثنا عن حيرته وضياعه من خلال هذه الأسئلة:
“هل من عطشِ الياسمينِ أجيءْ؟
أمْ مع فيضِ الدموعِ
التي تخبئُ القليلَ من جمراتِ الوجدْ؟
هل أجيءُ إليكِ لابساً عباءةَ الريحِ الخَفيّةِ
لأعبرَ مفازةَ الخوفِ والعماءْ؟..
التي تخبئُ القليلَ من جمراتِ الوجدْ؟
هل أجيءُ إليكِ لابساً عباءةَ الريحِ الخَفيّةِ
لأعبرَ مفازةَ الخوفِ والعماءْ؟..
كيفَ أجيءُ إليكِ الآنَ
أو كيفَ أجيءُ غداَ
وقد أرهقَ روحي دِثَارٌ من غبارِ الأزمنهْ؟
لقد استبدتْ بي شراكُ الظنونْ
وجوارحي زاولتْ كل طقوسِ العبادةِ
في عتباتِ حضرتُكِ الساحرهْ…
لزوجةُ الحيرةِ تَهْتُكُ روحي
فكيفَ إليكِ أجيءْ؟”
نلاحظ أن الشاعر يتوقف عند التفاصيل: “التي تخبئ القليل من الجمرات، لأعبر مفازة الخوف والعماء، لقد استبد بي شراك الظنون” فكان يمكنه تجاوز هذه التفصيل، لأن متطلبات (نص الحداثة) تستدعي الاختصار وعدم الخوض في (الشرح والتبرير) لكن العقل الذي يكتب به القصيدة هو عقل (الشباب)، عقل ستينيات القرن الماضي، لهذا لا يمكن للشاعر أن يكون (صادقا) في قصيدته إذا ما كتب بعقله الآن، عقل (الحداثة) والاختزال والتكثيف، كما لا يمكنه (التخلي) عن محبوبته (ليمتع) المتلقي فيما يقدمه من قصائد، فهو يكتب لها وبها، وعنها وفيها، لهذا نجده (يحيط) بكل التفاصيل ولا يترك صغيرة أو كبيرة متعلقة بمشاعره تجاهها إلا وتناولها.
وإذا ما توقفنا عند هم الشاعر سنجده يكمن في فعل “أجيء” الذي كرره أكثر من مرة، وكان حاضرة في اكثر من مقطع، ونجد اثر “أجيء” فيما هو روحي/عاطفي/وجداني، من هنا نجد الشاعر (غارق) في ألمه ومتماهي معه وبه وفيه، وهذا ما نجده في: “فيض الدموع، جمرات الوجد، أرهق روحي، استبد بي الظنون، جوارحي طقوس زاولت طقوس العبادة، الحيرة تهتك روحي، وبما أننا أمام شاعر عاشق وله، فكان لا بد من تقديم مشاعره بصورة أدبية، من هنا كانت الصورة الشعرية حاضرة في القصيدة:
“وقد أرهقَ روحي دِثَارٌ من غبارِ الأزمنهْ؟
لزوجةُ الحيرةِ تَهْتُكُ روحي”
اللافت في هاتين الصورتين أنهما متعلقان بطريقة (الذهاب إليها) فهناك ما هو (مادي/طبيعي) مرتبط بقسوة وتعب الذهاب/ أجيء والوقت/الزمن الذي يستغرقه الذهاب إليها: “غبار الأزمنة” وما هو روحي/نفسي/ وجداني متعلق بذات الشاعر: “الحيرة تهتك روحي” وهذا ما جعل ذهابه/سفره إليها متعب جسديا ونفسيا.
إذن هناك حدث/فعل قاس متعلق بالشاعر الذي يريد (تفريغ) ما به من ألم، وأيضا لا يريد (إزعاج) القارئ بهمومه النفسية والمادية، فكانت الصورة الشعرية وسيلته لتخفيف تلك القسوة على القارئ.
يؤكد الشاعر شاعريته من خلال حدثه عن أدواته (كتابة القصائد):
“ها أنا وكما الآن أرى
أكادُ أدنو من سرّكِ الخفيّ
عابراً عصفَ القصيدةِ
ممتطياً بذهولٍ بُراقَ وجدي
خارجاً بهدوءٍ من صَلصَالِ البدايهْ…
أجيءُ بكلَّ جوارحي الوالهةِ
وبوداعةِ الأوابينَ
يجذبني شوقُ الضياءِ
وبياضُ المعرفةِ
إلى شاهقِ العلانيةِ”
نجد حضور الكتابة من خلال: “عصف القصيدة” التي فجرت الشاعر لينطلق نحو ذاته كشاعر، ونحو حبيبته كعاشق، ونلاحظ كلما اقترب الشاعر من الحبيبة أبيض مضمون القصيدة وألفاظها: “أرى، عابرا، القصيدة، وجدي، بهدوء، البداية، جوارحي، بوداعة، الأولين، الشوق، الضياء، بياض، المعرفة، العلانية، فبدأ بالتخلص من كآبته وحزنه وخوفه وارتباكه وقلقه واضطرابه، لينطلق بسرعة (العاصفة) وقوتها حاملا معه أمل لقاء المخلص/الحبيبة.
ونلاحظ أن الشاعر يكثر من استخدام ألفاظ متعلقة بالوصول إلى هدفه وإنهاء سفره/رحلته: “عابرا، ممتطيا، خارجا، البداية، أجيء، يجذبني، وهذا أنعكس على الألفاظ البيضاء التي استخدمها آنفا، مما يؤكد أن الشاعر يكتب من قبله، من داخله، وليس من عقله، وما هذا التناسق بين المضمون والألفاظ إلا شاهدا على حالة التماهي بين القصيدة والشاعر.
كان يمكن أن تنتهي القصيدة عند هذا المقطع، لكن الشاعر (التقليدي)/ الرومنسي/الوله، يأبى إلا أن يتحدث بتفاصيل دقيقة عما به، يكمل القصيدة بقوله:
“سأجيءُ.
وها أنا أستلُ واحداً من أضلعي
لأتوكأ عليهِ في هجرتي إليكِ
وبكاملِ حزني كلَّ حينٍ
آتٍ إليكِ.. في ثنايا الوقتِ
آتٍ مع ملوحةِ الدمعِ
متوهجاً في أوجِ الصقيعِ
مستظلاً وميضَ الكبرياءْ…
وحينَ تهلُّ فجأةً صحوةُ الإشراقِ
ستغرِقُني صبْوَةُ البوح
خارجَ شعائرِ البكاءْ…
سوفَ أجيءُ تدثرني لهفتي
متخَطياً حُجُبَ الخوفِ
فهل أنتِ ما زلتِ في طقسِ الانتظارْ؟”
رغم وجود ألفاظ تقرب الشاعر من الحبيبة: “آت، تهل، الإشراق، أجيء” إلا أننا نجد (الخوف/الاضطراب) يعود للشاعر، وهذا ما نجده فيه: “لأتوكأ، حزني، الدمع، الصقيع، ستغرقني، البكاء، الخوف” فبدا المقطع الأبيض السابق وكأنه أقرب إلى (الوهم) منه إلى الحقيقة، لكن إذا ما أخذنا طبيعة قصيدة ستينيات القرن الماضي، وطريقة التعاطي مع الحبيبة، سنجد (مبررا) لهذه الإضافة، فالشاعر يريد تأكيد تعبه/جهده النفسي والجسدي للوصول للحبيبة، فكان هذا المقطع بمثابة (شرح) للحبيبة ما مر به الشاعر أثناء رحلته إليها، من هنا نجد التعب المادي في: “هجرتي إليك، ثناء الوقت، أوج الصقيع، مستظلا” والتعب الروحي/النفسي: “تدثرني لهفتي” وما ختم القصيدة بسؤال موجه للحبيبة:
“فهل أنت ما زلت في طقس الانتظار؟”
إلا من باب تقديم (تقرير) للحبيبة يشرح فيه تفاصيل رحلته وما فيها من (تعب وإرهاق)، لتعلم حجم المشقة التي تكبدها من أجلها ولقائها، وهذا ما سيجعلها تتعلق به أكثر.
في قصيدة “هل يعود الراحلون من الغياب” يتحدث فيها عن رحيل والده الذي خصه بهذه القصيدة، وإذا ما علمنا أن الشاعر يهدي الديوان لوالده: “إلى روح أبي هذه المرة وكل مرة” نصل إلى العلاقة الحميمة التي تجمعهما:
“لو عدتَ !…
هل سيكفي الوقتُ لأقولَ كلَّ شيءْ…
هل تصدقُ يا أ بي
إنَّ طيفَكَ لمْ يغادرْ
وابتسامتَكَ زادي في الهجيرْ
وصوتَكَ الشجيَّ
كأنَّهُ قداسٌ يُتلى في محرابِنا
وينادينا لنكملَ حولكَ حلقة الصَّلاةْ
لو تعودَ يا أبي
سأعودُ طفلاً بملامحِ الكبارِ
أو كائناً كبرَ قبلَ الآوانْ
ولرأيتَ أني لمْ أعدْ أتقنُ غيرَ البكاءْ
ودموعي في مسارها
كأنّها مطرٌ لا يكفُّ عن الهطولِ
وقدْ ضيَّعتْهُ في لهوها السماءْ…
وأخيراً أُدركُ يا أبي
أنَّ كلَّ من عليها فانْ”
ولكن يبقى وجهُكَ خالداً
كوشمٍ في الذاكرهْ…”
نلاحظ مشاعر الحنين حاضرة وبقوة من خلال الأسئلة: “لو عدت، هل سيكفي، هل تصدق” فمخاطة الأب وكأنه حاضر تشير إلى (رفض) الشاعر الاعتراف برحيله، كما أن أجراء حديث (مطول) مع الأب: “طيفك لم يغادر، وابتسامتك، صوتك، ينادينا” يشير إلى استمرار حضور الأب، لكن رحيله حاصل/واقع، ولا بد من (الاعتراف) بهذا الواقع، وهذا ما جعل الأبن/الشاعر يستعيد ذاكرة الطفل فيه، مشيرا إلى بكاءه: “سأعود طفلا، لم أعد أتقن غير البكاء” وكأنه بهذا الاسترجاع يريد أن يتقوى على قبول فكرة رحيله، وأيضا يريد أن يبقى أثر الأب حاضرا فيه، من هنا جاءت خاتمة القصيدة تحمل الإيمان بقدر الله: كل من عليها فان، ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام”
ونلاحظ حضور الشاعر كشاعر من خلال التناص مع الآية القرآنية وتقديم الفكرة بشكل جديد، مؤكدا بقاء حضور الأب من خلال: “يبقى وجهك خالدا كوشم في الذاكرة” فرغم أنه لا يكمل الآية في القصيدة، إلا أن مضمونها يصل إلى القارئ، وعندما استعاض عن وجه ربك بوجه أبيه أكد إيمانه بالله، وأشار إلى كونه شاعرا، وحافظ على فكرة القصيدة ومضمونها المتمثل باستمرار حضور الأب رغم الغياب.
البساطة
في مقاطع “أشياء جميلة” نجد بساطة الطرح وعمق المضمون:
“- جميلٌ
أن ترى قامةَ ابنكَ
تمتدُّ نحو الأعالي
كنباتِ اللبلابِ
تبحثُ عن وجهِ الشمسِ
وجميلٌ أن ترى
زغباً على أديمِ الوجهِ
يُنبئُ
بأن الحياةَ مستمرةٌ
كنهر يجري
وعلى ضفافِهِ
تنمو كائناتٌ جميلهْ…”
رغم أن المشهد (عادي) إلا أنه عابر للزمن، يتجاوز النمو العادي، فالنمو هنا متعلق بما هو روحي/أخلاقي/معرفي/جمالي، وما وجود ألفاظ متعلقة بالرفعة، بما هو عال: “قامة، تمتد، الأعالي، الشمس، الحياة، تنمو” إلا من تأكيدا لرفعة الأخلاقية والجمالية التي تتوازى وتلازم النمو العادي/الطبيعي.
ويتحدث الشاعر عن كونه شاعرا من خلال حديثه عن الكتابة، يقول:
“جميلٌ
أن يستمرَ المدادُ في القلمْ
وجميلٌ أن تحاورَ الألمْ
وأن تلوِّنَ البياضَ
وتلامسَ القممْ
وجميلٌ
أن تعاقرَ حلماً
لتقتلَ السأمْ…”
فالشاعر يبين أهمية الكتابة ودورها، فهي وسيلته لقتل الألم والتخلص منه: “تحاور الألم، لتقتل السأم” كما أنها وسيلته ليسمو بالحياة ومعها: “المداد بالقلم، تلون البياض، وتلامس القلم/ تعاقرا حلما” المزج بين إزالة الألم من جهة والانتقال إلى الفرح، إلى الحياة من جهة أخرى يؤكد أن الكتابة فعل خلاق بالنسبة للشاعر، لهذا تحدث عنه كما تحدث أن أبنه، وهذا ما يؤكد أن الكتابة أحد عناصر الفرح/التخفيف التي يلجأ إليها الشعراء.
الطبيعة والمرأة
عناصر الفرح/التخفيف التي يلجأ إليها الشعراء تكمن في “المرأة، الطبيعة، الكتابة، التمرد، وعندما يمزج الشاعر ما بين الطبيعة والمرأة فهذا مؤشر على النظرة الإيجابية التي يرها فيها الطبيعة/المرأة، في قصيدة للأشجار قداسها” يعطنا صورة التماهي بينهما:
“صَفْصَافةٌ تتكئُ بغنجٍ على ذراعِ النهرِ
يُمشِّطُ شعرهَا في الصحو
وهي تتلو قدَّاسَ الغسقِ الآفلِ
وتداري بسحرِها المبينِ
عريِها الطارئِ
وعندما ينبلجُ الصباحُ
ترتدي ظلَّها وشاحاً
كأميرةِ الحكايةِ”
الحديث متعلق بالطبيعة، لكنها تلبس هيئة امرأة، وليست أية المرأة، مرأة جميلة وعاشقة: “بغنج، تمشط، عريها، ترتدي، كأميرة” ونلاحظ حضور حبيبها (الرجل) الذي نجده في: “ذراع النهر، ينبلج الصباح” وهذا ما يجعل المتلقي يستمتع بالقصيدة، فاللقاء بين الأحباء حدث جاذب للقارئ ومحبب له.
وإذا ما توقفنا عن الفاتحة: “صفصافة تتكئ بغنج على ذرع النهر” يمكننا معرفة عناصر الجمال التي استخدمها الشاعر لإمتاع المتلقين، فلفظ “صفصافة” الذي يتكرر فيه حرفي الصاد والفاء، والذي جاء بتناسق جميل يعطي القارئ دافعا إضافيا ليتقدم من القصيدة، خاصة أن هناك مشهد (رومنسي) يجمع الأنثى مع حبيبها: “تتكئ على ذراع النهر”
الكتابة
يتناول الشاعر الكتابة بأكثر من شكل، منها ما ذكرناه آنفا، ومنها ما جاء في قصيدة “في هيكل النون”:
“صَلاتُها القصيدة
وقد أدمنتْ التعبدَ
في هيكل النون
تطلق الدُّعاء مستديراً شهياً
كأرغفةِ مائدةٍ على قارعةِ الأملْ…
تراتيلُها شفيفةٌ بريئةٌ
تداعبُ الأذنَ كأنغامٍ ليلكيةْ..
في هيكلِ النونِ
تُقيمُ قُداساً بكاملِ طقسهِ
فتَرشُّ الماءَ بذوراً للحياةْ…
تتراقصُ الكلماتُ
وتحنو النونُ بكاملِ أنوثتِها
كسيدةٍ بلا كلفْ…
تذّوبُ طلَّتها البهيَّةَ
في دفءِ الحنانْ…
ترسمُ في دفاترِها
حدائقَ وردٍ وأغانٍ
تمزجُ بين الأزرقِ والأزرقِ
وبينَ الأخضرِ والضوءِ
فتولدُ معجزةُ الكافِ والنونِ
إنْ شاءتْ هي أو لم تشاءْ…
تشاركُ في هذي المعجزةِ
وتكتبُ كالنوارسِ بمناقيرِهَا
على صحائفِ البحرِ ما ترى
وترى…
وأنا أرى
أنَّ الزبدَ عندما تسترخي الموجةُ
على شاطئِها
أنَّ الزبدَ قد يصبحُ ماءْ
ومنَ الماءِ تُبْتَدَعُ كلَّ الأحياءْ…
نونُ والقلمْ
ونونُ كنْ
ونونُ النوافذِ
وكلَّ نونٍ ترفلُ بالحنانْ
وحتى نونُ نهدٍ مستبدٍّ
تداعتْ كطيورٍ جائعةٍ
لتقيمَ في هيكلِ النونِ
على خاصرةِ البحرِ المهرجانْ…”
كلنا يعلم أن سورة نون جزء من القرآن الكريم، وهي تتحدث عن الكتابة وأهمية الإيمان: “نون، والقلم وما يسطرون ما أنت بنعمة ربك بمجنون وإن لك لأجر غير ممنون وإنك على خلق عظيم” وبما أن هناك قرآن كريم فبالتأكيد هناك إيمان ودين وعبادة، وهذا ما نجده في القصيدة، فنجد مظاهر متعلقة بالدين والعبادة والإيمان: “صلاتها، التعبد، هيكل، الدعاء، ترتيلها، قداسها، فترش الماء، إن شاءت، المعجزة، نون والقلم، ونون كن” ما يميز القصيدة أن الشاعر يجمع بين المسيحية والإسلام، فالمسلم يجد (نفس) إسلامي فيها، والمسيحي يجد مسيحيته فيها، بمعنى أن طرح القصيدة جامع وموحد للقراء بصرف النظر عن ملتهم ومعتقدهم الديني.
القرآن الكريم يتناول قدرة الله من خلال: “إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون” وفي الكتاب المقدس نجد قدرة الله من خلال” وقال الله ليكن نور، فكان النور” فكلمة الله نافذة وافعله عند كل المؤمنين.
الشاعر يعي أهميه كلمة/قول الله، من هنا نجده يحاول أن يحاكي هذه الكلمة/القول من خلال القصيدة:
“فتولد معجزة الكاف والنون
إن شاءت هي أو لم تشاء
…
ومن الماء تبتدع كل الأحياء
نون والقلم
ونون كن
ونون النوافذ
وكل نون ترفل بالحنان”
نلاحظ قوة الكاف والنون “كن” والشاعر يؤنثن ال”نون” فهي (الأنثى) الجميلة: “اطلق الدعاء، تراتيلها شفيفة، تداعب الأذن، تتراقص الكلمات، تحنو أنوثتها، طلتها البهية” ونجدها (الخالقة/الموجدة) للحياة: “فترش الماء بذور للحياة، ومن الماء تبتدع كل الأحياء” وهذا الخصب الروحي/الجمال والخصب المادي يقودنا إلى عشتار ربة الخصب والجمال، الخصب الروحي والمادي الذي نراه في الطبيعية:
“حدائق ورد وأغاني
تمزج بين الأخضر والأزرق
وتكتب كالنوارس بمناقيرها” وهذا ما يجعل “نون” الأنثى كامل ومطلق، لا يشوبه أية شائبة، وإذا ما علمنا أن الشاعر يتناول الكتابة أيضا: “تراقص الكلمات، ترسم في دفترها، معجزة الكاف والنون، وتكتب كالنوارس، بالإضافة المرأة/الأنثى والطبيعة، نكون أمام ثلاثة عناصر فرح/تخفيف، أما العنصر الرابع، الثورة/التمرد فنجده في قدرات النون والكفاف وما أحدثته كلمة “كن” في القصيدة.
الرمزية
من يتابع قصائد “منذر يحيى عيسى” سيجده يتناول النوافذ بكثرة، وهذا له مدلول يتمثل في رؤية الشاعر نحو الفضاء والأمل فيما هو قادم، في: “نوافذ العطر” يعطينا صورة عن هذا الفضاء الذي ينشده:
” النوافذُ المفتوحةُ
تستدعي عبيرَ الأزهارِ الغائبةْ…
دعوا النوافذَ مشرعةً
للريحِ والغناءْ…”
نلاحظ هيمنة البياض على الومضة، من خلال الفكرة/المضمون ومن خلال الألفاظ: “النوافذ (مكرر)، مفتوحة، عبير، الأزهار، مشرعة، الغناء” وإذا ما توقفنا عند الحالتين “مفتوحة” ومشرعة يمكننا معرفة لماذا جاءت (توابع) مفتوحة “عبير الأزهار” أكثر نعومة وهدوء من “مشرعة” “للريح والغناء” فمفتوحة تشير إلى حالة (مؤقتة) وإلى محدودية الفتح، بمعنى يمكن أن يكون المساحة المفتوحة من النافذة لا تسمح برؤية الفضاء/الطبيعة/المحيط كاملا، بمعنى أنها تسمح للخاصة جدا بالعبور/المرور، بينما في “مشرعة” يكون الفتح كاملا ومستمرا، بحيث يمكن رؤية كل شيء وعبور كل شيء، من هنا جاءت دقة الشاعر في الاستخدام، فعندما أراد تقديم شيء صغير/ناعم جاءت “مفتوحة” وعندما أراد تقديم فرح كبير وواضح “الريح والغناء” جاء “مشرعة” لتناسب هذا الفرح الصاخب.
وإذا ما توقفنا عن (أشكال الفرح) سنجدها متعلقة بجمال الطبيعة “عبير الأزهار” ومتعلقة بالفرح الإنساني “غناء” وهذا ما يجعل الومضة تأخذ بعدا رمزيا، فمشاهدة الأزهار (حالة) طبيعية/عادية لكن “الريح الغناء” له مدلول رمزي، يمكن أخذهما إلى الثورة والانتصار.
الدهشة في الومضة:
“البرتقالةُ التي تركتها على الشجرةِ وحيدةً
أصابها حزنٌ شديدٌ”
فهوتْ لتنعمَ بدفءِ الترابْ”
الفكرة مدهشة بالتأكيد، فأنسة “البرتقال” وإعطائه صفات/”حزن” الإنسانية أمر مثير، لكن جمالية الومضة لا تكمن بهذه الصفة فقط، بل في إعادتنا إلى رمزية البرتقال، رمزية فلسطين الأولى قبل أن تتحول إلى الزيتون واللوز، وبهذا يكون الشاعر قد أحدث فعلين، دهشة أدبية، وتقديمنا من أرض فلسطين التاريخية، أرض البرتقال الحزين.
الشاعر يؤكد أهمية الأرض من خلال:
“فهوت لتنعم بدفء التراب”
فهو لا يذكر الوطن/الأرض وإنما التراب، وهذا “الترب” متماثل مع الصورة/الحالة الأدبية التي جاءت ضمن سياق الومضة/القصة، فهو لا يريد أن (يخدش) جمالية الومضة/القصة، لهذا أبقاها محتفظة بصيغتها كنص أدبي، وليس كبيان سياسي.
وإذا ما توقفنا عند فعل الشاعر “تركتها” الذي (يختفي) بعدها، إن كان على مستوى فكرة الومضة، أو ضمن (الواقع الومضة)، بحيث لم يعد له وجود، فهو بابتعاده عن الأحداث، ترك المجال “للبرتقالة” لتقوم بفعلين، “أصابها، فهوت” والجمل في الفعلين، أن الأول “أصابها” جاء قاس “حزن شديد” والثاني كان فيه الراحة: “لتنعم بدفء” بمعنى أنها بعد التعب وجدت (الراحة/السكينة) بينما الشاعر غاب ولم نعرف عنه شيء، بمعنى أنه أصبح مجهول الحال/المكان/الظرف، وبهذا تكون “شجرة البرتقال والتراب” هما مركز الأحداث، وهما من ثبت في الومضة وفي المكان، فهما أبقى وأثبت من الشاعر الذي رحل/غاب/اختفى.
الشاعر يجمع بين همه الشخصي والهم العام، في قصيدة “حلم الوصول” يمكن للقارئ (إسقاط) المعنى على كل حركة التحرر العربية التي إلى الآن لم تنجز أيا من أهدافها، إن كان على صعيد لوحدة أم الديمقراطية، أم على صعيد الاشتراكية والحياة السعيدة، يقول في القصيدة:
” أيها البنفسجُ الحزينُ
اصرخْ في وجهِ الغيمِ:
كفى رماداً
جسدي صارَ مقبرةً للحزنِ
وأنا متعبٌ، و قد طالَ الطريقُ
وتلاشى حلمُ الوصولْ…”
فاتحة الومضة التي يخاطب فيها الشاعر “البنفسج” تمثل (ثورة)/”أصرخ” على واقعه الحزين، فلم يعد يطيق ذراعا بموت/زوال/حرق الإنجازات التي أمست “رمادا” بعدها يأخذنا على متاعبه: “جسدي صار مقبرة للحزن، أنا تعب” نلاحظ التكثيف والاختزال، حتى أن الشاعر (يتجاهل) المحيط به، مركزا على نفسه وعلى الطريق الذي لم ينتهي من عبوره: “وقد طال الطريق، وتلاشى حلم الوصول” وهذا ما يجعل القصيدة تأخذ بعدا شخصيا وبعدا وطنيا/قوميا، فكل الأحزاب/التنظيمات/الحركات الوطنية والقومية تسير مكانها (مكانك سر) دون أن تحقق أية أهداف من برامجها، فأمسى وجدوها أقرب غلى الجثة الحية أو إلى الشجرة التي لا تثمر ولا تخضر.
أعتقد أن هذه النماذج من القصائد تعطينا صورة وافية عن الشكل والطريقة التي يستخدمها الشاعر في كتابته الشعرية، فالمتعة حاضرة، والسلاسة موجودة، أحيانا يقدم مشاهد (عادية) وأحيانا يدهشنا من خلال الجمع بال شكل القصيدة، والألفاظ التي استخدمها، والمضمون الذي تحمله.
وهذا يقودنا إلى العلاقة الشكل بالمضمون، فالمتلقي لا يهمه شكل القصيدة، إن كانت موزونه وملتزمة بقافية بعينها، أم قصيدة نثر، فهو يهتم بالمتعة التي يجدها أثناء القراءة، إن كانت من خلال اللغة، أو من خلال الصور الشعرية، أو من خلال المضمون والفكرة، فما دام حصل على المتعة، وتناول القصيدة بسلاسة، فهذا يكفيه ليقول إن الشاعر استطاع تقديم ما هو إيجابي وممتع ومفيد.
وهنا أتوقف قليلا عند متعة تناول النص الأدبي، أية نص مهما كان جنسه وشكله، فالمتعة بحد ذاتها تحمل (الفائدة) للمتلقي، أليس الخروج من حالة الألم والقسوة حالة إيجابية؟ ومن منا في المنطقة العربية لا يعاني من الهموم الوطنية والشخصية؟ فكلنا بحاجة إلى استراحة، إلى قسط من الراحة نتقوى به لنستمر في الطريق، فطريقنا طويل وصعب وشاق، على مستوى الأفراد وعلى مستوى الجماعات/ الأحزاب الوطنية والقومية، من هنا يمكننا القول إن ديوان “شغف الأسئلة” وما فيه من متعة أمدنا بالقوة/بالطاقة لنكمل طريقنا في الحياة، الحياة العادية/الشخصية، والحياة الاجتماعية/الوطنية والقومية.
الديوان من منشورات دار “أمارجي السومرية، العراق، الطبعة الأولى 2024.
الكاتب والناقد رائد الحواري