الثقافة والعلم بين الواقع والمتخيل الإبداعي ثقافة الكاتب وثقافة النص في الواقع الموضوعي للطفل

هناك معطيات ورؤى متعددة الاتجاهات تجعلنا ننظر إلى الثقافة وإلى العلم من زوايا متعددة ، بناء على الواقع الموضوعي لكل من الثقافة والعلم ، وبحسب الطبيعة الوظيفية والفاعلية العملية لكل منهما ، خصوصاً إذا ما أخذنا ذلك من خلال المنجز والمنتج الفكري الذي يرسخه كاتب الثقافة ومنتج الفكر في إطار الفكر وفي إطار العمل الأدبي المنتج لأغراض التلقي الموضوعي والوظيفي لإدامة التطور الثقافي للمجتمع وللاستزادة المعرفية والعلمية لمعطيات المنتج الأدبي الذي يتجدد بمنتج الكاتب والمفكر والأديب الوظيفي المتجدد ، هذا الذي يمنح الثقافة والعلم قوة الفاعلية وفاعلية العنفوان والتجدد دائماً .

من هذا المنطلق لابد لنا أن نميّز بين ثقافة الكاتب وثقافة النص ، حين لا تكون ثقافة الكاتب ثقافة خلّاقة ومثيرة ومدهشة ومؤثّرة في ثقافة النص الموجّه للطفل ، ولهذا فأن الثقافة المبدعة أو إبداع الثقافة ، أو ما نسمّيه تحديداً ( الثقافة الخلّاقة المتجسّدة في إبداعية النص الأدبي ) ، يحتّم علينا بالضرورة أن نميّز هذه الثقافة عن تلك الثقافة ، أي بمعنى أن الثقافة العلمية التي يعرفها الكاتب ويحملها في مخزونه المعرفي ، يتطلب منها أن تكون مختلفة ، أسلوبيّاً وفنّياً وهي تتجسد وتصاغ في أدب الأطفال .

هذا ما نقصده ونشدد عليه ، في مسألة التمييز والاختلاف بين ثقافة الكاتب وثقافة النص ، ونحن هنا نفرّق ونميّز ، عن قصد ودراية ، بين هذه الثقافة وبين تلك الثقافة ، فثمّة فارق واضح بين هذه الثقافة عن تلك .

نعم ، فثقافة الكاتب غير ثقافة النص ، بمعنى أن ثقافة الكاتب ثقافة واسعة ، شاسعة ، متعددة المحاور و الاتجاهات والمجالات ، وهي في كل الأحوال ثقافة كبيرة خاصة به ، أي ثقافة خاصة بالكاتب نفسه ، بينما ثقافة النص – وهذا ما نفترضه أن يكون – ثقافة خاصة بالطفل ، وتدور في مداره ، وفي حدود قدرته وفهمه ، وفي مستوى وعيه وتفكيره ، ولا تتجاوز ذلك بأيِّ شكل من الأشكال ، وإذا ما أتت وقامت بغير ذلك فإنها ستصبح وبالاً على الطفل ، وعلى النص الأدبي المكتوب لهذا الطفل .

وانطلاقاً من هذا المنحى ، يمكن التأكيد هنا على أن الكاتب الخلاق ، الذي يدرك مهمته جيداً ، ويتمكّن من أدواته ، و من إدارة آليات خلقه الفني والإبداعي لأساليب تعبيره في عمليات الكتابة الإبداعية للطفل ، هو من يغاير في رؤيته للثقافة العلمية عندما يريد أن ينقل هذه الثقافة ويعكسها في الأدب الذي يكتبه للطفل ، بحيث يضع نفسه مكان الطفل المتلقي ليدرك خواص التلقي الطفلي وميزته عن التلقي لدى عالم الكبار ، وبذلك سيدرك تماماً أن ثقافته الخاصة لا تصلح لتلقي الطفل ومخاطبته داخل النص المكتوب لهذا الطفل ، ما لم ( تخلع ) هذه الثقافة لباس الكبار وعوالمهم ،حين تخرج من مخيّلة الكاتب وتتلبّس لباس الطفولة وعوالمها الخاصة في فضاءات النص المحدد ، حصراً واشتراطاً لعالم الأطفال .

حقيقة أن الكاتب الجيد هو من يقرر صواب الفكرة وجودتها في مخاطبة الطفل ، عندما يدرك مسبقاً صواب الفكرة من عدمه ، قبل صياغتها وإيداعها في النص الموجّه للطفل ، ومثل هذا الكاتب ، يستطيع بقدرته الإبداعية الجيدة ، وبمهارته الفنية العالية ، وبحساسية ذائقته الأدبية والعلمية الرفيعة ، أن يميّز أوجه الثقافة العلمية التي يحملها ويدركها ككاتب ، عن أوجه الثقافة العلمية التي يريد أن يجسّدها ويعكسها في الأدب الذي يكتبه ويوجّهه إلى الطفل بأساليب وصياغات تتوافق مع مستويات الطفل ، وتنسجم مع قابلياته ، ومع حدود مقدرته المحدّدة في إطار عوالم الطفولة ولغتها .

وبهذا المستوى من الفهم ، فقد أستطاع هذا الكاتب بمهارته الإبداعية الواضحة ، وبأسلوبه الفني العالي ، أن يميّز بين الثقافة العلمية التي يحملها هو ككاتب وبين الثقافة العلمية التي يريد أن يوجّهها إلى الطفل ، ويخاطبه من خلالها ، خطاباً فنيّاً ، وعلميّا وإبداعياً ، عبر النص الأدبي الموجّه إلى الطفل في أدبه الخاص ، كثقافة خاصة بالطفل ، جاءت محمولة بالنص الأدبي الخاص بهذا الطفل .

أن الكاتب هنا ، وهو يميّز ، وينجح في هذا التمييز ، بين ثقافته ككاتب ، وبين ثقافة النص المكتوب إلى الطفل ، لم يأت بثقافة علمية أخرى غير الثقافة العلمية التي يحملها ، فهو هنا قد تعامل مع ثقافة علمية واحدة ، هي الثقافة العلمية التي يعرفها ويحملها ، و لكنه نظر إليها من اتجاهين متباينين ، اتجاه الراشدين الكبار ، واتجاه الأطفال ، وطبيعة هذا التباين ، في هذين الاتجاهين ، تتطلب منه أن ينظر إلى الأطفال نظرة مختلفة عن نظرته إلى الراشدين الكبار ، وهذا يعني ، عندما يريد أن يعلّم الأطفال ويرشدهم إلى معارف الثقافة العلمية ومعالمها ، ويخاطبهم بهذه الثقافة خطاباً أدبياً ذات مدلولات علمية ، تعكس للأطفال جوانب من الثقافة العلمية في الأدب الذي يكتبه لهم ، لابد له من أن يصوغ الثقافة العلمية التي يريد أن يوجهها إلى الأطفال صياغة فنية ، وأسلوبية ، وموضوعية ، ولغوية ، تختلف عما كانت عليه ، وهذه الصياغة ، وهذا الاختلاف ، لابد أن ينسجمان ويتوافقان مع الطفل وعوالمه ، لتكون في غاية الانسجام ، وفي غاية التوافق .

وعلى هذا الأساس تأتي نظرتنا إلى الثقافة العلمية ومنعكساتها في أدب الأطفال ، من منظورين متباينين ، منظور ثقافة الكاتب ، ومنظور ثقافة النص المكتوب .

صحيح أن الثقافتين في أصلهما ، ينبعان من ثقافة واحدة ، ولكن هذه الثقافة الواحدة قد اختلف أسلوب سردها وتجسيدها في النص الأدبي المكتوب للأطفال ، ولهذا فقد اختلفت هنا في منظورها الثاني عن منظورها الأول ، وهذا ما نشير له بالاختلاف البيّن بين ثقافة الكاتب وثقافة النص ، والكاتب الجيد هو الذي يحدد ملامح هذا الاختلاف ويرسّخه في إبداعية النص الذي يكتبه للأطفال .

أن الكاتب الجيد ، الذي يتمتّع بالمهارة والجودة في الكتابة العلمية ، وفي عكس الثقافة العلمية في أدب الأطفال ، ليس هو الكاتب الذي يحمل سعة كبيرة من الثقافة العلمية فحسب ، إنما هو ذلك الكاتب الذي يعي كيفية إيصال تلك الثقافة العلمية إلى الطفل بأبسط الأساليب ، وأمتع الطرق وأيسرها ، وبأبهى الصور والعبارات التي يبتغيها الأطفال وينشدّون إليها .

وانطلاقاً من هذا الفهم ، لابد من التأكيد هنا مجدداً على أن القيمة الإبداعية المتميزة للكاتب ، تكمن بقدرته على التمييز بين لغته وثقافته ، وبين ما يجب أن يكتبه من لغة وثقافة موجّهتين للطفل ، في نص إبداعي ، جدير بمخاطبة الطفل والتماهي معه ، تفاعلاً وسعياً للارتقاء بقدراته ، وبمخيّلته ، وبذائقته .

ولكي نحقق ذلك لأطفالنا ، يتطلب منا أن نكون حريصين ، ودقيقين في تحديد حدود الثقافة العلمية التي نريدها ، ونريد من أدب الأطفال أن يجسدها ويعكسها لأطفالنا ، فهذا الجانب يعدّ – باعتقادنا – من الجوانب المهمة والأساسية في ترسيخ القواعد العامة للثقافة العلمية ، أولاً : في وعينا بشكل عام ، وثانياً : في وعي الأطفال وفي تحصيلهم العلمي بشكل خاص ، فعند ذلك يمكن أن نبدأ الخطوة الأولى على الطريق الصحيح لنشر الثقافة العلمية ، وتعميقها في حياة أطفالنا .

هنا لابدَّ من التأكيد على مسألة أساسية ، وفي غاية الأهمية في قضيتنا هذه ، وهي : أن الثقافة العلمية التي نريدها لأطفالنا ، ونشدّد على توسيع مدياتها وقواعدها في حياتهم بشكل دائم ، والتي ندعو إلى تجسيدها في النص الأدبي الخلاق ، وعكسها إبداعياً وفنّياً في الأدب الموجّه للأطفال ، هي ليست الثقافة التي تستغفل الطفل فتقدّم له بلغة جافة وسطحية ، أو تقدّم له المعلومة العلمية كما هي ، مجرّدة من كل إثارة وتشويق ، ولا هي تلك الثقافة التي تعتمد على السرد العلمي المباشر ، وطرح المعلومة العلمية بصيغتها التقليدية ، مع إحاطتها بجانب من الشرح والتفسير المباشرين ، اللذين لا يثيران خيال الطفل ولا يوسّعانه باتجاه التفكير والتأمّل العلمي .

ولهذا ، فأننا في أدبنا العربي الموجّه للطفل ، والذي ينطلق من منطلقات علمية ، في محاولاته الفنية والموضوعية لعكس الثقافة العلمية ، نلاحظ أن هناك الكثير من منتجات هذا الأدب ، وفي مساحة واسعة منه ، قد جاء بعيداً عن المأمول في الكتابة والتجسيد الجيّدين في اتجاهات الثقافة العلمية ، شكلاً ومضموناً .

إذ أن هذه الكتابات ، بلا أدنى شك ، جاءت معبّرة عن غناها ، وسعتها بالمعرفة العلمية ، ولكنها جاءت بأسلوب وقالب جامدين لا يثيران أية رغبة لدى الطفل بالمتابعة والإطلاع ، والتجاوب مع ما فيها من التثقيف العلمي .

أن حقيقة الجمود في هذه الكتابات ، وقصورها في شد الطفل ، وجعله يتجاوب ويتأثّر مع ما فيها من أوجه الثقافة العلمية ، يأتي من طريقة تقديم هذه الثقافة وأساليب صياغتها وعكسها في البناء الفني لأدب الأطفال ، وهذه الثقافة العلمية ، كما نراها في أغلب هذه الكتابات ، قد جاءت منعكسة بوضوح من السعة التي تنطلق منها مخيّلة الكاتب ومخزونات ذاكرته ، فراحت تنتقل بشكل مباشر ، ودون أدنى عناء أو إبداع ، من تلك المخيّلة إلى مساحة النص ، وفي هذا الحال ، يظن الكاتب أنه أفلح في كتابته ، ونجح في إيصال ثقافته العلمية ، كما يراها ، إلى الطفل ، ولم يدر بخلده ، أن ثقافته هذه كانت قد قصّرت ، في الوصول إلى الطفل ، قصوراً واضحاً ، ولم تصل إلى غاياتها ومبتغاها بالتأثير في حواسه وفي قدراته ، حين لم تتمكن من الاستحواذ على اهتماماته وتشدّه إليها بأيِّ شكل من الأشكال ، بل أنها إلى جانب ذلك ، كانت بمستواها هذا قد أحدثت بعض التشويش على ذائقة الطفل الأدبية والعلمية ، وعلى سعة مخيّلته ، من خلال رتابة النص الأدبي المكتوب إلى هذا الطفل ، بهذا المستوى من الرتابة والمباشرة والجمود في مجمل أبنية النص وفنّيته ولغته وأسلوبه في التعبير وفي الصياغة .

وعلى هذا الأساس لابدَّ للكاتب وهو يتوجّه إلى تجسيد وعكس الثقافة العلمية في الأدب الذي يكتبه للأطفال ، أن يدرك الكيفية المناسبة لتجسيد هذه الثقافة ، وأساليب عكسها في أدب الأطفال ، مع ضرورة إدراك ماهية الثقافة العلمية التي يبتغيها المجتمع و يريدها لأطفاله جميعاً .

أن المقصود هنا بالثقافة العلمية التي ينادي بها المجتمع ، مثلما ننادي بها ونريدها لأطفالنا ، مثلما يتطلب من الكاتب أن يتطلّع إليها ، ويعمل على تجسيدها ، وعكسها في أدب الأطفال ، وتعميقها في وجدان الطفل ، وفي صميم وعيه وفكره بأساليب خلاقة ومؤثرة ، تعكس أثرها ومؤثراتها الإيجابية الفاعلة في حياة الطفل ، وفي سلوكه ، وفي اتجاهات شخصيته الاجتماعية والثقافية والعلمية في حياته العامة .

لذلك فان الثقافة العلمية التي نريدها لأطفالنا دائماً وأبداً ، هي ليست الثقافة التي تسعى إلى ملء عقول الأطفال وأفكارهم بالمعلومات العلمية المجرّدة بكل جوانبها واتجاهاتها ، مع تعريفهم ببعض الجوانب والاتجاهات الواضحة لعوالم المعارف والعلوم المختلفة ، لغرض حفظها ، والإطلاع على الكثير من المفردات والمفاهيم العلمية وإدراك معانيها .

ليست هذه هي الثقافة العلمية التي نريدها لأطفالنا ، بل أن الثقافة العلمية الحقيقية ، والفاعلة ، والمؤثّرة التي نريدها لأطفالنا ، هي الثقافة العلمية والعملية في تفكير الطفل وفي محصّلاته العلمية والتربوية والسلوكية ، وهذه الثقافة في حقيقتها ، وفي منطوقها العملي والعلمي ، هي الثقافة الخلاقة ، وهي .. كما يذهب الدكتور ( عماد زكي ) : الثقافة المبنيّة على كيف ؟ .. ولماذا ؟ .. والتي كانت وراء كل الاختراعات والاكتشافات ، ومن خلال هذه الثقافة ، يجب أن نشجّع الطفل على السؤال ، ونشجّع فيه الفضول ، ونستخرج من تفكيره القدرة على الإبداع والابتكار وحل المشاكل والأزمات ، كما يجب أن ندرّب عقله على الملاحظة والتجريب والتحليل والتفسير ، وبعبارة أخرى يجب أن نزرع فيه التفكير العلمي ، حتى تكون ثقافته العلمية ثقافة عملية ) .

أن الثقافة العلمية ، بهذا التوصيف وهذا التحديد ، والتي نريدها أن تتحوّل من الثقافة العلمية النظرية إلى الثقافة العملية التطبيقية ، في تفكير الطفل وفي سلوكه ومحيطه ، هي ليست بالأمر اليسير ، ولا هي بالأمر العسير ، إنما هي ثقافة ميسرة ومستحصلة ، تأتي وتتبلور ، قبل كل شيء ، عندما نسعى بجد ، وحرص ، ومسؤولية عالية ، إلى توسيع مديات هذه الثقافة في وعي الطفل ، بشكل تدريجي ، وبتبسيط واضح يمر من السهل إلى الصعب ثم إلى الأصعب خطوة خطوة ، صعوداً إلى الأهم والأكثر أهمية في التدرجات المعرفية والعلمية ، والتي لا تتجاوز محيط الطفل وعالمه ، وصولاً إلى مرحلة التغذية المستديمة لكل حواس الطفل وقدراته العلمية الواسعة .



الكاتب والناقد والباحث فاضل الكعبي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *