الثقافي والسياسي في ضوء العدوان على غزّة


على مسمعِ ومرأى العالم الرسمي، العربي والإسلامي قبل الغربي، تستمر هذه المقتلة التي تنفّذها حكومة الاحتلال الإسرائيلي بأعلى درجات الانتقام التي لا تخلو من الساديّة بحقّ أبناء شعبنا الفلسطيني في قطاع غزة. في كلّ يومٍ جديدٍ يمرّ، توغل آلة الحرب الإسرائيلية – الأميركية، المسنودة علنا من قبل الحكومات البريطانية والألمانية والفرنسية والعديد من دول الاتحاد الأوروبي، وسرّا من قائمة حكومات دول أخرى تقف بعض الدول العربية والإسلامية على رأسها، بل إنّ بعضها لا يخفي وقوفه إلى جانب الجلاد ضد الضحية، ومن باب الوفاء لدماء الشهداء، ولعذابات المنكوبين يجب أن تُسمّي تلك الحكومات بأسمائها، وإن كانت لم تعد تخفى على أحد. أمام شلال الدم الفلسطيني الذي يُسال، وحرب الاقتلاع التي تشنّها قوات الاحتلال في قطاع غزة، هل علينا أن نكتفي بترديد مقولة الشاهد الشهيد ناجي العلي الساخرة: “فلتسقط جارة كندا” ؟! أم علينا أن نسمّي تلك الجارة باسمها الصريح ؟!

في خضمِّ هذه المقتلة التي لم يسلم من همجيتها البشر والشجر والحجر، يفرض سؤال العلاقة بين الثقافي والسياسي نفسه على المشهد الثقافي العربي، وبخاصة في هذه المقتلة الكاشفة التي لم تعد تقبل الحيادية في المواقف. فمن خلال المتابعة، وإن لم تكن مروحتها شاملة، يمكننا تصنيف مواقف المثقف العربي إلى ثلاث فئات: الأولى تلك الفئة التي تماهت هوية المثقفين الوطنية مع القضية الفلسطينية كهوية نضالية، فلم ينفكّوا بالانحياز إليها والدفاع عنها، والثانية التي انشغلت بقضايا بلدانها، والثالثة من أعلنوا “براءتهم” من القضية الفلسطينية، بل وذهبوا إلى أبعد من ذلك من خلال تبنيهم للسردية النقيض وجاهروا، ليس فقط بعدائهم للفلسطينيين وقضيتهم القومية، بل وتواقحوا بدفاعهم عن تلك السردية إلى حدِّ التشفي بالضحايا.

في اللحظات الأولى لبدء العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة، انبرى مثقفو الفئة الأولى وفق هذا التصنيف الذي أجتهدت به للتفاعل الفوري مع الحدث، وبالنسبة للفئة الثانية أعادت تفاعلها واهتمامها مجددا بالقضية الفلسطينية التي انشغلت عنها بالاهتمام بقضاياها الوطنية خلال عقود تكريس قطرية الدولة أما قوميتها. وأمّا الفئة الثالثة فإنّ عدداً منهم تراجع عن مواقفه السابقة معتذراً للشعبين الفلسطيني والمصري عن غَرَقِهِ في التطبيع كما فعل الكاتب المصري أسامة الغزالى حرب الذي نشر مقالة اعتذر في صحيفة (الأهرام) عن موقفه من التطبيع، إلا أنّ الروائي الفرنسي المغربيّ الأصل الطاهر بن جلون لم يعتذر عما كتبه عن أحداث السابع من أكتوبر (تشرين أول) وإنما حاول الدفاع عن نفسه بقوله في مقابلة تلفزيونية أنّه كان دائما مع فلسطين وقضيتها، وإن ما كتبه عنها يفوق ما كتبه عن أحداث اليوم المذكور. وأشار إلى أن عدد الضحايا الفلسطينيين يفوق كثيرا عدد “أمثالهم” من الإسرائيليين الذين قضوا في هذه الحرب. إنّ هذه المقارنة لا تعني تراجعا علنيا عن موقفه السابق، وإن يُستَشَفُّ منه أنه مراجعة خجولة له في وجه موجة الانتقادات التي وُجِّهَت له.

ذلك على المستوى الفردي، أما على المستوى الجماعي فهناك غياب لصوت ثقافيّ جماعيّ عربيّ، وعلى المستويين الوطني والقومي، ضد الجرائم التي تقترفها قوات الاحتلال في قطاع غزة للشهر الثالث على التوالي، باستثناء البيانات التي أصدرها الاتحاد العام للأدباء والكتّاب العرب على المستوى القومي. وأما على المستوى الوطني فلم نسمع عن موقف جماعيّ صادر عن النخب الثقافية باستثناء البيان الذي وقّع عليه سبعون كاتبا وصحفيا وفنانا عُمانيا أدانوا به “بكافة أشكال الإدانة، هذه الجرائم كلها، مطالبين المثقفين العرب، وشرفاء الإنسانيّة، في جميع أنحاء العالم لينهضوا بواجبهم، في التعبئة والمواجهة الأخلاقية والثقافية العامة؛ للوقوف ضد الجرائم النكراء المشهودة”.

هل ارتقى الموقف الثقافي العربي الجمعي إلى حجم جرائم الإبادة والاقتلاع التي يتعرّض لها الشعب الفلسطيني، ليس في قطاع عزة وحسب، وإنما في الأرض الفلسطينية المحتلة كافّة ؟! وهل المطلوب من المثقف أن يقوم بدور السياسي ؟! وهل استطاع الثقافي أن يؤثّر في موقف السياسي، أم العكس هو الذي جرى ؟! وهل ينحصر دور المثقف في التأثير على الرأي العام من خلال توظيف وسائل التعبير فقط، أم أنّه يمتلك أدوات أخرى لتوظيفها ؟! تلك أسئلة مفتوحة تحتاج إلى نقاش.

في السابع عشر من تشرين ثاني (نوفمبر) 2023 عقد الاتحاد العام للأدباء والكتّاب العرب اجتماعا طارئا له في العاصمة المصرية، وتقرّر في الاجتماع الذي عقد مع نهاية الأسبوع السادس لبدء العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة تنظيم وقفة احتجاجية ضد الجرائم الوحشية التي تُرتَكَبُ في القطاع. وعلى هامش الاجتماع أشاد الأمين العام للاتحاد، د.
علاء عبد الهادي، بالدعم “الكامل للقيادة السياسية المصرية التي لم تدخر جهدا لدخول المساعدات الإنسانية للشعب الفلسطيني في غزة، والتوجيه باستكمال علاج الجرحى من الأطفال والنساء داخل المستشفيات المصرية”!! والسؤال الذي يفرض نفسَه في هذا المقام هو: هل يختلف تصريح “الثقافي” عن تصريح السياسي ؟! وهل بالفعل قامت القيادة السياسية المصرية بالدور الذي يمكن أن تقوم به لوقف هذه المقتلة ؟! وحتى فيما يتعلّق بموضوع فتح معبر رفح، وتقديم المساعدات الإغاثية وعلاج الجرحى، أليس من واجب الثقافي أن يُسائِل السياسي عن تفسيره لمفهوم السيادة الوطنية على المعابر الحدودية للدولة ؟! وهل كان للدولة العميقة في مصر أن تسمح للكتّاب والأدباء والفنانين ونشطاء المجتمع المدني لتنظيم اعتصامات مناصرة لقطاع غزة على الحدود المصرية – الفلسطينية ؟! وحتى على صعيد تقديم المساعدات الإنسانية وعلاج المصابين، فهل قامت الحكومة المصرية بواجبها حقاً في هذا المضمار حتى يشيد الثقافي بما يدعيه السياسي؟!

إن تساوق موقف الثقافي مع موقف السياسي يعكس تبعية الأول للثاني، وضبط إيقاع موقفه مع الموقف الرسمي، وهذا يلغي الدور الطليعي للمثقف الذي يرى المشهد بشموليته، ويرسم مستقبله، ولا يراه وفق رؤى السياسي وحسابات مصالحه الآنية. كما أنّ على الثقافي أن يعبّر عن نبض الشارع وتطلعاته، ويقوده من خلال تشكيل رأي عام ضاغط على السياسي لإجباره على اتخاذ مواقف تنسجم مع تطلعات الشعوب.


الكاتب سميح محسن

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *