مقاربة فكرية لحكم الفيلسوف الصيني “كونفوشيوس”
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قال “كونفوشيوس”
* إذا أردت سماع أصوات الطيور، لا تشتري أقفاصا، بل أغرس الأشجار.
* كنت أحسد من له حذاء، إلى أن رأيت رجلا بلا قدمين.
* لا يهم كم تسير ببطيء، ما دمت لا تتوقف
الحكمة التي لا تحمل موجها بلاغيا ادراكيا هي مغالطة لأنها تظهر سياقا واحد وتغفل السياقات المخالفة او الغير منطبقة معها والسياق البلاغي الإدراكي هو سياق يضمن استغراق جميع المحتملات تحت منقول الحكمة فلكل حكمة شرائط وقيم وسياقات لكي تكون نواقلها فاعلة مهما كان التحول النوعي مختلفا في الشكل والماهية لأن المعطى واحد
من جانب اخر ان محصل الثقافة من افق الحكمة هو دور توقيت يعيد سياقا ما للذات وفق محمول هذه الحكمة ليس الا لأن الحياة توجد في التفاصيل وليس في الحكمة
الحكمة ليست مجرد نصائح عامة أو عبارات مؤثرة تُقال في لحظات تأمل. بل هي نص تحويلي يشمل توجيهاً بلاغياً إدراكياً، أي أنها تفتح أفقًا واسعًا لاستيعاب جميع الاحتمالات والسياقات، فلا تبقى محدودة في معنى واحد ضيق يغفل الاحتمالات المختلفة أو السياقات المعارضة. ومن هنا، عندما نتحدث عن الحكمة التي تفتقر إلى هذا النوع من الإحاطة الإدراكية، يمكن القول إنها تغرق في مغالطة، لأنها تظهر سياقًا واحدًا وتغفل عن التعددية الفكرية.
السياق البلاغي الإدراكي هو الوسيلة التي يمكن من خلالها أن تكون الحكمة مفتوحة على احتمالات متعددة، تشمل أبعادًا ذاتية وموضوعية، وتضمن أنها تتفاعل مع كل سياق وموقف بطريقة متكاملة. لكل حكمة شروط خاصة، وهذه الشروط هي المحددات التي تجعل الحكمة نافذة ومؤثرة بشكل أعمق. على سبيل المثال، شرائط الحكمة قد تشمل المعرفة السابقة، التجربة، الزمن، الحالة النفسية، والمعايير الثقافية المحيطة. عندما تتوافر هذه الشروط وتتكامل مع النص الحكمي، يصبح ممكنًا فهمه بعمق وجعله مستغرقًا جميع الحالات الممكنة.
بداية لنشرح المفاهيم الأساسية في الحكمة
الحكمة الفلسفية: الحكمة هي توجيه فكري يعتمد على التأمل في التجربة البشرية والواقع، ويهدف إلى نقل فهم عميق للتجربة الحياتية. ومع ذلك، تكمن خطورة الحكمة في فهمها وتطبيقها؛ إذ قد تنقلب إلى مغالطة إذا أُسيء فهمها أو تم تطبيقها في غير سياقها.
السياق البلاغي الإدراكي: يُعنى هذا المفهوم بتوفير مساحة شاملة تسمح للحكمة باستيعاب مختلف السياقات والاحتمالات التي قد تتنوع بناءً على ظروف الفرد أو المجتمع. بمعنى آخر، السياق البلاغي الإدراكي هو الأداة التي تحافظ على مرونة الحكمة وتجعلها مفتوحة للتفسير والتطبيق بطريقة تتناسب مع كل موقف. غياب هذا السياق يحول الحكمة إلى مغالطة قد تضلل.
دور الشرائط: الشرائط هي الشروط التي تحكم مدى صلاحية الحكمة وتأثيرها. تشمل الشرائط العوامل النفسية، الزمنية، الاجتماعية، والمعرفية التي تحيط بالحكمة. الحكمة التي لا تراعي هذه الشروط تفقد قدرتها على التأثير وتصبح غير منطبقة في حالات كثيرة.
الحكمة كتوقيت يعيد سياقا ما وفق محمول واقعي
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
كما قلت ان محصل الثقافة من افق الحكمة هو دور توقيت يعيد سياقا ما للذات وفق محمول هذه الحكمة ليس الا لأن الحياة توجد في التفاصيل وليس في الحكمة
لتحليل تفاصيل هذه الفقرة سأقوم بشرح محاورها
1. دور التوقيت وإعادة السياق للذات:
العبارة “محصل الثقافة من أفق الحكمة هو دور توقيت يعيد سياقًا ما للذات وفق محمول هذه الحكمة ليس إلا” تتعلق بالفهم الفلسفي لدور الزمن والتجربة الذاتية في استيعاب الحكمة. هذا يعني أن الحكمة ليست ثابتة أو جاهزة للتطبيق في كل الأوقات، بل تتطلب إعادة تفعيلها أو استدعائها في الأوقات المناسبة، حيث تلعب التوقيت والتجربة الشخصية دورًا كبيرًا في تحديد كيفية فهم الحكمة واستخدامها.
الحكمة تصبح ذات معنى وفائدة فقط عندما يتم توظيفها في الوقت والسياق المناسبين. فكل تجربة فردية لها ظروفها الخاصة، وبالتالي فإن الحكمة قد تُستوعب بشكل مختلف من قبل الأفراد وفقًا لاحتياجاتهم، ومواقفهم، والظروف المحيطة بهم.
الحياة الحقيقية تكمن في التفاصيل، وليس في المجردات العامة أو النصائح العامة (الحكمة في صورتها المجردة). الحكمة تساعد في تقديم إطار للفهم، ولكن تطبيقها يعتمد على التفاصيل الدقيقة التي قد تختلف من شخص لآخر.
2. العلاقة بين الحكمة والحياة اليومية:
فكرة أن “الحياة توجد في التفاصيل وليس في الحكمة” تؤكد على أن الحكمة ليست سوى محمول أو إطار عام للفهم، في حين أن الحياة نفسها تكمن في التفاصيل الدقيقة والتجارب الفردية. الحكمة في حد ذاتها قد تكون مجردة أو نظرية، لكنها تحتاج إلى تفاصيل الحياة لتتجسد وتصبح قابلة للتطبيق.
على سبيل المثال، الحكمة القائلة: “لا يهم كم تسير ببطء، ما دمت لا تتوقف” تبدو نظرية وعامة، لكنها تأخذ معنى حقيقيًا فقط عندما يتم تطبيقها في تفاصيل حياة الشخص الذي يواجه تحدياته الفريدة. قد يعني ذلك الصبر لشخص يحاول التعافي من مرض، أو المثابرة لشخص يعمل ببطء على مشروع طويل الأمد. التفاصيل الدقيقة لكل حالة هي التي تعطي هذه الحكمة معناها العملي.
3. الثقافة كإطار زمني للحكمة:
محصل الثقافة من أفق الحكمة يشير إلى أن الثقافة هي التي تشكل التجربة الزمنية التي من خلالها يعيد الفرد فهم نفسه وسياقاته الحياتية وفقًا لما تقدمه الحكمة. الثقافة تمنح الشخص الأدوات والمعايير التي يمكنه من خلالها تطبيق الحكمة على حياته. فالحكمة لا تكون جزءًا من الحياة إلا إذا تم استدعاؤها وفهمها من خلال منظور ثقافي وزمني معين.
في الحكم التي تناولناها، نجد هذا الأمر جليًا. مثلًا، الحكمة “كنت أحسد من له حذاء، إلى أن رأيت رجلاً بلا قدمين” تعتمد على المنظور الثقافي للرضا والتواضع، وهو منظور يختلف باختلاف الثقافات والمجتمعات. في ثقافات معينة، قد تكون هذه الحكمة أكثر تأثيرًا من غيرها بسبب الظروف الاقتصادية أو الاجتماعية التي تجعل الناس أكثر عرضة للشعور بالنقص المادي. هنا، التوقيت الثقافي والذاتي لهذه الحكمة هو ما يجعلها ذات قيمة.
4. التفاصيل مقابل الحكمة العامة:
تؤكد العبارة “الحياة توجد في التفاصيل وليس في الحكمة” على أن الحكمة في حد ذاتها قد لا تكفي لفهم الحياة بصورة شاملة. الحكمة، كما ذكرنا، تعطي إطارًا عامًا للتفكير، ولكن التفاصيل الدقيقة هي التي تشكل جوهر الحياة وتجربتها. فالحكمة تعمل كأداة نظرية للتوجيه، لكن يجب أن تكون متكاملة مع التفاصيل الدقيقة التي تميز كل تجربة فردية.
مثال على ذلك: الحكمة “إذا أردت سماع أصوات الطيور، لا تشتري أقفاصًا، بل أغرس الأشجار” تعتمد على فكرة عامة، ولكن تطبيقها الواقعي يعتمد على العديد من التفاصيل: ما نوع الأشجار التي يجب غرسها؟ ما المناخ المناسب؟ ما هو السياق الزمني والمكاني الذي يجب أن يتم فيه هذا الفعل؟ الحكمة تعطي التوجيه، لكن الحياة تتمثل في التفاصيل العملية التي تجعل هذا التوجيه ممكنًا وفعالًا.
إن محصل الثقافة من أفق الحكمة هو إدراك أن الحكمة لا تعمل بمعزل عن التفاصيل الحياتية الدقيقة أو الزمن المناسب. بل، الحكمة بحاجة إلى التوقيت، والتجربة الشخصية، والسياق الثقافي، لكي تكون ذات معنى حقيقي. الحياة اليومية هي التي تشكل هذه التفاصيل، وتمنح الحكمة قدرتها على التأثير والفهم العميق.
الحياة ليست في الحكمة المجردة، بل في تفاصيل التطبيق العملي للحكمة. وفهم الحكمة يتطلب إدراكًا للسياقات الزمنية والثقافية والتجريبية التي تحيط بها. التوقيت وإعادة السياق للذات هما ما يعيدان إحياء الحكمة ويجعلانها ملائمة للفرد وللموقف المعين الذي يعيشه.
تحليل الحكم الفلسفية لـ “كونفوشيوس” في ضوء السياق البلاغي الإدراكي:
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
“إذا أردت سماع أصوات الطيور، لا تشتري أقفاصًا، بل أغرس الأشجار.”
هذه الحكمة تبدو بسيطة في معناها السطحي، لكنها تحمل توجيهاً إدراكياً بلاغياً عميقاً. من خلال هذه العبارة، ينقل كونفوشيوس معنى يتعلق بتفاعل الإنسان مع الطبيعة أو الحياة بشكل عام. فبدلاً من التحكم في الطيور عبر القفص (أي التقييد والسيطرة)، يقترح الخيار الأعمق وهو “غرس الأشجار” (أي توفير البيئة الطبيعية التي تتيح للطيور العيش بحرية). هنا، السياق البلاغي الإدراكي يشمل فكرة أن السعي لتحقيق هدف يجب أن يكون متسقًا مع البيئة الطبيعية للحياة، وليس عبر فرض القيود. من خلال توسيع الشرائط، يتضح أن الحكمة تتعلق بتقديم الظروف الملائمة بدلًا من محاولة فرض نتائج بشكل مباشر. لا يمكن القول إنها مغالطة، لأنها تفتح مجالًا لتفسيرات متعددة تتجاوز المفهوم البسيط للتحكم بالنتائج.
“كنت أحسد من له حذاء، إلى أن رأيت رجلاً بلا قدمين.”
هذه الحكمة تعتمد على مقارنة بين ما تملكه وما ينقصك وبين ما يعاني منه الآخرون. يمكن أن تكون هذه الحكمة مغالطة إذا اقتصرت على فكرة التقبل السطحي لما لديك دون محاولة التحسين، ولكن إذا تم تضمين السياق البلاغي الإدراكي في القراءة، نجد أن الحكمة تستدعي التفكير في الشروط التي تؤطر تجربتك الذاتية داخل سياق أوسع. الحكمة تشير إلى استحضار الذات في إطار مشترك مع الآخرين، بحيث لا تقتصر على الشعور بالحرمان، بل تتعلق بفهم نسبية التجربة الإنسانية. السياق البلاغي هنا يستوعب إمكانيات أخرى: كيف ندير رغباتنا؟ كيف نحافظ على تقديرنا لما لدينا؟ وكيف ندمج قيمتنا الذاتية مع تجارب الآخرين؟ إن الشروط المتعددة تشمل الوعي بالمعاناة العامة، وفهم سياق الألم والفقد لدى الآخرين. هذه الحكمة لا تُعتبر مغالطة إذا تم فهمها ضمن هذا الإطار التكاملي.
“لا يهم كم تسير ببطء، ما دمت لا تتوقف.”
هذه الحكمة تحمل توجيهاً إدراكياً واضحاً نحو الصبر والاستمرارية. من خلال هذه الحكمة، يشير كونفوشيوس إلى أن التقدم، مهما كان بطيئًا، يظل قيمًا طالما لم يتوقف الشخص عن السعي. الشرائط البلاغية هنا تشمل الفهم العميق لحالة الفرد في سياق الزمن والتحديات الشخصية. هل يمكن تطبيق هذه الحكمة في كل الحالات؟ يمكن القول إن الحكمة تفتح مجالًا للتفكير في الشرائط الذاتية والتجارب الشخصية؛ فالتحدي ليس في السرعة بقدر ما هو في المثابرة. الحكمة تأخذ في الاعتبار اختلاف ظروف الأفراد في مسيرة حياتهم، وتدعو إلى التقدير الذاتي للنضال المستمر. هذا يجعل الحكمة مستغرقة لكافة الاحتمالات، فهي ليست مغالطة لأنها تستوعب الاختلافات بين الأفراد.
دور الشرائط في الحكمة:
الشرائط هي العوامل التي تحكم مدى استيعاب الحكمة لسياقات متعددة. في الأمثلة السابقة، نجد أن هذه الشرائط تشمل الزمن (التأمل في التجربة على المدى الطويل)، المعرفة (فهم السياق الذاتي والآخر)، والبيئة المحيطة (الظروف التي تنعكس على التجربة الإنسانية). عندما تكون هذه الشرائط حاضرة، تتعمق الحكمة في دلالاتها وتستغرق جميع الاحتمالات الممكنة، مما يجعلها قادرة على التعامل مع التباين بين الأفراد والمواقف.
السياق البلاغي الإدراكي:
السياق البلاغي الإدراكي، كما أشرت، هو المساحة التي تسمح للحكمة بأن تكون شاملة وغير مغلقة على معنى واحد. هذا السياق يضمن أن الحكمة لا تقف عند حدود الإدراك المباشر، بل تمتد إلى استيعاب التعددية في التجارب والتفكير. أي أن كل حكمة تصبح قابلة للتطبيق بشكل مختلف بناءً على الشخص الذي يتلقاها، والموقف الذي يُطرح فيه.
عندما نقرأ حكم كونفوشيوس في ضوء هذه الفكرة، نجد أنها لا تحمل مغالطات إذا تم تطبيق السياق البلاغي الإدراكي بعمق. الحكمة التي تعتمد على استحضار الذات في سياق متكامل مع الشروط المتعددة تظل قادرة على استيعاب التجربة الإنسانية بكل تعقيداتها، مما يجعلها فعلاً فلسفيًا وليس مجرد نصيحة سطحية. الشرائط هنا تصبح المفتاح لفهم الحكمة وتطبيقها بشكل أكثر عمقًا.
الكاتب حيدر الأديب