الحياة بين واقعين، قراءة في قصة (ما بين الواقع والخيال) للأديبة شامة منصور ل د. سعيد محمد المنزلاوي

ثمة خيط نحيل يفصل بين الواقع والخيال، والبعض يخلط بينهما، أو يختلط عليه الأمر، والبعض يذهب شوطًا أبعد، فيشق لنفسه بابًا إلى الخيال؛ يلج منه متى وأنى شاء.

أن تحيا في الواقع يعني أن تتفاعل مع هذا الواقع ممثلًا في الناس والأحداث ومواقف الحياة المتباينة والتي لا إرادة لنا فيها، وإنما تفاجئنا بما لم يدر يومًا في خلدنا.

في هذا العالم الواقعي يُفرض عليك المكان والزمان بشخوصهما وأحداثهما، وفي هذا الواقع أنت إحدى الدمى التي تتفاعل مع الآخرين ويتفاعل معها الآخرون.

ولفجاجة الواقع أحيانًا وثقل وطأته أحيانًا كثيرة، وعجز الذات عن التأقلم مع هذا الواقع، يكون هروب البعض من واقعهم إلى خيال من صنع أيديهم؛ ينسجون فيه عالمهم ويرتبون فيه حوادثه، وينتقون بأنفسهم شخوصه. يقضون في هذا العالم الوهمي بعض الوقت يختلسونه من واقعهم (المرير) ذلك الواقع الذي لم يتأقلموا معه جيدًا.

في هذا الواقع الوهمي تتنفس الذات، وهي تعوض فيه بعض ما ينقصها من رفيق أو حبيب أو سمير. تستبدل فيه محيطها بآخر تنتعش فيه روحها الحائرة.

ومع ظهور مواقع التواصل الاجتماعي، ساعد هذا العالم الافتراضي في ظهور ما يسمى بالعالم الموازي؛ فيتاح للشخص في تلك المواقع أن يظهر بشخصية مغايرة لشخصيته في عالم الواقع؛ يستبدل باسمه اسمًا آخر، أو يبدل جنسه، ويخفي عمره؛ ليرضي نفسه. وهناك من سار فيه شوطًا أبعد، فشق لنفسه من مواقع التواصل (الفيسبوك) نسخة منه يحاورها وتحاوره، هو يسأل وهو نفسه يجيب، ويتبادل الأدوار مع نفسه، بين الذات الحقيقية والذات المصنوعة، مما يعزز من الوحدة والانطوائية والهروب من الواقع المعاش إلى الواقع الافتراضي.

قد يكون الموضوع أقرب إلى الجنون منه إلى العقل، وأدنى إلى الهروب منه إلى المواجهة. وهذا ما حدث مع تلك الفتاة الأربعينية، والتي تحيا بلا زوج، فهي “وحيدة بلا أب بلا أم بلا إخوة”، بالرغم من أنها تذهب إلى عملها كل يوم إلا أنها بلا أصدقاء أو صديقات، وهذه الوحدة جعلتها حزينة.

الزمان في القصة تم اختزاله في عمرها البالغ أربعين سنة، وهو مؤشر له خطره بالنسبة لفتاة لم تتزوج بعد.

هل يستطيع أحد أن يحيا وحيدًا؟ إن هذا ضد الفطرة، ضد الطبيعة، ولكن عندما عجزت عن الانسجام مع العالم الواقعي، استبدلت به العالم الافتراضي، “رسمت لنفسي عالمًا في الخيال”، إن الأحداث تدور بين واقع تتململ منه، وخيال تجد فيه إشباع روحها.

ولكي تمنح هذا العالم وجوده وشرعيته، فإنها ” كلما رجعت إلى منزلي أخذت تليفوني، وفتحت على الإيميل الذي صنعته بنفسي لنفسي، والاسم الوهمي الذي أطلقته عليه”.

المكان هنا ينشطر ما بين واقع تختصره في موضعين: البيت والعمل، وفي الموضع الأول تحيا العالم الافتراضي مع صديق وهمي.

لقد استبدلت بالواقع الخيال، وبالصديق الحقيقي آخر وهميًّا، ولكي تقنع نفسها بأصالة هذا الواقع الوهمي المصنوع، راحت تتبادل معه/معها أطراف الحوار، هو يسأل وهي تجيب، هي تتكلم وهو ينصت، ما جعلها تتشبث بتلابيب هذا الواقع الوهمي. “وبدأنا نتداول المحادثات حتى أصبحنا لا نستطيع الاستغناء عن بعضنا البعض”.

هي وحدها الشخصية الوحيدة في هذا النص، حتى عندما اخترعت شخصية وهمية في العالم الافتراضي، كانت هذه الشخصية المخترعة هي هي بكلماتها وشعورها وحياتها، فقط ما تغير هو الجنس، هي امرأة، بينما صديقها الوهمي رجل. ولمزيد من التماهي، فقد شاركت هذه الشخصيةُ المصنوعة كل دقائق حياتها: الغداء، مشاهدة الناس عبر النافذة، حتى إذا اشتهت نوعًا من الحلوى، طلبت من صديقها الوهمي أن يبتاعها لها، وتتوهم بائع الحلوى يحضرها إليها، وتتوهم أنها تلوكها وتتخيل مذاقها الحلو، بل وتشكر هذا الصديق على شراء الحلوى لها.

لقد استغرقها هذا العالم الوهمي والذي صنعته بيدها؛ لتعوض به نقصًا تعاني منه في واقعها، ولتتخفف من وطأة الوحدة القاتلة، ولكنها وجدت نفسها “مريضة، نعم مريضة نفسيًّا، وأحتاج إلى طبيب نفسي”، وبدلًا من البحث عن طبيب نفسي، نراها تهرع إلى صديقها الوهمي “لو سمحت اختر لي طبيبًا نفسيًّا؛ حتى أتعافى”، وتكون المفاجأة أن يخبرها صديقها الوهمي “أنا طبيب نفسيٌّ. ولماذا تذهبين لغيري”، إنها تهرب من مواجهة مرضها، كما هربت من مواجهة واقعها، ومواجهة الناس.

إن شعورها بالوحدة يدميها، وحاجتها إلى الرفيق أصبحت ملحة، وبقاؤها في هذا الغياب عن الواقع يمثل خطورة كبيرة عليها؛ فتنصح نفسها على لسان صديقها الوهمي “استعيني بالله وقومي لصلاتك”، وتنقاد للنصيحة النابعة من قرارة نفسها؛ وتدعو الله أن يمنحها زوجًا صالحًا، يملأ حياتها.

وهنا تتضح لنا عقدة النص، والتي أسفر عنها دعاؤها، إنها، وقد تقدمت بها السن، وليس حولها أحد، تفتقر إلى زوج يؤنس وحدتها. إنها الوحدة القاتلة، والشعور بالاغتراب في عالمها الواقعي، ومن ثم هربت إلى العالم الافتراضي، تنسج فيه أحداثه وشخوصه، وتأبى أن تغادره حتى يأتي ذلك الزوج الذي يملأ عليها الفراغ، ويبدد ذلك الشعور الحاد بالوحدة.

إن القاصة في هذا النص تعالج مشكلة بدأت تتفشى وتنتشر فيما بيننا، ساعد عليها وجود هذا العالم الافتراضي، والذي يخفي وراءه وجوهًا غير الوجوه، وشخوصًا غير الشخوص، عالم كل ما فيه افتراضي: الحب، الحديث، الصداقة، المشاعر…ولكننا نهرب إليه من مواجهة واقع مرير، أو ننشد فيه المؤانسة عندما نشعر بالوحدة أو الاغتراب، لكن الأمر لا يسلم من الاقتراب شيئًا فشيئًا من حافة الجنون، أو وقوعنا أسر المرض النفسي، والمخرج من كل في ختام قصتها أن تستعين بالله “في انتظار الحقيقة، تنتشلني من هذا الخيال”.

إنه هروب مؤقت إلى أن يظهر ذلك الفارس الذي ينتشلها من هذا الخيال، وبظهوره سوف تنفك العقدتان معًا: عقدة القصة، وعقدة الشخصية، وعندها توصد ذلك الباب الذي شقته لنفسها في جدار الخيال؛ لتهنأ بأنس الزوج في العالم الواقعي.

د. سعيد محمد المنزلاوي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *