الخروج من الجنة بين النص المسرحي والفيلم السينمائي، حين يكون الخروج محض اختيار ل د. سعيد محمد المنزلاوي

أن تعيش لنفسك فهذا أمر طبعي، أما أن تعيش لغيرك، أن تكون شمعة تحترق لتضيء لغيرك، فهذا شيء نادر وتضحية نبيلة قل أن نجدها وإن لم نعدم وجودها. فما أيسر أن تضحي ببعض وقتك، ببعض مالك، لكن أن تضحي بسعادتك مع من تحب، فهذه تضحية باهظة الثمن، بل إنها لا تقدر بمال.
والجنة كما أنها نعيم أخروي، فهي كذلك نعيم دنيوي، سعادة تتعلق بالروح أكثر منها بالجسد والمادة. كم من منعمين ولكن لا يشعرون بالسعادة! وكم من معدمين، يحسبون أنهم يملكون ما لو اطلع عليه الملوك لقاتلوهم عليه بالسيف. إن السعادة ليست تقاس بالمال ولا بالسلطان ولا بالجاه، ولكن السعادة خليقة بالروح الخالدة، أكثر من الجسد الترابي الفاني.
والخروج من الجنة يولد تعاسة وشقاء لكلا الطرفين، قد تكون بألمها الشديد مثيرًا للإبداع، إذ الإبداع وليد الألم، ولكنه تترك في الطرف الآخر لوعة وحرقة يخفف وطأتها ما يجنيه الآخر من ثمار المجد، والتي كان ثمنها الحرمان من تلك الجنة.


وفي رائعة “توفيق الحكيم” المسرحية “الخروج من الجنة”، والتي تحولت إلى فيلم سينمائي، يحمل نفس الاسم من إخراج “محمود ذو الفقار”، جسدت “هند رستم” و”فريد الأطرش” بإحساسهما الراقي وأدائهما العبقري محور الأحداث، من خلال شخصيتي “عنان” و”مختار”، مع تباين بين العمل المكتوب والعمل المتجسد حركة ومشاهد، إلا أن الفكرة الرئيسة كامنة فيهما معًا، وهي الخروج من الجنة، والتي تتمثل ببعدها الروحاني وليس المادي وحده.


الجنة هنا معادل للنجاح، للتميز، للإبداع، والخروج منها كان الثمن لتحقق ذلك النجاح، فحين حالت الجنة بتنعم الزوجين معًا حائلًا وبين بلوغ “مختار” مرام “عنان”، تختم الخروج منها، ولم يكن الخروج من الجنة قاصرًا على “مختار”، بحرمانه من زوجه “عنان”، كما يتبادر إلى الذهن من الوهلة الأولى، وإنما هو خروج اختياري لـ”عنان”، والتي ضحت بجنة “مختار” من أجل أن يحقق “مختار” ذاته. كان تسرعًا منها، فندمت عليه آخر الأمر، ولكن لأن شخصيتها تتسم بحب المغامرة، فقد غامرت بسعادتها من أجل أن ينال “مختار” حظه من المجد والشهرة والإبداع الشعري في “النص المسرحي” والموسيقي في “الفيلم السينمائي”. كانت تدرك أن وجودها في حياته لن يغير منه، ولن يصنع منه ذلك المبدع العظيم والذي تاقت إليه ورأته في خيالاتها، وتشوقت لوجوده، فكان لابد أن تعيش “عنان” ألمًا ومكابدة ومعاناة؛ لأن الإبداع دومًا وليد الألم، ومن ثم ارتبط الخروج من الجنة بالمعاناة والتي ـ بالرغم من وقعها وقسوتها ـ إلا أنها صنعت شاعرًا عظيمًا وروائيًّا كبيرًا ـ في النص المكتوب ـ وفنانًا لا يشق له غبار ـ في الفيلم السينمائي. وكان الثمن غاليًا تكبدته “عنان” من سعادتها حين ضحت بزواجها من “مختار”، وتزوجت بغيره؛ لييأس من الوصول إليها، وليكون ألمه مطية له ليحقق ذاته ويعيش لفنه وإبداعه.


كان الفراق بمثابة الوقود رفع “مختار” إلى عنان السماء، وأحرق في أتونه “عنان”، والتي لم تجن ثمار ذلك النجاح، والذي تحقق بتضحيتها العظيمة، حين آثرت مجده على سعادتها معه، وكان طموحها أن يصل للمجد ولو كان الثمن أن تخرج طواعية من جنته.
والرسالة التي يحملها هذا العمل العظيم لخصتها “عنان” حين قالت في زيارتها الأخيرة لـ”مختار” قبل سفرها مع زوجها إلى “طهران”: “كان بيننا أسمى عاطفة عرفتها الأساطير؛ لهذا مضى ذلك وشيكًا، وكان ينبغي له أن يطوي له كما تطوى الأساطير. لا بأس: فلتعش تجلدًا .. ولتمت تبلدًا! إني مع ذلك صابرة؛ فلقد تحققت أحلامي .. حسبي هذا ظفرًا من الحياة”.
تُرى، هل كان من الممكن أن تستمر “عنان” مع “مختار” ويتحقق له المجد وتنضج موهبته وتؤتي ثمارها؟ لقد كانت “عنان” سببًا ـ حين بعدت ـ في نجاح “مختار”، وكان بعدها عنه شقاءً لها؛ لأنها تحبه ولم تزل، وتؤمن بموهبته الأصيلة، ولأنها بعدت، وخرجت، لم تجن ثمار تضحيتها العظيمة، فأمست قربان فنه، وباتت في الظل؛ يشار إليه بالبنان، بينما تتجاهلها الأنظار.

د. سعيد محمد المنزلاوي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *