تساؤلات بين يدي النص:
– هل تستحق الذكريات أن يستدعيها الشاعر من رفاتها؟
– وهل لا تزال حية وباقية وساكنة في لاوعيه حتى الآن؟
– لماذا يحن الشاعر إلى ذكرياته تلك؟
– وما الذي يجنيه من وراء هذا التداعي من مخزون تجاربه.
عتبة العنوان:
الذكريات، مفردها: ذكرى، مصدر ذَكَرَ هي “ما ينطبع في الذاكرة، ويبقى فيها”. (معجم اللغة العربية المعاصرة، د. أحمد مختار عبد الحميد، ط1، عالم الكتب، 2008م، ج1، ص816).
إن لفظة ذكريات تثير فينا الكثير من الشجن واللوعة والحنين. إننا أمام استدعاء واستحضار للحظة أثيرة لدى الشاعر، لا تزال تعيش في وعيه ووجدانه فيبعثها من رفاتها، لتحيا مرة أخرى بين يديه، ولكن للحدث ـ وحده ـ كما جرى في الماضي، دون القدرة على تغييره أو إعادة صنعه من جديد. إن الذكرى غالبًا ما تصاحبها المرارة. فما بالنا إن جاءت كما ورد في العنوان جمعًا؟ إن الشاعر يجتر من مخزون الذكريات لديه تلك التجربة التي جرت في زمن مضى، ولكن جذورها لا تزال عالقة بذاكرته قارة في أعماقه، تطفو على السطح من حين لآخر.
وعلى غرار الشعراء القدامى في وقوفهم وقف شاعرنا كما وقف من قبله سلفه القديم امرؤ القيس:
(قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزلٍ لسقط اللوى بين الدخول فحومل)
والتذكر لدى شاعرنا ليس بدعًا، فهو يتذكر كما تذكر سلفه قيس بن الملوح:
(تذكرت ليلى والسنين الخواليا وأيامَ لا نخشى على اللهو ناهيا)
ولكن يختلف وقوف الشعراء السابقين عن وقوف الشاعر المعاصر، فهم قد وقفوا على آثار ما تبقى من ديار وخيام ورسوم دارسة، وشاعرنا قد وقف على لحظة من لحظات النفس في فترة من فترات العمر، إنه وقوف على ذكرى حب لم يكتمل، بترت قوائمه ولما يزل يحبو في مهده.
والسؤال الذي يطل برأسه في إصرار: هل تذكَّرَ الشاعر لينسى؟ أم ليتداوي؟ أم ليجلد ذاته؟
إن الذكرى وقوف على أطلال النفس، فللنفس أطلال، ورسم دارس وبقايا عمر لمَّا يذبل بعدُ، إن تولى العمر، فإن الذكرى لا تزال عالقة بالوجدان، ماثلة في الوعي، قارة في اللاوعي. تستدعيها من رقدتها لفظة أو اسم أو خاطر عابر أو موقف يثير فينا كوامن الذكريات، ويوقد في نفس الشاعر أتون الذكرى فتتوقد لها الكلمات، وهي تلهث عابرة حواجز الزمان، فقد قهرت رغمًا عنا سلطة النسيان، فالذكريات راسخة رسوخ الجبال.
جملة الاستهلال:
وبافتتاح الشاعر بالجملة الفعلية “تقولين” تدخل القصيدة إلى عالم السرد والبناء الحواري، ويتم استدعاء المقول بنصه عن طريق تداعي الذكريات، دون أن يجري الحوار بين طرفين، وإنما الشاعر يستحضر منطوق كلامها مجردًا عن ردوده ومنطوق كلامه مجردًا عن سردها.
إننا أمام استحضار لأحداث وقعت في الماضي، طفت على ذاكرة الشاعر فجاشت لها نفسه فأطلقها نفثة حارة تحرره من هجير الذكريات ووجع الأنات.
(تقولين عني
سباني السكوت
وإني انتهيت
وإني ارتحلت
وإني خدعت)
إنه يستدعيها مع الذكرى ويستحضرها في الخطاب ويمطرها بوابل من العتاب كأنما يدافع عن نفسه، ولكن بعد أن مر زمان العتاب. وبينما هو يستمهلها إلا أنها لا تزال تصب عليه اللوم صبًّا:
(فمهلا فإني
ملكت القريض
مللت الوعيد
وصارت حياتي
وقودًا وقوت)
إن الشاعر ببعثه للماضي من رفاته، أمكنه أن يجعلنا نعيشه معه وكأنه حاضر بيننا ماثل بيت يديه، وبالتعبير بالزمن الحاضر، تستحضر صيغة الفعل المضارع آنية الحدث، فيقول:
(تعالي نقول
بأن المدار
طواه الأفول
وأن الليالي
خيال عجول)
إنهما يقفان على مفترق طريق، وكان عليه أن يختار:
(فسافرت وحدي
وغنيت عمري
وعاينت لحدي
وفارقت شهدي)
إن الذكريات يستدعي بعضها بعضًا، وقد كان مصيبا في اختياره وقتذاك:
(فحزت الأماني
ونلت القبول)
ثم يسوق تغيبها له:
(تقولين إني
سريع الوداع
وإني لديك
زمان مشاع
وإن الحياة
تناءت بعيدًا
فصرت احتضارًا
وصرت انكسارًا)
ترى ما سبب الغياب، وذلك التيه والبعاد:
(تغيبت دهرًا
تمنيت حلمًا
فعادت شجوني
بدمع تراءى
وحلم مضاع)
إنه انكسار الذات نتيجة غربتها وتيهها. لقد حومت به الذكريات وجنحت به إلى الوراء في لحظة مكاشفة مع الذات، كان فيها أمينًا في سرده للأحداث وحكمه على الشخصيات.
إن البعاد يمثل قرارًا خاطئًا، حين قدم حظ المال على حظ العاطفة، فضاعت أحلامه سدى.
في المقطوعة التالية يحاول الشاعر تدارك بعض ما مضى، استعادة للزمان الذي تولى، وبعثًا للحلم من رفاته:
(تعالي نغني
فإني شعاع
أنرت لغيري
دروب التلاقي
فتاهت خطانا
وغابت رؤانا
وأغصان عمري
جناها التمني)
لا يزال الأمل يحدو به إلى أن يرتق ما مزقته الأيام، ويتوسل لذلك بالغِناء لعله يجد فيه السلوة والغَناء، ولكنها ـ وقتذاك ـ تجابهه بالحقيقة التي يحاول ـ عبثًا ـ إخفاءها:
(تقولين أنَّا
سلونا وبعنا
وأنا قديما
عشقنا وهِمنا)
وتكون المواجهة الصادمة:
(وبعد اللقاء
وبعد الحنين
تلاشت رؤاك)
هنا ينشأ حوار بين التذكر وبين الذكرى، بين اللحظة الآنية، واللحظة الغابرة، بين الشاعر وبين الحبيبة:
(تخليتِ عنا
وكنت الزمان
وكنت المكان
وكنت العبير
إذا ما انتشينا
فخنت الفؤاد
هجرت الوداد
ودقات قلبي
طواها الوداع
فغابت وغبنا)
الوداع والفراق والتخلي والغياب، هي لحن الختام، والذي أسدل معه الستار؛ لتتوارى الذكرى مرة أخرى في دروب النسيان.
إنه يحكي ذكريات حب نبت دون جذور تدعمه وتشده، فلم يقوَ على مواجهة الرياح العاتية، فاجتثته وطواه الوداع.
جماليات النص:
كثرة التعبير بالفعل الماضي:
سباني السكوت.
ملكنا القريض.
مللت الوعيد.
واستخدام “كان” القارة في أعماق الماضي:
(وكنت الزمان
وكنت المكان
وكنت العبير)
كما لجأ إلى التوكيد مع ذات الزمن؛ ليزيد من الإيغال في الماضي:
(وإني انتهيت
وإني ارتحلت
وإني خدعت)
أما عندما يتحدث عن منطوق كلامها أو تحاوره معها، يستخدم الفعل المضارع استحضارًا للصورة، فهي ماثلة بين عينيه، حاضرة لحظة التذكر وكأنها تجري الآن:
تقولين عني
تعالي نقول
تقولين إني
تقولين أنَّا
لقد دار الحوار قديمًا، وتم استدعاؤه لحظة التذكر بصورته التي جرت فيها، فلم يعبر بالماضي وإنما بالمضارع؛ ليجعلنا نعيش معه الأحداث والذكريات والوقائع، ما يجعلنا نشعر معه بما شعر به، وننفعل بانفعاله. إن القصيدة كالمرآة يجد القارئ فيها نفسه، وتعبر عن تجربته هو. إن الشاعر استطاع أن يعبر عني وعنك وهو يعبر عن ذات نفسه، ومن هنا كان التماهي مع النص والذوب فيه إلى درجة الاتحاد به، إنه نص لو لم يقله الشاعر لقلناه جميعًا. فكم من قصص بدأت ثم انتهت، وكم من تجربة أدركها الأفول ولما تزل في مهدها، ومن ثم كثرت المفردات الدالة على البُعد والفراق والتي تمهد لنهاية تلك القصة:
سلونا وبعنا
تلاشت رؤاكَ / تخليتِ عنا
فغابت وغبنا
موسيقا النص:
وقد أحسن الشاعر في اختيار بحر المتقارب لقصيدته، فهو بحر تغنٍ تتدفق معه النغمات بتدفق ذلك السيل الهادر من الذكريات، في أبيات قصيرة على وزن المتقارب المنهوك. وكأني بالشاعر لجأ إليه وقد أعيته الذكريات وهو يلهث خلفها حتى أنهكه المسير في هجير الذكريات ولظاها، فراح يسجلها نتفًا نتفًا يلتقط فيها أنفاسه الحارة وقد مسته من الذكرى حرقة وإعياء. ساعده في ذلك التنويع الموسيقي لتفعيلة بحر المتقارب، والتي راوح فيها بين التفعيلة الكاملة وبين بعض الزحافات كالقبض والقصر والقطع، بما يتناسب مع انفعاله بجرْس الكلمات ووقع الذكريات.
وتأتي الأبيات تباعًا على هذا الشكل المنهوك الأشبه بتجاوب الصهيل فالشاعر في سجال وعدو وكر وفر مع الذكريات هي تقول عنه وهو يرفض قولها حينًا ويسلم به أحيانًا.
ما يجعلنا نسلم بأن الذكريات لم تكن للحنين وإنما لجلد الذات وتندمه على ضياع حب لا يزال يعيش في ذاكرته، لم تستطع الأيام بحوادثها وعدوها أن تمحو أثره أو تعف رسمه.
د. سعيد محمد المنزلاوي