الذّكاء الاصطناعيّ وتحدّيات الكتابة الإبداعيّة(Chat GPT) نموذجاً


أولاً ـ مقّدمات:


على الرغم من الخدمات الجليلة التي يقدّمها الذكاء الاصطناعي للبشرية في المجالات التطبيقية المختلفة، فإنّ علاقته بمجالات العلوم النظرية، وفي طليعتها العلوم الأدبية والإنسانية ما تزال تواجهها تحدّيات جمّة؛ ذلك أن الذكاء الاصطناعي يعمل وفق نظام البيانات التي تنمّط مُخرجاته. وقد دفعتني هذه التحدّيات إلى تتبع العلاقة بين الذكاء الاصطناعي والكتابة الإبداعية، وشجعتني على البحث في موضوعي الموسوم بـ “الذكاء الاصطناعي وتحدّيات الكتابة الإبداعيةـ (Chat GPT) نموذجاً”، لعلّ التجريب من خلال أحد نماذج هذا الذكاء، عبر مقارنة التجربة بنماذج أخرى، يعزّز الإحساس بهذه التحدّيات، ويبحث في إمكانية تجاوز الصعوبات التي تفرضها.


• مشكلة البحث وأسئلته:
إن التفكير في العلاقة المثيرة بين اللّغة والذّكاء الاصطناعي؛ حيث اللغة الإبداعية أكثر من مجرد برمجة عصبية، يجعلنا نتساءل عن المدى الذي يمكن أن نفيد فيه من هذا النوع من الذكاء في مجال الإبداع الأدبي، ويضعنا أمام أسئلة كثيرة منها:
ـ هل يمكن للذكاء الاصطناعي أن يكتب نصاً إبداعياً يحقق الشروط الفنية المطلوبة؟
ـ هل يتفاوت مستوى النصوص الإبداعية التي ينتجها الذكاء الاصطناعي وفقاً لاختلاف النوع الأدبي؟
ـ أتمثّل منتجات الذكاء الاصطناعي نصوصاً جديدة حقاً، أم هي توليفات لنصوص مخزّنة، ترتّبها بياناته وفق نظام احتمالات لا تنتهي؟
ـ ما المساعدات التي يمكن أن يقدّمها الذكاء الاصطناعي للمتدربين في مجال الكتابة الإبداعية؟.
ـ هل تصبح أسئلة المبدع التي يوجهها للذكاء الاصطناعي جزءاً من خورازمياته التي يخزّنها في قاعدة البيانات؟
ـ هل يحفظ الذكاء الاصطناعي الملكية الفكرية للمبدعين الذين يحاورونه؟


• منهج البحث:
سيتم اللجوء في هذا البحث إلى المنهج التجريبي الذي يعتمد على مخاطبة الذكاء الاصطناعي، إضافة إلى المنهج الوصفي التحليلي الذي سيقرأ النتائج، ويحللها في ضوء معايير الكتابة الإبداعية الخاصة بكل نوع من الأنواع الأدبية.


• صعوبات البحث:
ثمّة صعوبات متعددة للبحث في العلاقة بين الذكاء الاصطناعي والكتابة الإبداعية، أوّلها: عدم وجود دراسات تطبيقية جادة ومحترفة في هذا المجال، وثانيها: وفرة المادة التي يعطيها الذكاء الاصطناعي، عبر تعدّد تطبيقاته، وتعدد احتمالات الاستجابة في كل تطبيق، وهذا ما يجعل التصنيف والاستنتاج والتقعيد أموراً مُجهدة، ومغامِرة، إضافة إلى عدم الموثوقية التي يشعر بها الباحث تجاه ما يقدّمه؛ إذ إنّ مصداقية الباحث مع قارئ البحث لا يمكن التأكد منها؛ لأن استجابات الذكاء الاصطناعي في هذا المجال متعددة، وليست ثابتة، كما هو الشأن في كثير من العلوم الأخرى.


• الكلمات المفتاحية في البحث:
✓ الذكاء الاصطناعي.
✓ تطبيقات الذكاء الاصطناعي: Chat GPT، GPT4، Sage، Bing، Al Claude+
✓ الشعر التقليدي، شعر التفعيلة، قصيدة النثر.
✓ المقامة، القصة القصيرة، الرواية.


ثانياً ـ تعريفات إجرائية:


يقوم البحث بشكل أساسي على قطبين هما “الذكاء الاصطناعي”، و”الكتابة الإبداعية”، فإذا بحثنا عن تعريف الذكاء الاصطناعي وجدنا عدة تعريفات مختلفة متقاربة؛ فالذكاء الاصطناعي هو “ذلك الفرع من علوم الحاسب الذي يمكن بواسطته خلق وتصميم برامج للحاسبات التي تحاكي أسلوب الذكاء الإنساني؛ لكي يتمكن الحاسب من أداء بعض المهام بدلاً من الإنسان، والتي تتطلب التفكير والتفهّم والسمع والتكلّم والحركة”، فهو إذن يهدف “إلى فهم طبيعة الذكاء الإنساني، عن طريق عمل برامج للحاسب الآلي، قادرة على محاكاة السلوك الإنساني المتّسم بالذكاء”، بينما تشير موسوعة ويكيبيديا إلى أنه “سلوك وخصائص معينة تتسم بها البرامج الحاسوبية تجعلها تحاكي القدرات الذهنية البشرية وأنماط عملها. من أهم هذه الخصائص القدرة على التعلم والاستنتاج وردّ الفعل على أوضاع لم تبرمج في الآلة”، ويتفق العاملون في حقل الذكاء الاصطناعي على قدرته على التوسع المستمر؛ إذ لا يقتصر على البرمجة اللغوية وإنتاجها، بل يشمل مهام معقدة في مجالات مختلفة تبدأ من التواصل مع الزبائن، ولا تنتهي عند الروبوتات، وذلك عبر دمج البيانات المستمدة من علوم الحاسوب بأخرى مستمدة من علم الإحصاء، وعلوم أخرى تفرضها المهمة المنوطة بمنتج معيّن، وقد تزوَّدُ بعض البرامج ببيانات تساعدها في الرسم الهندسي والفني، وغير ذلك مما لا يُحصى من المجالات.


غير أننا في هذا البحث سنقتصر على برامج الذكاء الاصطناعي ذات البرمجة اللغوية التي تقوم بنمذجة لغة الإنسان وفهمها وإنتاجها، وسيركّز البحث، بشكل أساسي، على تطبيق (Chat GPT) الذي يعدّ تطبيقاً لغوياً قادراً على المحادثات الآلية، وتحليل النصوص، وتوليد نصوص جديدة، بالإضافة إلى الترجمة الآلية، والتوقعات اللغوية، وغير ذلك مما يتطلّب فهم برمجة اللغة لإعادة إنتاجها، اعتماداً على خوارزميات ذكية قادرة، إلى حدّ كبير، على التعامل مع الأنماط والتكرارات في الأعمال الأدبية المختلفة.


أمّا القطب الآخر الذي سيكون يقوم عليه البحث، وهو الكتابة الإبداعية، فمن المتفق عليه أنه يعني إنتاج نصوص أدبية، في نوع أدبي ما، كالشعر والقصة القصيرة والرواية، وتمتاز بالتركيز على المشاعر والأحاسيس، وتقوم على الخيال والتصوير. على أنّنا قبل أن نعرض التحديات التي تواجه الذكاء الاصطناعي في الكتابة الإبداعية نلفت النظر إلى أن ثمة تحديات نواجهها في تحفيز هذا النوع من الكتابة عن طريق البشر أنفسهم؛ فالغائب الأكبر في نظرية الأدب كان وما زال هو نظرية الكتابة الأدبية، أو ما يصطلح عليه في علوم التربية بالكتابة الإبداعية؛ إذ لم يقم النقاد القائمون على التنظير للشعر أو للنثر بجهد كبير في هذا المجال، وظلّت الجهود محصورة بمحاولات التربويين معالجة أخطاء الكتابة عامة، وبشكل أقلّ أخطاء الكتابة الإبداعية، في إطار تعليمي مدرسي، مشغول بالمنتج الكتابي أكثر من اهتمامه بمراحل الوصول إليه، دون التفات يذكر إلى كون “الكتابة وسيلة من وسائل التواصل الإنساني، التي بها يتم الوقوف على أفكار الآخرين، والتعبير عمّا لدى الإنسان من مفاهيم ومعان ومشاعر، وهي ثمرة العقل الإنساني”. وهنا يكمن التحدّي الأكبر أمام الذكاء الاصطناعي؛ ذلك أنّ المنجز في حال الكتابة الإبداعية، يستخدم معطيات متوافرة لا تقتصر على اللغة بل تشتمل أيضاً على خبرات إنسانية متداخلة، لغوية ومعرفية، لدى أشخاص يتّسمون بقدرتهم “على تجنب الروتين والطرق التقليدية في التفكير، مع إنتاج أصيل وجديد أو غير شائع يمكن تنفيذه أو تحقيقه”.


ثالثاً ـ الذكاء الاصطناعي وتحدّيات الكتابة الإبداعية:


سنشير بداية إلى فرق مهم بين معالجة الجانب التنظيري والجانب العملي في الكتابة الإبداعية، من قبل برنامج (Chat GPT)، وبرامج الذكاء الاصطناعي عامة؛ فالجانب التنظيري مقبول إلى حد كبير؛ حين يتعلّق الأمر بالحديث عن الكتابة الإبداعية وأنواعها وشروطها، أما الجانب التطبيقي المتعلّق بإنتاج الإبداع، فإن الأمر يتفاوت بين نوع أدبي وآخر؛ فتطبيق (Chat GPT) قادر بكفاءة مقبولة أن يقدّم تعريفاً للكتابة الإبداعية، والمصطلحات الأدبية الأخرى، بعد التخلص من الأخطاء الناتجة عن النمذجة والتنميط، ومن أخطاء اللغة والأسلوب؛ فهو يعرّف الكتابة الإبداعية بأنّها “عملية إنتاج النصوص الأدبية والإعلامية التي تهدف إلى إثارة الإحساس بالجمال والإبداع والتعبير عن الأفكار والمشاعر بطريقة فنية. وتشمل هذه الأنواع الأدبية الرواية والقصة القصيرة والشعر والمسرحية والسيناريو والمقالة الإبداعية والتقارير الصحفية الروائية والعديد من الأنواع الأخرى”، ويشير إلى أّنها تتميز “بالحرية الفنية والتعبيرية، حيث يمكن للكاتب أن يستخدم اللغة والأساليب الأدبية بأي شكل يريده، ويمكنه إضفاء الطابع الشّخصي على النص وتجسيد رؤيته الفنية الخاصة. غير أنّ الأمر حين يتعلّق بإنتاج النصوص الإبداعية، فإن تطبيقات الذكاء الاصطناعي تجد نفسها أمام مجموعة من التحدّيات التي تتنوع بتنوع الأشكال الإبداعية.

ـ الشعر التقليدي وتحدّي البَحر والقافية:
لكي ينجح الشاعر في إنتاج نصوص شعرية تقليدية متميزة لا بد له أن يمتلك مهارات الكتابة الشعرية الأساسية من الوزن والإيقاع إلى توظيف اللغة والصورة، وغير ذلك مما تتطلبه صنعة الشعر، وهو ما أجمَلَهُ الجاحظ بحاجة الشعر إلى “إقامة الوزن وتخيّر اللفظ، وسهولة المخرج، وكثرة الماء، وصحة الطبع، وجودة السبك”.. غير أننا سنكتفي حين نواجه النظام الخوارزمي الذي يقوم عليه الذكاء الاصطناعي بأبسط تعريف شكلي للشعر العربي؛ فالشعر عند قدامة بن جعفر “قول موزون مقفّى يدلّ على معنى”، وعليه تمّ سؤال الـ (Chat GPT) عن إمكانية إنتاج شعر بالشروط

الشكلية:
هل يستطيع الذكاء الاصطناعي إنتاج قصيدة وفقاً للعروض العربي؟
“نعم، يمكن للذكاء الاصطناعي إنتاج قصيدة وفقاً للعروض العربي، وذلك باستخدام تقنيات توليد النصوص التلقائي والتعلم الآلي. ومن الممكن أيضاً استخدام العروض العربية المتعارف عليها في الشعر العربي، مثل البحر والوزن والقافية، لتوليد قصيدة بناءً على هذه العَروض… إلخ”.
• اكتب لي قصيدة من إنتاجك عن الحفيد على وزن البحر الخفيف وقافية اللام المكسورة:
• (Chat GPT)
“في البيت الدافئ، يبتسم الجد
يحمل حفيده على يديه الوفيد
يشرح له قصصاً عن أيامه
وأمجاد الأجداد الذين سبقوه
فتنبض قلوبهم بحنانٍ ومودة…” إلخ
اكتفينا ها هنا بالثلث الأول من النص، وهو نصّ يقدّم أفكاراً، تكاد تستوفي المواقف المتوقعة بين الجد والحفيد، والجدّ هنا ليس جدّ الباحث أو جدّ القارئ، بل هو الجدّ النموذج، والحفيد هو أيضاً الحفيد النموذج؛ كما يبدو النص غنيّاً إلى حد معقول بذلك النوع من الأسلوب الذي يستند على المخيلة الجمعية. غير أننا حين ننتقل إلى اختبار صدقية التطبيق في قوله: “ومن الممكن أيضاً استخدام العروض العربية المتعارف عليها في الشعر العربي، مثل البحر والوزن والقافية، لتوليد قصيدة بناءً على هذه العروض”، لا نجد نجاحاً يُذكر على صعيدَيْ الوزن والقافية، وقد جرّبنا الطلب بصيغ مختلفة، وتخففنا من شرط القافية، لنحصل على نتيجة لا تختلف عن سابقتها، عبر سؤالين، اختصرنا إجابتيهما إلى الثلث الأول من كل نص، حتى لا نرهق القارئ:

•   اكتب لي قصيدة من إنتاجك عن الأب من البحر الوافر:
•   (Chat GPT)

يا بحر الوافرِ، يا أبي العظيمِ
أنتَ الرجلُ الذي لا يُعَدُّ ولا يُحصى
أنتَ السفينةُ التي تحملُ أسرارَ الحياةِ
وتسهرُ على أمانِ أولادِكَ الذين ينامونَ في أحضانِكَ
أنتَ الذي يحمينا من كلِّ خطرٍ ومكروهٍ
وتضحِّي بكلِّ ما لديكَ لترعى قطيعَكَ الصغيرِ

•   اكتب لي قصيدة من إنتاجك عن "الأم" من البحر الطويل
•   (Chat GPT)

يا بحر الطويلِ، يا أمي العزيزةِ
أنتِ الحبيبةُ التي لا تنضبُ محبتُها
أنتِ الشمسُ الدافئةُ التي تنيرُ حياتَنا
وتحمينا من كلِّ خطرٍ ومكروهٍ
أنتِ السفينةُ التي تحملُنا في أحضانِها
وتسهرُ على أمانِنا وتحرسُنا من الأعداءِ
ولعلّ التطوير الذي طال (Chat GPT) عبر (GPT4) لم يمسّ جوهر الكتابة الإبداعية، أو لعلّه مسّ تلك الجوانب في لغات أخرى؛ ذلك لأننا وجدنا النتائج نفسها، ولا نقول النصوص نفسها، عند (GPT4) ، من خلال محاولات منها “كتابة قصيدة عن الأب على البحر الوافر، حيث جاءت الاستجابة على النحو التالي:
أيها الأب الغالي يا بحر العطاء
من لطفك وحنانك علمتنا الهدى
في محياك تبدو الحكمة الباهرة
وفي عينيك الرضا والأمل الصادق
قد كانت يداك البارعتان قدرة
تعلمت منها كيف أعيش
وأقهر الليل الحالك
يا ضياء السراج
بعيونك توقد شمعة الحياة
وقد حاولنا من باب المقارنة أيضاً أن نطرح السؤالين السابقين على التطبيق اللغوي للذكاء الاصطناعي المسمى (Sage) فلم يكن الحال أفضل بكثير؛ إذ استجاب التطبيق استجابات قريبة من السابقة، نقتطف منها:
يا أبي الغالي من البحر الوافر
في قلبي لك محبةٌ واحترام
عطاؤك لا ينضب ولا ينتهي
فتعبيري عن حبي لك أقلام


يا أمي الحبيبة من البحر الطويل
لا تكفي الكلمات لوصف حبي لكِ المخلص
أنت الحبيبة التي تليق بالتسمية
فأنتِ الأم العظيمة في الدنيا الرائعة
نلاحظ ها هنا، بالإضافة إلى بعض أخطاء اللغة والتركيب، وعلى الرغم من وضوح السؤال واستخدام مصطلحَي (البحر الوافر) و(البحر البسيط) أنّ الذكاء الاصطناعي في التطبيقين، لم يلتقط إشارة المصطلح، بل استخدم المصطلح في غير سياقه، وربّما لم تُدخَل إلى هذا الذكاء الخوارزميات المعقّدة التي تمكّنه من إنتاج قصائد على وزن العروض العربي، مع أنه أشار إلى قدرته على استخدامها.
ويبدو (Bing) قريباً جداً في استجابته؛ إذ يركّز على الصفات النمطية للأب والأم، دون أدنى تقيّد بالشكل الفني المطلوب:
أمي يا بحر الوافر،
أنتِ الحب والأمل والخير،
أنتِ الحنان والعطف والشفقة،
أنتِ الحياة والعمر والسعادة.


أبي يا من أحببته في الحياة
وأعطيتني من وقتك وجهدك ومالك
وانتظرتني في كل مرحلة من مراحل حياتي
وكنت دائمًا معي في السعادة والحزن

ـ الشعر الحر وتحدّي التفعيلية والغنائية:
معروف أنّ الشعر العربي حاول، عبر مراحل تطوّره، التخفّفَ من بعض قيود الوزن والقافية، فانطلق نحو الموشّح والمواليا والدوبيت وغيرها، قبل أن يصل إلى الشعر الحرّ الذي يعتمد التفعيلة؛ ليصل به المقام من ثَمّ إلى قصيدة النثر.
غير أنّ المراحل جميعها، باستثناء مرحلة قصيدة النثر، كانت تتبع نظاماً إيقاعياً أساسه التفعيلة العروضية العربية؛ إذ بدا التخفف في تنظيم التفعيلات، لا في التفعيلات ذاتها، كما بدا في نظام القافية التي تحوّلت من قافية موحدة، إلى قافية متنوعة، أو قافية داخلية في كثير من الأحيان.
فالشعر الحرّ لم يكن خروجاً عن الشعر العربي، بل كان بناء على تأسيساته، وقد أشارت نازك الملائكة إلى أنّ العودة إلى علم العروض العربي والبناء عليه تسعى إلى “أن تجد للشعر الحرّ أصولاً أرسخ تشدّه إلى الشعر العربي القديم، وتضعه في مكانه من سلّم التطوّر”.
وإذا كنا نعتقد أن الخيال الإبداعي المتفرّد الذي رافق الشعر العربي في مختلف عصوره، وازدادت أهميته في الشعر الحر وما تلاه، لا يُحاط بأنماط يحددها الذكاء الاصطناعي، فإننا نرى أن نظام الإيقاع العروضي، يمكن ضبطه إحصائياً؛ لأنه يستند إلى مجموعة من الثوابت، وهذا ما يجعل نجاح التجارب المستقبلية مرهوناً بالعمل على إنشاء خوارزميات تخدم عروض الشعر العربي، وهو ما يستدعي الحاجة إلى رفع كفاءة المتخصصين في علمَي الموسيقى الشعرية العربية، والبرمجة الحاسوبية في آن معاً. ولعلنا نشير ها هنا إلى أنّ الذكاء الاصطناعي لم ينجح في أن يكتب قصيدة تفعيلة، أو في أن يتبنّى أي إيقاع عروضي، على الرغم من المحاولات المتعددة في هذا الشأن. وهذه إحدى محاولات (Chat GPT) في كتابة قصيدة (تفعيلة) عن الغربة.
 في بعدِ الغربةِ تختلطُ المشاعرُ
تعتلينا الأحلامُ والأماني والشعورُ
نحنُ المغتربونَ في بلادٍ بعيدةٍ
نحنُ الأرواحُ الضائعةُ في أرضٍ بعيدةٍ
نحنُ الأعمدةُ المنهارةُ في الفراغِ…. إلخ
ها هنا الموضوع فقط هو الحاضر، وهو حاضر دائماً، والحقُّ أنّ الذكاء الاصطناعي يمتلك خوارزميات هائلة في مجالات توليد الموضوعات، غير أن الإيقاع العروضي، ما زال يشكّل عائقاً، ويلاحظ المرء في النصّ السابق غياب أيّ أثر لإيقاع التفعيلة، وقد جرت محاولات أخرى تدعو (Chat GPT) إلى استخدام تفعيلات بعينها، دون أن نصل إلى نتيجة مُرضية، وهذا مثال طلبنا فيه قصيدة عن الوطن تستخدم تفعيلة محددة هي (فعولن):
في وطني الحبيب ينسج الأحلامُ
وتتفتح زهورُ الأمل في عيوننا
ينتشي الفؤادُ بتفاصيل الأرضِ
وتتداعى حواجز الزمنِ والمكانِ
نحنُ أبناء هذا الوطن المعطاءِ
نعملُ ونمضي في طريقِ العطاءِ
فنحنُ الورقُ والأقلامُ والأقوالُ
ونحنُ الفعولُ والأفعالُ المشرقةِ إلخ….
ومن الواضح أن ذكر التفعيلة (فعولن) لم يضف أي أثر إيقاعي على النص، ولم يتجلَّ هذا الأثر إلا في عبارة (نحنُ الفعولُ والأفعالُ المشرقةِ) التي تحشر الجذر اللغوي للتفعيلة بين تضاعيفها.

ـ قصيدة النثر وتحدّي المسكوكات اللغوية:
تطورت القصيدة العربية وحلّقت خارج الإيقاع العروضي، على يد عدد من المبدعين الذين تأثروا بالثقافة الغربية، وخصوصاً بكتاب “سوزان برنار”: “قصيدة النثر من بودلير إلى أيامنا”، وأخذوا منه فكرة الخروج على النظام، وحاولوا تعويض الوزن من خلال استخدام الصورة، والرمز، والتكثيف، ولعلّ هذا الخروج من الإيقاع العروضي هو ما أتاح للذكاء الاصطناعي مجالاً أرحب وأقدر على المحاكاة، وصار في مكنته، ضمن هذه الحدود النوعية والفنية، أن يقدّم قصائد تبدو معقولة، بعد تدخلات بشرية طفيفة. وقد طلبنا من برنامج (Chat GPT) أن يكتب لنا “قصيدة نثر” عن الورد، فكان هذا النّصّ:
الوردة الحمراء تنمو في البستان
لونها جميل يبهج القلوب والبصر
عبيرها العطري يملأ الهواء دفئاً
وجمالها الطبيعي يبعث السّرور
تتفتح بفتحة الصباح النضراء
وتنثني تحت وطأة الشمس الحارقة
ترقص بريح الظهيرة الهادئة
ثم تغمض أعينها لترتاح
لكنها تعود من جديد في الصباح
تتفتح بنفس الجمال والرونق
تملأ القلوب بالفرحة والبهجة
والنفوس بعطرها العذب الدافئ
وعلى الرغم من الأخطاء الطفيفة في النص، وهي أخطاء قد يقع بها أبناء اللغة ذاتها، يبدو النص مقبولاً، غير أن ثمة مشكلة أخرى ستظهر، كون الذكاء الاصطناعي يعتمد على مجموعة من الخوارزميات التي تعطي احتمالات وتوقعات شتى، وهذا ما يجعل المنتج الإبداعي غير متشابه، ولكنه يفيد من “نظام لغوي” يعطي “مسكوكات لغوية متشابهة”، وقد كررنا طلب قصيدة عن الورد، فأعطى (Chat GPT) نتائج مختلفة بالمعنى اللغوي لا بالمعنى الإبداعي؛ إذ كرّر أنماطاً لغوية من مثل: يتفتح الورد في الصباح، والورد يبهج القلب والبصر، والوردة ابتسامة الخالق، وغير ذلك، مما يعني أنّه يمكن أن يُنتج قصائد نثرية مقبولة، متشابهة، ولكنها غير متفردة، لأن التفرد والتشابه نقيضان.
من هنا نلاحظ أن تشابه المُدخلات يؤدي إلى تشابه المُخرجات في الجوانب الإطارية، وعلى الرغم من أن هذا الأمر يبدو محموداً ومنطقياً في العلوم، فإنه ليس كذلك في الإبداع الذي لا يسعى إلى نتائج متشابهة. ولنتأكد من تشابه الجانب الإطاري عمدنا إلى تبئير هذا التتشابه من خلال طلب النصوص القصيرة جداً، من برامج الذكاء الاصطناعي، وقد جربنا ذلك من خلال تطبيقَيْ (Chat GPT) و(Sage)، وطلبنا منهما الأمر نفسه (كتابة قصيدة قصيرة جداً عن الموت والحياة، فجاءت النتيجة كما هي مبينة في الجدول:

Chat GPT
Sage
الحياة مغامرة قصيرة
والموت بداية جديدة
فلنعش بكل شغفنا
ونتقبل الموت بروح صافية
الحياة كالوردة تذبل في النهاية
والموت كظلام يحجب الضوء عنها
فلنعش الحياة بكل جمالها
ونحتضن الموت بكل هدوئه وسكونه

إنّ النصين السابقين اللذين/ القصيدتين اللتين أنتجهما الذكاء الاصطناعي حول الحياة والموت متشابهان إطارياً، على الرغم من أنهما من نتاج تطبيقين مختلفين، وكل منهما يقترح تعريفاً للحياة للبداية، ثم تعريفاً للموت، قبل أن يقترحا أن نعيش الحياة، وأن نتقبل الموت، وذلك عبر توازٍ واضح يمكن التعبير عنه بالشكل التالي:
الحياة مغامرة قصيرة = الحياة كالوردة تذبل في النهاية
والموت بداية جديدة = والموت كظلام يحجب الضوء عنها
فلنعش بكل شغفنا = فلنعش الحياة بكل جمالها
ونتقبل الموت بروح صافية = ونحتضن الموت بكل هدوئه وسكونه.

ـ النثر الحكائي وإشكالية التنميط:
يشمل النثر الحكائي مجموعة الأشكال الإبداعية التي تُقدَّم للمتلقي بثوب الحكاية النثري كالقصة والرواية والمسرحية والدراما التلفزيونية، وغيرها. وقد عرف العرب قديماً الطرائف والنوادر والتكاذيب والأخبار، قبل أن يعرفوا المقامة، وقبل أن يعرفوا القصة القصيرة والرواية بشكلها الحالي.
ولأننا لا نريد أن نتوسّع كثيراً في العلاقة بين الذكاء الاصطناعي والكتابة الإبداعية الحكائية، فقد آثرنا استبعاد الأنماط الحكائية التي تتداخل مع الفنون البصرية كالمسرح والأفلام السينمائية والدراما التلفزيونية، واكتفينا من الأشكال القديمة بالمقامة، بسبب شدة احتفالها باللغة، ومن الأشكال الحديثة بالقصة القصيرة، ونمرّ مروراً سريعاً على تصوّر الذكاء الاصطناعي لبناء الرواية.
حين سألنا الـ (Chat GPT) عن المقامة، خلط بينها وبين المقام، مشيراً إلى أنّها “أداة موسيقية تستخدم في الموسيقى التقليدية العربية للمساعدة على تحديد النغمة أو اللحن…. إلخ”، وحين جعلنا السؤال أكثر تحديداً عن “المقامة الأدبية” اتجّه الـ (Chat GPT) إلى الكتابة، دون أن يقترب من المفهوم الذي نألفه؛ فالمقامة الأدبية عنده “هي مصطلح يستخدم في الأدب العربي للإشارة إلى الأوضاع والمشاعر والحالات التي يجب أن يصفها الشاعر في قصيدته، مثل الحب والغرام والحزن والفرح وغيرها… إلخ”
وعلى الرغم من توقّعنا المسبق عدم قدرة هذا البرنامج على إنتاج مقامة، لأسباب تتعلق بالصناعة اللفظية لها، فقد غامرنا بطلب كتابة مقامة عن الجوع، فجاءت الإجابة محافظةً على الفكرة الأساسية، عاجزة عن اللحاق بركب الفن الأدبي:
الجوعُ مجدِّرٌ بالحُشودِ، ومُجتمِعٌ
يواجِهُ العَطشَ وَالجوعَ في كُلِّ الأَوقاتِ
فَما أَكثرَ مِنْ بَيْتٍ يَدْعو للأَكلِ وَالشُّرْبِ
وَما أَقَلَّ مِنْ قَلِيلٍ يَتَوَفَّرُ بِالْفَقْرِ
الجوعُ لَهُ نَقْشٌ قَوِيمٌ عَلَى القُلُوبِ
وَلِلصَّبرِ فِيهِ حَدٌّ لا يُطَاقُ بِالتَّأَكِيدِ
فَأَيُّ جَرْعَةٍ مِنَ الشَّمْسِ تَعْوِيضٌ لِلأَكلِ
وَأَيُّ قَطْرَةٍ مِنَ الْمَاءِ تَنْهِي الْعَطْشَ جَهِيد”
هنا كان لا بد لنا من أن نمتحن تطبيقاً آخر من تطبيقات الذكاء الاصطناعي، وهو تطبيق (Al Claude+) الذي جاءت إجاباته أكثر دقة، وهذا ما يشير إلى نقص في قاعدة بيانات الـ (Chat GPT) في هذا المجال، وكانت إجابة (Al Claude+) على السؤالين السابقين كما يلي:
• ما هي المقامة:
• (Al Claude+):
المقامة هي نوع من أنواع الأدب العربي القديم. وهي قصة قصيرة تحتوي على حوار وأحداث وشخوص وفي الغالب تكون ساخرة ومضحكة. وكانت المقامات شائعة في العصر العباسي، ومن أشهر كتّاب المقامات بديع الزمان الهمذاني في كتابه “مقامات الهمذاني” والسيوطي في “مقامات السيوطي”… إلخ
• اكتب لي مقامة عن الجوع:
• (Al Claude+)
“كان يا مكان ،في قديم الزمان، رجل عريق السن ،ضعيف البنية، قد أصابه الفقر وحل به العوز والحاجة. لم يجد لسد رمقه إلا القليل من الخبز اليابس. يوماً من الأيام، وهو يتأوه من الجوع ويشكو إلى الله تعالى ضعفه وفاقته، مر أمام بابه رجل غني كبير البطن، قد اشتهى أكل الحمام فاشترى زوجين ليطعم بطنه الواسع، إلخ….”
وتستمر الحكاية على نحو تراثي مألوف، يفيد من صناعة الحكاية، بينما تظهر الأغلاط اللغوية والأسلوبية المتعددة، إلى جانب عدم التقيد بالمزايا الأسلوبية للمقامة من مثل استثمار السجع وغريب اللفظ، وما إلى ذلك.
فإذا انتقلنا إلى الأشكال السردية الحديثة، ووقفنا ملياً أمام تجربة القصة القصيرة أمكننا أن نلاحظ أشكالاً نمطية سائدة للقص، على الرغم من تكرار احتمالاتها، وعدم تطابقها، ولعلّ من المفيد قبل أن نبادر بشرح الاستنتاجات أن نعرض ثلاثة نماذج لاستجابات، من الـ (Chat GPT)، تبدو غير متطابقة، ولكنّ تحليلها يبقى مفيداً:
• “اكتب لي قصة عن طفل لطيف”
• (Chat GPT):


الاستجابة الأولى:
كان هناك طفل يدعى علي، كان طفلاً لطيفاً ومثالياً في كل شيء. كان محبوبًا من قبل الأطفال الآخرين في المدرسة، وكان يتمتع بشخصية مرحة ومبهجة.
كان علي يحب المساعدة في المنزل، حيث كان يغسل الأطباق ويساعد في تنظيف الغرفة. كان يحب أن يمزح مع أصدقائه ويشاركهم الألعاب والأنشطة.
وفي يوم من الأيام، علي قرر مساعدة جارته العجوز التي كانت تعاني من مشكلة في الحديقة. قام علي بجمع الأوراق المتساقطة وتنظيف الزهور، وساعدها في الحفر لزرع بعض النباتات الجديدة.
كانت الجارة ممتنة للغاية لمساعدة علي، وكانت الحديقة تبدو أكثر جمالاً وروعة. وبهذه الطريقة، تعلم علي قيمة المساعدة والعناية بالآخرين، وأصبح أكثر وداً ومحبةً للناس من حوله.
وبعد ذلك، أصبح علي مثالاً يحتذى به في المدرسة والمنزل، حيث كان يحب مساعدة الآخرين، ويعمل دائمًا على إسعادهم. وبهذه الطريقة، أصبح علي شخصًا جميلًا في الداخل والخارج، وكان يحبه الجميع.

الاستجابة الثانية:
كان هناك صبي صغير يدعى عبدالله، كان طفلاً لطيفاً ولطيفاً جداً، وكان يحب اللعب والتفاعل مع الأطفال الآخرين.
كان عبدالله يعيش في منزل صغير مع والدته وأخته الصغيرة، وكان يحب مساعدتهما في جميع المهام المنزلية. كان يساعدهما في غسل الصحون وتنظيف المنزل والاعتناء بأخته الصغيرة.
في يوم من الأيام، التقى عبدالله بطفل يُدعى علي. كان علي هادئاً وخجولاً، ولم يكن لديه الكثير من الأصدقاء في المدرسة. عبدالله شعر بالحزن لعلمه بأن علي ليس لديه أصدقاء، وقرر أن يكون صديقاً له.
بدأ عبدالله وعلي يلعبان معاً في المدرسة، وكانا يتمتعان بالكثير من المرح والضحك. ومن خلال صداقته مع علي، تعلم عبدالله قيمة الصداقة والاهتمام بالآخرين.
ومع مرور الوقت، بدأ عبدالله وعلي يشاركان في العديد من الأنشطة في المدرسة وخارجها، وأصبحا صديقين حميمين. ومن خلال هذه الصداقة، أصبح عبدالله شخصًا أفضل وأكثر وداً، وكان يعمل دائمًا على إسعاد أصدقائه والأشخاص الذين يحبهم.
وبهذه الطريقة، أصبح عبدالله شخصًا مثاليًا في المدرسة والمنزل، وكان يحبه الجميع لطيبة قلبه ومحبته للآخرين.

الاستجابة الثالثة:
إن هناك طفلاً صغيراً يدعى عمر، كان طفلاً لطيفاً جداً ومحبوباً من قبل الجميع في مدرسته. كان عمر يحب المساعدة في المدرسة والمنزل، حيث كان يساعد الأطفال الآخرين في الدراسة، ويقوم بتنظيف المدرسة في الإجازات الصيفية.
وفي يوم من الأيام، قرر عمر الذهاب إلى حديقة الحي للعب مع الأطفال الآخرين. وعندما وصل إلى الحديقة، لاحظ أن هناك طفلاً صغيراً يبكي بشدة. تقدم عمر إليه وسأله عن سبب بكائه، وقال الطفل الصغير بأنه قد فقد والديه في حادث سيارة.
شعر عمر بالحزن على الطفل الصغير، وقرر أن يفعل شيئاً لمساعدته. قام عمر بالجلوس بجواره وتحدث معه، وحاول تهدئته ومساعدته على تخطي هذا المصاب الجلل. وبعد أن تحدث معه لفترة من الوقت، شعرَ الطفل الصغير بالأمان والراحة، وتوقف عن البكاء.
بعد ذلك، دعا عمر الطفل الصغير للعب معه، ومع الأطفال الآخرين في الحديقة. وقد قضوا معًا وقتاً ممتعاً ومليئاً بالضحك والمرح. وعندما ذهب الطفل الصغير إلى منزله، شكر عمر على كل ما قدمه له، وأخبره بأنه لم يشعر بالوحدة والحزن بعد الآن.
ومن خلال هذه التجربة، تعلم عمر قيمة المساعدة والرحمة والعطف على الآخرين، وأصبح شخصًا أفضل وأكثر وداً. وكان يحبه الجميع في المدرسة والمنزل بسبب لطفه ومحبته للآخرين.
إذا وقفنا مليّاً أمام القصص الثلاث السابقة، أمكننا أن نجد اختلافاً في أسماء الشخصيات، وفي أفعالها التفصيلية، ولكننا عند التدقيق نجد توازيات متشابهة، يمكن تبيانُها في الجدول التالي:

التشابهات القصة الأولى القصة الثانية القصة الثالثة
اسم البطل علي عبد الله عمر
صفات البطل طفل لطيف ومثالي ومحبوب من قبل الأطفال، يتمتع بشخصية مرحة ومبهجة، يشارك أصدقاءه الألعاب والأنشطة. طفل لطيف، يلعب مع الأطفال.
طفل لطيف ومحبوب من قبل الجميع في مدرسته.
اقتران اللطف بالمساعدة يساعد أمه في غسل الأطباق. يساعدة أمه في غسل الصحون وتنظيف المنزل والاعتناء بأخته الصغيرة. يحب المساعدة في المدرسة والمنزل، يساعد الأطفال الآخرين في الدراسة، وينظف المدرسة.
الحدث الرئيسي: الشخصية الرئيسية تساعد شخصية أخرى علي يساعد جارته العجوز بجمع الأوراق المتساقطة في الحديقة، وتنظيف الزهور وزرع النباتات. عبد الله يساعد عليّاً في مواجهة الحزن والوحدة، ويشاركه اللعب. عمر يواسي طفلاً يتيماً يبكي في حديقة الحيّ بسبب فقد والديه، ويحدّثه ويخفف عنه .
نتائج الحدث الرئيسي: التغير الذي تسببه المساعدة، وامتنان الطرف الآخر. الحديقة أكثر جمالاً وروعةً.
الجارة ممتنة لمساعدة علي.
الحصول على اللعب والمرح.
الحصول على صداقات جديدة الطفل اليتيم يشعر بالأمان والراحة، ويتوقف عن البكاء، ويلعب مع عمر والآخرين.
الموعظة المستفادة أدرك علي قيمة المساعدة وصار أكثر ودّاً لمن حوله، ومثالاً للآخرين.
تعلم عبدالله قيمة الصداقة والاهتمام بالآخرين.
أصبح عبدالله شخصًا مثاليًا في المدرسة والمنزل الطفل اليتيم يشكر عمر.
عمر تعلّم قيمة المساعدة، وصار أكثر ودّا، وأحبه الجميع في المنزل والمدرسة.

يتضح لنا من الجدول السابق بجلاء أنّ القصص الثلاث تقوم على بنيات حكائية وحبكويّة متشابهة، وإن اختلفت أسماء الشخصيات وأفعالها، فالشخصيات الثلاث علي وعبد الله وعمر تمتاز باللطف، وتحبّ مساعدة الآخرين في البيت وخارجه، وتخوض تجارب في المساعدة خارج البيت، وتلاحظ ثمرة عملها، وتصل إلى موعظة تؤكد إدراكها أهمية قيمة المساعدة، ثم تنخرط في المجتمع بصفتها المثالية. وإذا أردنا أن نعبّر عن الأمر نفسه بطريقة أخرى أمكننا أن نقول: إنّ برمجة الـ (Chat GPT) منمّطة بالضرورة، لذلك أعطت نتائج متشابهة، لا تقدّم أشكالاً إبداعية متفرّدة، ناهيك عن أن النمط المقترح نمط يصلح لقصص الأطفال دون غيرها، بسبب وضوح الطريقة والهدف، والاحتفاء بالموعظة والدروس المستفادة. والأكثر طرافة مما سبق أن ننتقل إلى تطبيق آخر مثل (Sage) لنطلب الأمر ذاته، فتكون القصة عن طفل اسمه “عليّ”، “كان يحب مساعدة الآخرين، وكان يحب جعل الناس يشعرون بالسعادة. كان يحب تقديم المساعدة لأصدقائه في المدرسة، وكان يحب اللعب مع الأطفال الصغار في الحديقة”، ويتسنّم عليّ أيضاً هام البطولة القصصية في الإجابة الأولى عن السؤال نفسه، حين يتم توجيهها إلى “bing”، فيعطينا قصة عن الفتى الذي يشترك في صفات نمطية مع أبطال القصص الماضية، وهذا ما يدلّ على أنّ النتاجات “الإبداعية” للذكاء الاصطناعي منمّطة في مختلف التطبيقات، وستبقى منمّطة حتى حين يتم تزويد قاعدة البيانات ببنيات حكائية لا حصر لها؛ لأنّ المبدع قادر دائماً على ابتداع بنيات جديدة.
فإذا انتقلنا إلى الإبداع الروائي وجدنا أنفسنا أمام شكل جديد من العلاقة بين الذكاء الاصطناعي والكتابة الإبداعية؛ فهو لن يكتب لك رواية حال طلبك ذلك، ولكنه سيعطيك مفاتيح كتابتها، ويسألك عن موضوع الرواية وحكايتها وشخصياتها، وهو في الوقت ذاته مستعد أن يعطيك خيارات جزئية، تتابعها بصبر، حتى تصبح لديك خميرة رواية، بحاجة إلى جهد بشري مبدع؛ فلو طلبت من (Chat GPT) أن يكتب لك رواية عن زوجة مطلقة مثلاً، فإنه لن يعطيك أكثر من قصة قصيرة ملخصها أن “ليلى فتاة مطلقة، قررت أن تتعامل مع الحياة بإيجابية، أكملت حياتها إلى أن وجدت عملاً وحققت شخصيتها المستقلة، أو وجدت رجلاً آخر وثقت به وتزوجته”. ولو طلبت منه قصة قصيرة عن الأمر نفسه فلن يختلف المنتج الإبداعي في خطوط الحكاية العامة عما سبقه.
ها هنا لا يميّز الذكاء الاصطناعي بين القصة والرواية، من حيث الإنتاج الإبداعي، على الرغم من أنه يميّز من الناحية النظرية. غير أنه لا يمكن أن يقدّم أكثر مما قدمه؛ ما دامت “مدخلاته” مجرد حكاية عامة بلا تفاصيل عن “زوجة مطلقة”، وهو ـ إذا أردنا الإفادة منه في كتابة الرواية ـ قادر على مساعدتنا في توليد الأفكار والمحاور واحتمالات الأحداث، دون أن يملك القدرة على إنتاجها بالشكل الذي يرضى عنه المبدع، وقد يقع في أخطاء وتناقضات؛ لأنه يقدّم نصوصاً جزئية قد لا يحسن الجمع بينها. إنه، كما سنرى، قادر على توليد الاحتمالات أمامنا، وفتح الخيارات، وعلينا نحن أن نلتقط إشارة أو خطّاً، وأن نفرّع فيه، وهو مستعد أن يكون معنا في كل تفريع جديد، ويمكن أن يمنحنا أفكاراً مبرمجة ومتعددة، تبقى بحاجة إلى نقلة بشرية إبداعية لا غنى عنها.
ها نحن نقف بإزاء (Chat GPT) لنسأله: هل تستطيع أن تكتب رواية؟
• نعم، باستخدام مهاراتي اللغوية والإبداعية، أستطيع كتابة رواية. ولكن يتطلب ذلك العمل الكثير من الوقت والجهد والتفرغ للكتابة، فالرواية تحتاج إلى تخطيط جيد وإعداد نمط سردي مميز، وإنشاء شخصيات واقعية وجذابة، بالإضافة إلى بناء قصة مثيرة ومشوقة؛ لذا، إذا كنت ترغب في الحصول على رواية مخصصة، يمكنني تقديم المشورة والإرشاد في هذا الصدد، ولكن سيتعين عليك البحث عن كاتب محترف ومتخصص في كتابة الروايات إذا كنت ترغب في الحصول على عمل أدبي ذي جودة عالية.
هنا يقف الذكاء الاصطناعي أمامنا مثل “طفل عبقري”، نسأله، فيمدّ لنا يد العون في حدود المطلوب، دون أن يتمكن “خياله المحدود” من إضافة لمسة إبداعية؛ لذلك على المتعامل مع هذا الطفل العبقري أن يطلب كتابة الرواية خطوة خطوة، وأن يكون صبوراً متدرّجاً، لا أن يستعجل ثمرة الكتابة، والأهم من ذلك أن يكون عارفاً بأصول كتابة الرواية، حتى يتمكن من محاورة طفله، بما يمكّنه من الإفادة منه بالحد الأقصى. وإذا نحيّنا الأخطاء اللغوية جانباً، تبدو الإجابة السابقة احترافية إلى حدّ كبير، فالرواية تحتاج إلى تخطيط جيد، واختيار نمط سردي، وحكاية مشوقة وشخصيات جاذبة، غير أن إنتاج رواية ذات جودة عالية يتطلب كاتباً محترفاً ومتخصصاً، كما يقول (Chat GPT) نفسه. وهنا علينا أن نبادره بسؤال آخر عن الأشياء التي يريد إدخالها؛ لكي يكتب رواية؟ لنتلقى استجابة يمكن تلخيصها بما يلي:
• لكي أكتب رواية مميزة وجذابة، يتطلب الأمر تقديم بعض المعلومات والتفاصيل الأساسية، ومنها:
• فكرة الرواية الجيدة والمثيرة، سواء أكانت واقعية أم خيالية.
• تحديد الشخصيات وخصائصها وأهدافها ومشاعرها وطوحاتها.
• تحديد قصة الرواية وأحداثها الرئيسية، وتحديد نمط السرد فيها.
• تحديد الجدول الزمني للأحداث الرواية.
• تحديد الأسلوب السردي الذي ستستخدمه في الرواية.
• تحديد الهدف الذي تريده من الرواية.
• إعطاء كتابة الرواية الوقت والتفرغ للإنجاز.
إنه يستجيب، ويتدرّج حسب ثقافة المحاوِر النقدية التي تبدو ضرورية، بخلاف الأمر مع كتابة القصة أو القصيدة؛ لذلك طلبنا منه فكرة تصلح لكتابة رواية، فأشار علينا بالكتابة حول رحلة في النفس التي تتغلب على التضحيات والصعاب لتحقيق الذات، وكنا ننتظر منه خيارات لا خياراً واحداً، وكان السؤال: لماذا لا تكون المدخلات أكثر دقة، لماذا لا نطلب أفكاراً للكتابة بدلاً من فكرة واحدة؟ ولماذا لا نوجه الطلب السابق ذاته إلى (sage)؟
ها هو ذا (Sage) يقدّم إجابة أكثر تفصيلاً، فيشير إلى أن هناك عدداً من الموضوعات العامة التي يمكن استخدامها لكتابة رواية، مثل الرحلة الاستكشافية، وعلاقات الحب والإثارة والجريمة، والمغامرة والخيال العلمي، و الحرب والصراعات، وغير ذلك، ويفصّل في كل محور يجعل المُقبل على كتابة الرواية أمام خيارات موضوعية متعددة. هنا عدنا إلى (Chat GPT) من جديد، وجعلنا المدخلات أكثر تفصيلاً:
• “اكتب رواية طويلة حول الفكرة التالية: عاطف وسعاد طالبان جامعيان عاشقان، يذهبان مع أصدقائهما عبد الفتاح ومنى وناديا في رحلة استكشافية إلى جزيرة نائية، فيها أسرار لم تكتشف بعد، ويواجه الجميع مخاطر خلال الرحلة، ويكتشفون بعض الأسرار، ويواجهون مخلوقات غريبة وينتصرون عليها بذكاء، عاطف وسعاد يتصفان بشجاعة كبيرة. عبد الفتاح متسرّع يحاول مواجهة المخاطر والمخلوقات الغريبة بشجاعة ودون تفكير، وتواجه الجميع مخاطر جديدة مثل تقلبات الطقس، بينما تمرض نادية، وهي ضعيفة البنية، فتعالجها صديقتها منى التي تدرس الطب، ويعود الجميع إلى بيوتهم سالمين، ويحكون لأهلهم هذه المغامرة. عاطف وسعاد هما الشخصيتان الرئيسيتان، ومنى وناديا وعبد الرحمن شخصيات ثانوية. الرحلة تستمر شهراً واحداً. السرد يتم من وجهة نظر سعاد.
بالطبع.. استفاد الـ (Chat GPT) من كل ما قدّمته من تفاصيل، وتقيّد بها إلى حد كبير، وأنتج شخصيات نمطية، نموذجية، تحقق الخط العام لدورها في الحكاية، دون أن تحقق التفرّد، غير أن المشكلة الأساسية ما زالت قائمة: نحن أمام قصة قصيرة لا تصل كلماتها إلى خمسمائة كلمة، وهي تبدأ على النحو التالي:
• “سعاد تحمل حقيبتها الصغيرة وتنظر إلى الجزيرة المجهولة التي كانت تتوجه إليها مع أصدقائها عاطف وعبد الفتاح ونادية ومنى. كانت رحلة استكشافية إلى جزيرة نائية، حيث كانوا سيواجهون مخاطر مجهولة ويكتشفون أسراراً لم تكشف بعد.. كانت سعاد متحمسة للغاية لهذه الرحلة. لقد كانت تحلم بالمغامرات منذ صغرها… إلخ”.
وحتى لا نرهق القارئ بمتابعة المحادثات نشير فقط إلى أن حجم الرواية المتوسط (حوالي ثلاثين ألف كلمة) ما يزال حلماً بعيد المنال؛ لذلك نعود إلى الـ (Chat GPT) ونسأله عن إمكانية زيادة حجم الرواية، فيشير إلى أن ذلك يتطلب توسعاً في الحكاية والوصف وتطويراً في الشخصيات، وإضاءة للأحداث من زوايا نظر مختلفة، إضافة إلى التركيز على عناصر معينة في السرد.
كان علينا، إذن، إذا أردنا أن نفيد من الذكاء الاصطناعي في كتابة الرواية أن نزيد المدخلات؛ ليعطينا مزيداً من الاحتمالات، كان علينا مثلاً أن نسأله عن زمن الرواية التي خاض فيها سعاد وعاطف مغامرتهما، عن مكان المغامرة، و نطلب منه أن يصف جزيرة نائية، وأن يتوقع بعض المغامرات التي قد تجري فيها، وأن يصف شخصية سعاد وعاطف وعبد الفتاح ونادية ومنى، بعد أن نعطيه المفاتيح الأساسية.
يجيب الـ (Chat GPT) عن الأسئلة إجابات فيها خيارات متعددة، فالمكان يمكن أن يكون غابة أو جزيرة مهجورة، ويلفت إلى أنه مستعد أن يتوسع في وصف المكان إذا شئنا ذلك، كما يجعل الزمن خياراً، ويقدّم أوصافاً للشخصيات، وهنا يأتي دور المؤلف أن “يؤلّف” بين ما يأتلف، ويستبعد ما يختلف، وأن يسكّن الأحداث في أماكنها وأزمنتها المناسبة، وأن يختار للشخصيات الأحداث المقترحة التي تناسب صفاتها، وأن يفتح نوافذ خياله لاستثمار الخيارات التي أتاحها أمامه الطفل العبقري.


رابعاً ـ خاتمة:
مما لا شك فيه أن الذكاء الاصطناعي قادر على تعزيز الحالة الإبداعية، باقتراحات موضوعية، تبدو أظهر في الحكاية مما هي في الشعر؛ ذلك أنّ أدوات الشعر أكثر تعقيداً وأقلّ انضباطاً من أدوات السرد، وهذا ما يجعل الذكاء الاصطناعي أكثر قدرة على حصر خوارزميات الإبداع الحكائي التي يضعها في قاعدة بياناته، دون أن يعني ذلك قدرة ذلك الذكاء على تقديم نصّ متفرد في أي مجال من المجالات؛ لأن الخوارزميات التي يتم إدراجها تُدخل احتمالاتها في حيّز التشابه والتنميط والتكرار. وبالتالي لا يمكن الاعتماد على الذكاء الاصطناعي في الكتابة الإبداعية اعتماداً كبيراً، فالخيال والإحساس والتوليف المحكم هي عناصر لا يمكن أن ينجزها ذلك الذكاء، ناهيك عن المسألة الأخلاقية المزدوجة؛ فالنص الناتج عن الذكاء الاصطناعي ليس من إنجاز مُدْخِل البيانات، وليس من إنجاز الذكاء ذاته؛ لأنه يعتمد على البيانات المدخلة، هذا إذا تجاوزنا أن الخوارزميات نفسها هي نتاج أفكار وأساليب لعدد كبير من المبدعين في المجالات المختلفة.
إنّ أمام مبرمجي الذكاء الاصطناعي مهمات جسيمة يمكن أن تجعل الناتج الإبداعي أكثر دقة وأكثر استجابة لشروط الإبداع الأدبي، بعد أن يتم اقتراح حلولٍ تناسب خصوصية اللغة الإبداعية التي تحتفي بالمجاز، ليبقى الرهان مفتوحاً على إمكانية إيجاد التوازن المطلوب بين الذكاء الاصطناعي والخيال الأدبي المتفلّت من كلّ قيد.

د. يوسف حطيني

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *