الرِّواية الرَّقميَّة و النَّشر الفردي…وواقع عالمنا العربي


 مع ظُهُور الكتاب الإلكـتروني E-Book، وتطـوُّر منصَّات النَّشـر الرَّقمي، وفي مُواجهة تحدِّيات النَّشـر الورقي، وجد الشَّـباب من الجنسين في منصَّات النَّشر الإلكتروني فُرصة لعرض إنتاجهم والتَّعريف بأعمالهم خارج الدَّوائر الأدبيَّة الكلاسـيكيَّة والتَّقليديَّة. وتبعًا لذلك، تمَّت إعـادة ترسـيم شُرُوط الإبـداع الأدبي في حقـل الرِّواية بمُختلف أنواعها، بمـا يتماشى ورهانات النَّشر الفـردي الموجَّه أساسـًا نحو القُرَّاء الشَّباب، والذي يُراهن على ثقافة (الأكثر مبيعًا) The best-selling ، وبالتَّالي ارتفاع المردوُد المادِّي.

فإذا أراد الكاتب نشـر كتاب أو رواية، كان عليه تحرير المخطُوطة وإرسالها إلى عشرات النَّاشرين قبـل أنْ يقبل واحد أو اثنان قـراءة العمل، بعدها ينتظر قرار المُحكّمين، ومُوافقة النَّاشر، ثُمَّ الطِّباعة، ومن ثمَّ التَّوزيع، ثُمَّ ينتظر مرَّة أخرى رأي النُقَّاد، والقُرَّاء في دائرةٍ مُغلقةٍ قد تسـتمر لسـنواتٍ قبل أنْ يُوصف بكونه «كاتبـًا»، أو «روائيًّا»، الأمر الذي كان معه النَّشـر والتَّوزيع أكثر صُعُوبـة من فعـل الكتابة والإبداع نفسـه !!

اليوم تغيَّرت الصُّورة بشكلٍ كبيرٍ، فيكفي أنْ يمتلك الكاتب عملًا روائيـًّا مُدرجًا على «أبل بوكس» Apple Books و«أمازُون» Amazon ، و«غُوغـل بوكس» google books وينتظر ارتفاع نسبة التَّنزيلات والتَّحميلات، وانطباعات القُرَّاء على مواقع التَّواصل الاجتماعـي ليصير روائيًّا مشهُورًا فـي بضعـة أشهُر. الأمر هُنا يتعلَّق بما يُسمَّى (النَّشر الفردي، أو الذَّاتي) the self publishing، أو (الكُتُب الفرديَّة) individual books التي تًمثِّل – الرِّواية بمُختلف أنواعها – ركيزتها الأساس خلال السَّنوات الخمس الأخيرة.

في تقرير لمجلة «فُوربس» Forbes سـبق لـــــ «جاي ماكجريجـور» Jay McGregor أنْ تنبأ بثـورة النَّشر الفردي في عالـم الإبداع الرِّوائـي. وهُو يرى أنَّه يُمكن للنَّشر الفردي الإلكتروني أنْ يُحفِّـز ثقافة الكتابة والقراءة فـي الآن نفسه انطلاقـًا من ثلاثة مُتغيِّرات. أوَّلًا، سُهُولة النَّشر والتَّوزيع، وبساطة اللُّغة الإبداعيَّة، ومُناشدتُها للشَّباب والقُرَّاء العاديين. ثانيًا، معرفة نسب المبيعات دُون المرُور عَبْر قاعـدة دُور النَّشر التقليديَّة. ثالثًا، المردُود المادِّي الجيِّد للمُؤلِّفين الذي يجعلُهم يعتنقُـون الكتابة كمهنةٍ.

في الواقـع، يُوفِّـر النَّشر الذَّاتي لأيِّ شخص فُرصة أنْ يصير كاتبـًا أو روائيًّا دُون المرُور بطُقُوس الشَّرعيَّة التَّقليديَّة (النَّاشـر والنَّاقـد)؛ بل إنَّ كثيرًا من الأعمال المنشُورة على كُبريات منصَّات الكُتُب الرَّقميَّة لا تحكُم ولا تحترم معاييـر الكتابة الرِّوائيَّة المُتعارف حولها، لكنَّها مع ذلك تحقَّق نسـب مبيعـات وتحميلات مُرتفعـة تُؤهِّلُهـا لأنْ تصير «عملًا إبداعيًّا» من خلال آراء ومواقف القُرَّاء التي عوَّضت صوت النُقَّاد. ولا ننسى أنَّ الرِّوايات الرَّقميَّة، بما هي أعمال موجهة نحو القارئ العادي في غالبها، تُوفِّر إمكانيَّة جعـل حُكم القارئ ونسب القُرِّاءة أسُـس الحُكم على نجاح أو فشل الإبـداع الرِّوائي في العصـر الرَّقمي.

وفـي تقريـر حديـث لمجلـَّة L’Humanité الفرنسيَّة، أكَّدت «صُوفي جُوبيـر» Joubert Sophie أنَّ تعويضات حُقُوق الملكيَّة الفكريَّة للكُتَّاب والرِّوائيِّين لا تتعدَّى (10) بالمئة من حجم المبيعات، و (90) بالمئة من الكُتَّاب يتقاضون أقل من الحدِّ الأدنى للأُجُور ولا يحصُل أغلب الكُتَّاب على تعويضات النَّشر الإلكتروني. لذلـك، أضحى بعـض الكُتَّاب يُفضِّلُون اللُّجُوء إلى النَّشر الفردي والإلكتروني لضمان مزيد من الشُّهرة والحُصُول على حقوقهم المادِّيَّة الأسـاس.

قـد يحصُل الرِّوائي على تعويـضٍ لا يتعدَّى مئات الدُّولارات عن الطَّبعة الورقيَّة من روايته، في حين أنَّ بعض كُتَّاب موجة النَّشر الفردي (يربحُون) ما بين نصف مليُون إلى مليُون دُولار عن كتاب واحد وفي بضعة أشهر فقـط ! إنَّنا أمام بدايات تحوُّل في موازين قُـوى سُوق النَّشر، بحيث أصبح بعض كبار الكُتَّاب ينفتحُون على موجة النَّشر الفردي والإلكتروني ويتقرَّبون أكثر على القُرَّاء ويبحثُون عن ضمان الحُصُول على حُقُوقهم كاملة، والبحث عن إمكانيَّة العيش من خلال الكلمة والقلم.

هذا.. ويُعـدّ الرِّوائي الإنجليزي «مارك داوسون» Mark Dawson من أبرز الكُتَّاب والرِّوائيِّين الذين سطع بريق شُهرتهم مـن خلال اسـتثمارهم في النَّشر الإلكتروني والفردي على منصَّة «أمازون» بعد أن خيَّب كتابه الأوَّل الآمال، حيث لجأ إلى التَّرويج الشَّخصي لأعماله. واليوم، يُحقِّق آلاف التَّنزيلات لكُتُبه يوميًّا وتعتبرُه «أمازون» رمزًا للنَّشر الفردي.

يختلف «داوسون» عن الرِّوائيِّين الآخرين، في أنَّه دائم الكتابة من أجل مُواكبة تعطُّـش القُرَّاء إلى أعماله. ومن خلال عمله على سلسلة روايات «جُون ميلتُون» John Milton التي تنتمي إلى جنس الأدب البُوليسي، وجد في فعـل الكتابة تجربة فريدة، فهو يكتب آلاف الكلمات بشكلٍ يومي، ويتحدَّث عـن كون الكتابة ـ بعد الصَّقل ـ تتحوَّل إلى حرفةٍ. لا يقف الأمر عند هذا الحدّ، فهُو يُقيم ورشات للكتابة، وندوات أدبيَّة، ويرُدّ على آلاف الرَّسائل والتَّعليقات التي تصلُه يوميًّا.

يُمثِّل «داوسون» أنمُوذجًا لكُتَّاب وناشري العصـر الرَّقمي الذين يصنعـُون مجتمعًا خاصًّا وعلاقـة فريدة مع القُرَّاء من جهةٍ، ويُعيدُون ترسيم دورة الإنتاج والنَّشر الأدبي لتتركَّز في يد الكاتـب من جهةٍ ثانيةٍ، ويُركِّزُون على نسب المبيعـات كقاعدةٍ للنَّجاح من جهةٍ ثالثـةٍ.

بطبيعة الحال، يتعلَّق الأمر بجيـلٍ جديدٍ من الكُتَّاب الذين أنزلوا حرفة الكتابة من بُرجها العاجي وحوَّلُوها إلى مهنةٍ تُواكب العصر وتقترب أكثر من تطلُّعـات وحياة القُرَّاء. ومع ذلك، يُمكنُنا أنْ نطرح العديد من الأسئلة حول الشُّروط الفنِّيَّة والأدبيَّة التي تجعـل من هـذه المؤلَّفات والمنشُورات الفرديَّة أعمالًا روائيَّةً وأدبيَّةً ناجحةً: هـل إقبال القُرَّاء وارتفاع نسب المبيعات معيار حقيقي للحُكم على جودة العمل وحرفيَّة الكاتـب ؟

لازال كبار الكُتَّاب، ودوائر الجوائـز الأدبيَّة، ودُور النَّشر، غير مُنفتحين كثيـرًا على موجة النَّشر الفردي ويتم التَّعاطي معها بالحيطة والحذر. من الجِّيد التَّفكير في إعادة خلق علاقـة جديدة بين الرِّوائيِّين والكُتَّاب والقارئ العـادي، لكن ليس على حساب الشُّروط الفنِّيَّة والأدبيَّة لإنتاج النُّصـوص وديناميَّات الحكي وأنماط السَّرد الرِّوائي المُتعارف عليها. في الحقيقة، ولمُواجهة تحدِّيات النَّشر، أضحت دُور النَّشر الكُبرى تبحث عن احتضان الرِّوائيِّين والكُتَّاب الشَّـباب وإصدار نُسخ ورقية من مؤلَّفاتهم الرَّقميَّة، وحتَّى الاسـتثمار في الأقلام الجديدة التي يُعوّل عليها لقيادة المرحلة الجديدة. مع ذلك، لا يبحث كثير من الكُتَّاب الشَّـباب بالضَّرُورة عن النَّجاح من خلال الرِّواية الورقيَّة ولا يهتمون كثيرًا بآراء وتقييمات النُقَّاد، فلقد عوَّض الإشهار دور النُقَّاد، وتحمَّل الرِّوائي الشَّاب اليوم مسؤُوليَّة كتابة عمله والتَّرويج له بما يتماشى ونسق «انبثـاق الشُّهرة والنَّجاح» من خلال إمكانات الثـَّورة الرَّقمية الجديـدة.

في النِّهاية.. وجـب الاعتراف باستمرار العلاقـة القويَّة بين القارئ العربي والرِّواية الورقيَّة التي تُعيق انفتاحه المعقُول على تحوُّلات الرِّواية الرَّقميَّة، وتنعكس سـلبًا فيما يخُص الثِّقة في أصوات الموجة الجديدة للنَّشر الفردي. هُناك انتقال في المركزيَّات الثقافيَّة وفضـاءات الإبداع الرِّوائي العربي (من محور القاهـرة، دمشـق، لبنان نحو عواصم دول الخليج العربي)، وثـورة فـي الإبداع الرِّوائي بالمنطقة العربيَّة، كمًا وكيفًا، وصعود أجيال جديدة من الرِّوائيِّين الشَّباب، وحتَّى تزايد الإقبال على الرِّوايات المُختلفـة، الأمر الذي يفرض دعـم الأجيال الجديـدة واحتضان أعمالهم وتشجيعُهُم على النَّشر الورقـي والرَّقمي في إطـار احترام الشـُّرُوط الموضُوعيَّة للإبداع الرِّوائي في تفاعُل مباشر مع النُقَّـاد ودُور النَّشر. إنَّنـا في حاجةٍ إلى اسـتراتيجيَّاتٍ ثقافيَّةٍ جديدةٍ تكُون مُنفتحة على الثَّورة الإلكترونيَّة والعصر الرَّقمي للرِّواية.

الكاتب والباحث وفيق صفوت مختار

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *