السهل الممتنع .. أسلوب ومعالجة قراءة للأديب محمد البنا لنص ولادة لونا للقاصة الجزائرية صباح حمور


ولادة «لونا»
•••••••••••••

َولدتْ قطتي السيامي «لونا» أربعة هررة صغيرة ومختلفة كانوا على الأرجح لذكور متعددة، ثلاثة منهم بلون أسود قاتم تماما كلون قطط اللّيل التي تغزو شوارع الحي ليلاً طلبا لما تجود به قمامة الجيران، والهر الرابع بلون رمادي جميل، يمكن لكل من يراه لأول وهلة أن يجزم بأنه من القط الروسي الذي يرتاد حديقة منزلنا كلما فرّ من صاحبه العجوز الذي يسكن غير بعيد من هنا..
كنت أعلم من قبل إنه يمكن للقطة أن تحمل صغارها من عدد من الذكور ، لذلك لم أتعجب
من الاختلاف الكبير في أشكال الهررة وألوانها..
حرصت منذ أول يوم من ولادتها على الاعتناء بها وبصغارها عناية كاملة، ليس ذلك لأنها قطتي فحسب بل لأنني أرى فيها تجربتي الخاصة مع الولادة. لم يكن حملي بالطبع حملا متعددا كالقطط، لكنني كنت متأكدة أنها تشعر بنفس شعوري؛ شعور بالخوف، بالغرابة، وشعور بالخواء قد تسيطر معه رغبة في ملئه بأي شيء قد يصادفها..
لابد أنها تعاني مثل ما عانيت من تعب المخاض و ألم ما بعد الولادة القاتل الذي قد تفوق قوته ألم المخاض بحد ذاته، قد تعاني من فقر دم حاد بسبب نزف الولادة، لذلك يجب أن تأكل جيدا وتتدفأ جيدا لترتاح وتتمكن من إرضاع صغارها والاعتناء بهم..


خصصت لها ركنا هادئا من غرفتي و فرشت لها بطانيتي الناعمة البيضاء لأتمكن من رؤية الصغار ليلا.. أطفات من ليلتها مصباح الكهرباء وأَضأْتُ الغرفة بشمعة بيضاء بقيت منذ آخر احتفال بعيد الميلاد..
صنعت لها جوا هادئا يليق بملكة أهدتني أربعة قطط جميلة.. قبل أن يحلّ الصباح رحت أتفقدها وأتفقد الصغار، فإذا بأحد الهررة الصغيرة السوداء يختفى، فتشت الغرفة والبيت بكامله بحثا عنه لكن عبثا حاولت إيجاده…
حيرة كبيرة انتابتني بسبب اختفاء الصغير، لكن سرعان ما تجاهلت الأمر وركزت اهتمامي على «لونا» وعلى باقي أبنائها.
الليلة التالية رحت كعادتي لأطمئن عليهم، ومن أول وهلة لاحظت اختفاء هرّ أسود آخر.
فكرت ملياً؛ أين تختفي تلك الهررة الصغيرة كل ليلة..؟!


الشقة لا يسكنها بشر غيري، فاحتمال السرقة غير وارد بالمرة، ثم إن قطتي لا تعاني من الجوع كي تأكل صغارها كباقي القطط، كما إنها تشبهني كثيرا ودودة وحنونة بما يكفي لتحب صغارها وتحافظ عليهم..
لطالما كانت بجانبي أثناء نوبات الربو التي تزورني من حين لآخر، وتلازمني كما يلازمني الدواء والفراش أيام انتكاساتي الصحية الكثيرة. ردّات فعلها المتأنية المدروسة تشبه كثيرا ردّات فعلي؛ فلابد أن «لونا» تمر بأمر غريب..
هذه المرة بدون أن أستعين بمحرك البحث في ڨوڨل ولا بطرح سؤالي في مجموعة محبي القطط التي أرتادها منذ مجيء «لونا» إلى البيت منذ ما يقارب سنة أو أكثر لأبحث عن سبب ما يحدث لجميلتي..
بدأت اتفحص الماضي وما تخفي الذاكرة بين صفحاتها المهترئة، أنبش فيها عميقا وأفتش عن تجربة الأمومة الوحيدة التي مررت بها منذ سنوات طويلة، ربما أجد فيها جوابا شافيا للسؤال الذي بقي يحيرني عدة ليالٍ متتالية بما أن القطط تشبه كثيرا النساء.


ــ أين اختفى الهران…؟!
كنت وحيدة وكان الصغير في حجري ملفوفا بقماطه الأبيض، وسِكّين الألم يمزّق أحشائي تمزيقا، وكلما نظرت إلى صورة والده المطبوعة على وجهه إزدادت شدة التقلصات في بطني وانتابتني معها موجة خوف وحزن غير مفهومين؛ يتسارع التنفس ويتسارع النبض ويضيق صدري أكثر فأكثر، ترتجف يداي وأصبح غير قادرة على
التحكم في حركات أصابعي العشرة، أحاول تجنب النظر في ملامحه القاسية، فترتسم أمام عينيَ يداه ذات الأصابع الخشنة الطويلة، تكاد تصفعني وتشدّني من شعري وتسقطني أرضا لولا أن الممرضة لفتْهُ بشكل جيّد، عيناه السوداوان الواسعتان المفتوحتان لاقصاها تثيران في قلبي الريبة والشك، وتثيرهما الكثير من الشكوك؛
نسخة طبق الأصل عن والده..


بدأ صراخ الصغير الذي في حجري يعلو ويعلو.. حتى بدا لي أن كل شيء حولي اندمج معه في موجة عواء طويلة….
وفي لحظة جُنونٍ قاتلة امتدت يدٌ أطفأت النور وامتدت الأخرى نحو وجه الصغير لتطفىء كلّ ذلك الصرّاخ..
ــ يمكن ل « لونا» بعد اليوم أن تخفي ما تبقى من الصغار السّود.
صباح حمور / الجزائر في أكتوبر ٢٠٢٤
××××××××××××××××××××××××

القراءة


يقال أن أقرب المخلوقات شبهًا بالأنثى البشرية هى القطة الأليفة، وما قالوه يقترب كثيرًا من الحقيقة مع التأكيد الملزم أننا لا نقلل من شأن ومكانة أنثانا البشرية، فهى الأم والأخت والابنة والزوجة والزميلة، ولولاها ما كان لذكورنا وجود.

إنما تقتصر المقاربة للتشابه في بعض الصفات المميزة لهما عن باقي الأجناس بما فيهم الذكر البشري نفسه، ومن هذه الصفات؛ الحنان، الرعاية، النعومة، التدلل والغنج، الشراسة في الدفاع عن أولادها، وهذه الصفة الأخيرة (الشراسة في الدفاع عن أولادها) هى موضع دراستي لهذا النص الممتع.

  • ” إن عُرف السبب؛ بطل العجب ” مدخل أراه جيدًا لبدء محاورتي للنص المسرود بأناقة وأريحية، والمعبق بعبير أنفاس أنثوية، لأنثى – الساردة – تجلت فيها الرحمة والرأفة والحنية إيما تجلٍ وإيما سطوع؛ تراقب قطتها لحظة مخاضها، ترعاها وتجهز لها المكان اللائق بأم حديثة الولادة، تعمل بجد على تغذيتها، وتدفئتها هي وصغارها، إلا أنها تُفاجأ بغياب وليد أثر وليد، وهنا ينبت للعجب قرنان، لذا لا بد من البحث عن السبب، ووجدته!!
    إذ كيف تتحول الأم الحنونة المدافعة بشراسة عن أطفالها ضد أي شرٍ قادم أو أذى قد يلحق بهم أيًا كان مصدره، كيف تتحول هذه الأم إلى قاتلة لأطفالها؟!
    والآن لنأتي على السبب فنجده كراهية الأم – القطة- للأب – القط الأسود؛ اللقيط المنتمي للشارع؛ ذلك القط الكريه الذي اغتصبها حين غفلة، وهي ابنة الحسب والنسب، سليلة العظماء اللطفاء حسني النشأة والتربية، اغتصبها كرهًا، وحملت منه كرهًا، وأنجبت له كرهًا من يشبهونه، لذا فالشارع أولى بهم!
  • السؤال هنا ..ألهذا الحد تبلغ الكراهية مبلغها، وتفعل فعلتها؟…فعلتها القطة الأم الرءوم الحانية!
    وفعلتها قبلها الأم – الساردة- يدفعها لنفس الفعل نفس السبب، ألا وهو كراهية الأب الذي أنجبت له، ذلك الأب الشرس الذي ما فتئ يضربها ويسبها ويهينها!
  • التاريخ يعيد نفسه؛ مقولة شائعة؛ غايتها أن إذا تكررت الأفعال تشابهت النتائج، ولو انقضى بعد الزمن أزمانٌ.
    والمدقق- رغم قسوة الحدث- لا يستبعد إمكانية حدوثه، فكم من نساءٍ قتلن أطفالهن! والأسباب كثيرة وأكثرها شيوعًا المنتهكات أعراضهن في الحروب و اللاتي يحملن سفاحًا أثر نزوة عابرة ووو.

  • المعالجة السردية

إتقان القاصة لمعالجتها السردية لهذا النص الرائع، هو سر جماليته؛ فبلوجئها للمعادل الموضوعي ( المرأة / القطة ) كحلٍ مثالي لعقدة النص ( سبب القتل )، مكنها بسهولة من تجاوز المألوف والمعروف إلى نقيضه النادر الحدوث، لكونه مخالفًا للفطرة والطبيعة، وتصويره كأمرٍ طبيعي لا غبار عليه، كما أن قدرتها المميزة على خلق عنصر التشويق ساعدتها على شد انتباه القارئ المتابع ليدس أنفه؛ شغوفًا لوضع يده على حل عقدة النص.

  • الحركة السردية

بدأ النص حركته بهدوء ونعومة، وتفاعلية ايحائية بإشراك القارئ دون الاتكاء على ضمير المخاطب مع الاعتماد على التسلسل الوصفي المكاني والوجداني، ومقاربة متعمدة بين القطة الأم والساردة، يلي ذلك ديناميكية زمكانية ( التجهيز والرعاية والمتابعة )، ثم تبدأ عجلة السرد تسارعها باختفاء هرة تلتها هرة، وهنا تبدأ العجلة في التوقف ثم التأمل ومن ثم الاجترار عائدة بحركتها الخلفية إلى زمنٍ مضى، والضوء القابع في نهايته(يمكن ل « لونا» بعد اليوم أن تخفي ما تبقى من الصغار السّود) كحلٍ للعقدة وخاتمة للنص.

  • التقنية السردية

مازجت القاصة بين تقنيتين سرديتين دون عوائق تحول أو تفسد المنظومة السردية، وهما تقنية السرد الممتد أفقيًا ( كرونكية زمنية ) وتيار الوعي السردي بشقه الاسترجاعي ( تذكر الماضي).

  • الحبكة السردية

اتبعت القاصة النموذج الأولي للقص القصير ( مقدمة / عقدة / خاتمة)، ولكن بأسلوب سردي حداثي يتكئ على المشهدية متعددة الألوان والأمكنة، مختلفة الإضاءة والأزمنة( أسود / رمادي/أبيض/ أحمر// غرفة/ شارع/ مستشفى/ حديقة)، ( ليل / صباح// مصباح / شمعة).

  • اللغة والأسلوب

لغة بسيطة موظفة بجودة عالية دون تعمد بلاغي أو تقعر استعراضي لغوي.
أما الأسلوب فهو من ذلك النوع الذي يخيل للقارئ أنه يستطيع محاكاته بسهولة، ولكن هيهات هيهات؛ أنه السهل الممتنع، ذلك الأسلوب السردي الذي تألفه العين ويتسلل للقلب ويسهل استيعابه، لما فيه من ألفة وحميمية، ويصعب تقليده لاحتياجه إلى ملكات سردية خاصة، قد لا تتوفر لأدباء كثر.

  • العنوان

ولادة لونا…عنوان معبر عن المغزى الرئيس للفكرة، إلا أنني كنت أفضل لو كان * لونا * فقط، لما للاسم من دلالات سيميائية، ف ” لونا ” هو القمر كما يطلق عليه في العديد اللغات الأجنبية قديمها وحديثها، ولما للقمر من ايحاءات نفسية كالهدوء، والنقاء، والصفاء، والحب، والنعومة.

الأديب محمد البنا

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *