“لا أكتب الشعر” عنوان مثير، فالشاعر ينفي كتابة الشعر، فكيف يكون هذا!؟، شاعر يكتب ديوان ولا يكتب الشعر!؟ أعتقد أن الإجابة تكمن في طبيعة القصائد التي قدمها الشاعر، فلا نجد أي قصيدة مطلقة البياض، أو مطلقة السواد ـ توافق المعنى مع الألفاظ في خدمة المضمون ـ فكان الاختلاط والتشابك حاضرا في نظرة/رؤية الشاعر للواقع، من هنا يمكننا القول إن “جمال قاسم” يكتب قصيدة يخلط فيها الأمل/الفرح مع القسوة/الألم، من هنا نستطيع الفول إن العنوان “لا أكتب الشعر” جاء ليؤكد طبيعة القصائد التي قدمها الشاعر في ديوانه.
وبما أن الديوان جاء بصيغة أنا المتكلم/الشاعر، نصل إلى انسجام العنوان “لا أكتب الشعر” مع مضمون/شكل القصائد والتوفيق بينهما، وإذا ما تتبعنا قصائد الديوان سنجد أن أطول قصيدة فيه قصيدة العنوان، أكثر من ثلاثين صفحة، بما يعادل ربع حجم الديوان، ونكاد نجد فيها كل ما جاء في القصائد السابقة، كل هذا يجعلنا نقول إن الشاعر كان موفقا في اختيار العنوان.
الأم
سنحاول التوقف عند ما جاء في “لا أكتب الشعر” ونبدأ من الأم، يقول في قصيدة “لأمي”:
نهار جديد دنا وبريد
وزهر على شرفتين وعيد
سيأخذني العيد صوب الندى
ستحدثني غيمة عن بريق يدي
وعن صوت قلبي
وعن صحبة من صدى
ستحملني غيمة
أطأ الحلم في غيها
سأصير مخيلة وأميد
أنا عائد من أقاصي انتظاري
على موجة من أعالي البحار
قطفت المحار جمعت الثمار
عصرت النهار بقنينة من زجاج
تبلور من دمع حورية قبلتني
على عجل وافترقنا
…
في عيد أمي
أحن لعينين من فرح
رقرق الدمع في عين أمي
وأجرح فلا وسوسنتين على وجه أمي
وأشتاق لي لاعبا بين صحب صغار
كعقد الزهور على بابها
نشاغل وردا وأرجوحة من ضياء
وعصفورة رفرفت عند شباكها
وأمي تلف على معصم الوقت تسبيحة
وتعد بأنفاسها علفا للحمام
تنسق كأس الزهور بكفين من مُزنتين
وتمسح عن وقتنا ما تعلق..
من وهم حاضرنا تحت سقف سماواتنا
كي نعيد الندى ليد من نثيث وفجر
وروح عراها الشرود
وفي عيد أمي
أحن إليّ وأشتاق لي
عندما كنت طفلا
أغني وأبكي
وأغفو طويلا على صدر أمي” ص11-15.
بداية نشير إلى فاتحة القصيدة البيضاء، فلا نجد أي لفظ قاسي إلا في المقطع السادس “صدى” وهذا يعطي إشارة إلى المكانة الرفيعة/البيضاء التي تحتلها الأم، وما جاء في الخاتمة من رغبة الشاعر “أغفو على صدر أمي” إلا تأكيدا مكانتها، وإشارة إلى حالة التعب/الألم التي مر بها ويمر، فأراد الراحة عند أقرب الناس عليه، وعند البقعة النابضة بالحنين والسكينة “صدر”
إذن الشاعر يتحدث عن أمه، عن عطائها وتفانيها، حنانها وعاطفتها، حتى أنها أنسته بؤس الواقع، وقدمته من فرح الطفولة، والحورية وقبلتها، وجعلته يهيم في الطبيعة وجمالها، من هنا أنعكس حضورها على الألفاظ البياض: “نهار، جديد، دنا، وبريد، وزهرة/الزهور، شرفتين، وعيد/العيد، الندى (مكرر)، غيمة (مكررة)، بريق، يدي، قلبي، الحلم، عائد، موجة، أعالي، البحار، المحار، الثمار، النهار، تبلور، حورية، قبلتني، أحن (مكرر)، لعيني/عين، فرح، رقرق، وسوسنتين، وجه، صحب، صغار، كعقد، أرجوحة، ضياء، عصفورة، رفرفت، تسبيحة، للحمام، تنسق، كأس، مزنتين، نثيث، فجر، روح، طفلا، أغني” نلاحظ أن البياض يعم القصيدة، حتى أن هناك ألفاظ تخدم الحنين/الحب بطريقة استثنائية: “رقرق، رفرفت” فشكل هاذين اللفظين يجذب المتلقي ليتوقف عندهما لما في شكلهما من جمال وتناسق، كما أن طريقة لفظهما وما فيها من رقة ـ تكرار الراء والفاء والقاف ـ يجعل المتلقي يصل إلى الحنين الذي يكنه الشاعر لأمه، يضاف إلى ما سبق المضمون الذي تحمله القصيدة، مما يجعل الفكرة تصل إلى القارئ بأكثر من شكل/طريقة/اسلوب.
وإذا ما توقفنا عند “رقرق” سنجد أنها جاءت ضمن حالة قاسية “الدمع” فالشاعر يعلم أنه يتحدث عن حالة قاسية، فأراد التخفيف على المتلقي من خلال “رقرق” حيث فيه جمال متعدد الأوجه، وهذا يزيل شيئا من قسوة “الدمع”
وهذا الأمر أيضا نجده في “رفرفت” المتعلقة بالعصفورة وشباكها، مما يؤكد أن الشاعر يهتم بالقارئ، فكلما وجدت قسوة/ألم قدمها بشكل (جميل) يخفف به من وطأتها القسوة على نفسه وعلى القارئ، وبهذا يكون الشاعر قد أشرك القارئ همومه.
وهناك شكل آخر لتقديم القسوة، يتمثل في الصورة الشعرية:
“وتمسح عن وقتنا ما تعلق..
من وهم حاضرنا تحت سقف سماواتنا”
اللافت في هذه الصورة “تمسح” بمعنى إزالة الشر/الخطر/الاضطراب/الضغط/القسوة، كما أن “تمسح” لها علاقة بالسيد المسيح الذي مسح خطايا البشر جميعا، وما وجود “ندى/ نثيث” المتعلقة بالماء والتعمد إلا من باب الربط بين ما تمنحه الأم من سكينة/راحة وما منحه السيد المسيح لأتباعه، وهذا يعطيها قدسية دينية، تضاف إلى ما تحمله من كونها أم.
الماء والاغتسال
الماء، الاغتسال منذ القدم يشير إلى نقلة نوعية/إيجابية للإنسان، فأنكيدو تحول من وحش بري إلى إنسان بعد أن اغتسل، والمسيح اغتسل/تعمد بماء النهر، والاغتسال/الوضوء شرط لدخول الإسلام وإقامة الصلاة، وجمال قاسم يستخدم الماء/الاغتسال ليخرج من القسوة/الألم إلى الفرح، من العذاب إلى الراحة والسكينة، يقول في قصيدة “رسالة شوق”:
“فكرة أن يصب النهر ماء سيوله
ويغسل الوجهات من عبث السُّرى
وأنا أنا
قد عدت طفلا حاملا
لا شيء يشبه ما أرى
لا شيء يشبهني
أبوء بوردك المنذور للشرفات
يسكنه المدى
وأبوء من وجعي بما اقترفت يداي
وما كتبت على جدار طفولتي
وطريقي المحفوف بالأشعار والبشرى
سأذهب واثقا بغواية امرأة وسنبلة
سيخضر الكلام على ثريات الندى
وسيعثر الحصاد في قمح البلاد” ص53.
إذا ما توقفنا عند هذا المقطع سنجد يعمه البياض، وهذا ناتج عن وجود ثلاثة أشكال للماء: “النهر، ماء، سيوله” التي جاءت لخدمة “ويغسل” وهذا ما جعل الغسل ثلاثي الأبعاد، مما أزال العديد من السواد/القسوة/الألم الذي ألم بالشاعر، فجعله فرحا هائما في الفرح.
ونلاحظ أن الشاعر يستعيد طفولته: “طفلا/طفولتي” بعد الاغتسال كما استعادها عندما تحدث عن اتتمه، كما نجده يؤكد شاعريته من خلال الكتابة: “كتبت، بالأشعار، الكلام” ونجد حضور الطبيعة: “سنبلة، قمح، الندى” وكذلك حضور المرأة: “بغواية امرأة” إذن الماء/الاغتسال خلص الشاعر من السواد، وجعله يستحضر عناصر الفرح: “الكتابة، الطبيعة، المرأة” وبما أنه شاعر، فقد جعله الماء ينتعش كشاعر، وهذا انعكس على ما يقدمه من شعر فجاءت قصيدته خضراء: “سيخضر الكلام” وجعلت الخصب يعم وينتشر: “وسيعثر الحصاد في قمح البلاد” وبهذا يكون الماء/الاغتسال نقلة نوعية إيجابية خلصت الشاعر من بؤس الواقع، وجعلته فرحا/سعيدا منتشيا، فكان قصيدته بيضاء/خضراء.
المكان
الفلسطيني متعلق/مرتبط بوطنه، ولا يمكن لأي مكان مهما كان قريبا أو بعيدا أن يكون بديلا عن فلسطين، لهذا نجد فلسطين حاضرة، حتى عند الشعراء الذي لم يروها أو يشاهدوها، وهذا لا يعني نكران الأماكن الأخرى أو إهمالها وتجاهلها، “جمال قاسم” في قصيدة “ذاكرة” يتحدث عند جده وكيف رسم فلسطين:
“شجر أخضر الروح في الذاكرة
قال جدي: هناك في الجنة الساحرة
تلك أرضي وباكورة الحلم
والغيمة الزاخرة
لملم الخفق يا قلب وادفع بنا نحوها
أمطري يا بلادي حكايا
مواويل من تعب
وارسمينا عصافير من لغة الأرض
في الطريق الحائرة
لملم الخفق يا قلب واجمع خطانا
فلسطين جنتنا الأخير
غاب جدي ولم تغب الذاكرة” ص19.
فاتحة القصيدة وخاتمها “الذاكرة” تمثل غلاف يلف القصيدة، بمعنى أن الفكرة/الثقافة/الذاكرة تبقي الفلسطيني فلسطيني، رغم مرور السنين، ورغم مشاق الحياة، ورغم تتابع الأجيال.
اللافت في قول الجد البياض الذي رسم به فلسطين، فهناك بياض متعلق بالطبيعة “الجنة/جنتنا، الساحرة، أرضي، الغيمة، الزاخرة، أمطري، بلاد، عصافير، الأرض” وبياض متعلق بالكتابة/بالفن/بالغناء: “حكايا، وارسمينا، لغة، مواويل” وهذا يقودنا إلى علاقة الإنسان بالأرض، فالتفاعل بينهما انعكس إيجابيا، بحيث جعل الفلسطيني ينتج أدبا/غناء/فنا، وليس بالضرورة أن يكون هذا الإنتاج الأدبي/الفني يخدم حالة الفرح، بل يمكن أن يخدم حالة الحزن/الألم/التعب، وما هذا المقطع:
“مواويل من تعب”
إلا صورة مصغرة عما جاء في ديوان “لا أكتب الشعر”.
ونجد تعلق الجد بفلسطين من خلال تكرار الألفاظ: “جنة/جنتنا، الذاكرة، أرضي/الأرض، الخفق” ومن خلال ثنائية المعنى في الألفاظ: “الغيمة/أمطري، الساحرة/الزاخرة، بلاد/الأرض” ونجده أيضا من خلال وجود أكثر من لفظ متعلق بالأرض/بالمكان: “الجنة/جنتنا، أرضي/الأرض، بلاد، فلسطين” وهذا يشير إلى التماهي بين الفلسطيني ووطنه.
في قصيدة العنوان “لا أكتب الشعر” يتناول “جمال قاسم” المكان بهذه الطريقة:
“كلما كبر الجرح أكثر
صار الطموح كبيرا بحجم المسيرة
من كرمل الذكريات إلى سهل حوران
هذي البلاد مقدسة
كل حبة قمح تسبح باسمك
يا رب حوران
يا رازق الناس
هات الحصاد وفيرا
يا رب حوران
هذي المناجل منذورة للغمار
وهذه الحناجر منذورة للصدى والنهار” ص105و106.
نلاحظ أن الشاعر يستخدم “كرمل الذكريات” وهذا الاستخدام يعيدنا إلى ذاكرة الجد وكيف تحدث عن فلسطين، وبما أن الشاعر كان مستمعا، ولم يشاهدها، فقد كان دقيقا وأمينا في إيصال نظرته للمكان من خلال “كرمل الذكريات” حيث قدم المكان على رؤيته له، فهي (ذكريات) سمعها من جده.
وبما أن “الكرمل (ذكريات) أفكار سمعها ولم ير/يشاهد، فقد أوجد لنفسه مكان يستعيض به عن “الكرمل” إلى حين عودته إليه فكان سهل حوران، فحوران هنا هو وسيلة/الطريق للكرمل.نلاحظ أن الشاعر يتعامل مع المكان بقدسية، قدسية ظاهرة: “هذي البلاد مقدسة” وقدسية مخفية، نجدها بتكرار “حوران” ثلاث مرات” ومن خلال تكرار الدعاء “يا رب” ثلاث مرات أيضا، وإذا علما أن رقم ثلاثة يحمل معنى القدسية والاستمرار نصل إلى أن الشاعر يتعامل مع المكان بقدسية مطلقة، من هنا جاء الدعاء “يا رب، يا رازق”
صوات المرأة
الشاعر يتناول المرأة في اكثر من موضع في الديوان، لكن أكثر حضورا لها جاء في قصيدة العنوان “لا أكتب الشعر”:
“عيناك جيتارتان سماويتان
تزفان قلبي شوقا وعنبر
وعصفورتان ربيعيتان
تلمان في باحة النفس تغريدتين
ووردا تبعثر
ونافذتان على داخلي
وعلى برهة من حنين
غفت في نوافير ماء ومرمر
وعيناك عيناي في موجة أبحرت فيّ” ص117.
بداية نشير إلى حجم البياض الكامن في المقطع، وهذا ناتج عن حضور المرأة البهي وما يتركه في الشاعر من هدوء وصفاء، فجاءت الألفاظ بهذه النصاعة.
ونلاحظ صيغة المثنى تعم المقطع: “جيتارتان، سماويتان، تزفان، وعصفورتان، ربيعيتان، تلمان، تغريدتين، ونافذتان” وهذا يعكس حالة التوحد/التماهي مع الحبيبة، كما أن تكرار “عيناك/عيناي” ثلاث مرات يخدم الرغبة باستمرار اللقاء بينهما، كما أن وجود لفظ متماثل الحروف “مرمر” يؤكد هذا الرغبة باللقاء.
قلنا إن الماء/الاغتسال يمثل نقلة نوعية في حياة الناس، وهذا ما أكده الشاعر حين رسم أجمل صورة في المقطع متعلقة بالماء:
“غفت في نوافير ماء ومرمر
وعيناك عيناي في موجة أبحرت فيّ”
هناك ثلاثة صيع للماء: “ماء، موجة، أبحرت”، وهذا يعكس الرغبة وبالاستمرار في اللقاء، وأيضا تعكس حالة الحلول/القدسية التي ينشدها الشاعر ويريدها “فيّ” وما تكرار وتتابع “عيناك/عيناي” إلا من باب إبقاء هذه (المشاهدة) دائمة ومستمر، فكانت “موجة/أبحرت” هي الذروة التي تحقق فيها مراد الشاعر فكانت “فيّ”
الكاتب والناقد رائد الحواري