الصوت الداخلي وهيمنته، قراءة في قصة “قرار بالرحيل” للأديب مدحت شنن، ل د. سعيد محمد المنزلاوي

القصة تجربة شخصية مر بها كاتبها؛ فهي إذن تنتمي إلى الأدب الواقعي.. وما أصدق القصص المأخوذة عن حياة كتَّابها، أو مَن يعرفونهم! وما أشد ما تكون بارعة ومؤثرة! فالواقع أكثر خصوبة من الخيال، والحقيقة تحمل من المفارقات كمًّا يستعصي غالبًا على ملكة الخيال أن تأتي بمثله.
“قرار بالرحيل” ذلك هو العنوان الذي يفصح عن تجربة مر بها القاص، دوال هذا العنوان كلمات ثلاثة: (قرار – الباء – الرحيل)، تجتمع في العنوان نكرة ومعرفة يتوسطها حرف الجر الباء، أزال التعريف ما علق بالنكرة من إبهام، وطوقت الباء ما بعدها بإحكام، مغلقة العنوان على مفهوم واحد، وهو الرحيل، ساعد على تأكيده اسمية الجملة.
إن العنوان جملة سردية حددت لنا الإطار العام الذي تدور فيه أحداث القصة، بما لا يدع مجالًا لخيال القارئ أن يتكهن كنه هذا القرار، أو يخمن طبيعة ذلك الرحيل. إنها كما أخبر القاص في تذييله لعنوان قصته “قرار بالرحيل .. كتبت عن تجربة شخصية في أبو ظبي – أبريل ٢٠٢١”.
إن مفتاح الولوج إلى النص يبدأ من عتبة العنوان، ولكنه عنوان ملغز ومحير، رحيل من أين؟ وإلى أين؟ هل هو رحيل عن بلده لبلد الغربة؟ أم رحيل من بلد الغربة إلى بلده؟ إن العنوان ببنيته ومفرداته يحتمل المعنيين معًا، وإن القرار يشمل الرحيلين معًا، ما يجعل من العنوان رقعة فضفاضة تتسع للدلالتين معًا.
تبدأ أحداث القصة بـ “هاتف من صديق – يعمل بإحدى البقاع التي تعيش على بحيرة بترول – يطلب منه الحضور للعمل معه بناء على رغبة رب العمل الذي أُعجب به وبخبراته وكفاءته”.
تحمل افتتاحية النص عرضًا مغريًا، وهو مؤهل له، إنه حُلم الكثيرين، ولكنه “فوجئ بالطلب غير أن رده كان سريعًا حين رفض واعتذر عن تلبيته”. إنه في واقع الأمر لم يكن متقبلًا لفكرة السفر والغربة والرحيل عن الوطن والأهل؛ فـ”ظروفه المادية ميسورة وعمله لائق يتكسب من ورائه بصورة جيدة بالإضافة إلى أنه لا يقدر على ترك أطفاله وهم قطعة من قلبه وكل روحه”.
إلى هنا تسير أحداث القصة في اتجاه يتناقض مع دلالة العنوان، مما يجعله أشبه بالسكون الذي يسبق العاصفة، فمجابهة عرض كهذا بالرفض السريع، لا يمكن أن تستقيم معه الأحداث لا في الواقع ولا في الخيال، ومن ثَمَّ تحتدم الأحداث وترتكز بؤرة الرؤية حول هذا الصوت الداخلي للقاص، إن الأمر “لم ينته عند حد الرفض بل ظل هدفًا لسهام ذلك العرض كلما خلد إلى النوم شغله التفكير فيه حتى هجره النوم عدة ليال، ظل فيها يُفكِّر، تنهشه الأفكار وتفترسه الهواجس”. إنه حديث النفس، والذي لا يني يطارده “في كل ليلة يدور جدال بينه وبين شخص آخر لا يعرفه، لكنه تلبَّس روحه، وصار يواجهه بأفكار عصية على فطرته”، وكانت الغلبة للصوت الداخلي، ولكن “بعد جدال طويل، أناخ ظهره، وأنهك روحه لدرجةٍ لم يعد معها يتحمله، وافق على العرض، وأبلغ صديقه بها”.

بموافقته على العرض، نكون أمام الرحيل الأول، والذي مر عبر مراحل ثلاثة:
المرحلة الأولى: الصراع الداخلي، بينه وبينه صوته الداخلي:

  • سأفتقد أهلي وأحبتي.
  • وسائل التواصل المتقدمة ستجعلك معهم ليل نهار.
  • سأشتاق إلى الشوارع والأزقة.
  • أمرك عجيب وهل تشتاق للتراب والغبار، والقاذورات التي تئن منها الطرق؟!
    إنه “لأول مرة منذ ما يقارب العقدين، سيهجر زوجته مهجة قلبه وحب عمره الذي طالما تغنى به، لأول مرة منذ زمن بعيد سيبيت ليلته بعيدًا عن فراشها، بعيدًا عن عينيها التي يتوسد عليها ويختبىء فيها”. “سيفقد السند والعزوة، سيفقد وجود أخيه بجواره، ستغيب عنه اليد التي تحمله حين يمرض، وتصفق له حين ينجح، سيغيب عن أصدقاء العمر، عن أيام الطفولة والصبا والشباب، عن لحظات الفرح والحزن، عن تلك الشوارع المحفور في جنباتها نعل حذائه، عن الأزقة التي شهدت أجمل لحظات العمر”.
    المرحلة الثانية: التهيئة للرحيل، “طوال الأيام التي سبقت السفر كان يُطيل النظر لأطفاله وزوجته خلسة، ثم ينفرد بنفسه يبكي حتى تخددت الدموع على وجنتيه، يتحدث إلى أمه وأخيه وأهله ويشعر بمرارة سيحفرها الفراق بآلة تكوينه”.
    المرحلة الثالثة: مراسم الرحيل، “في صباح يوم السفر ارتدى ملابسه واتجه لقبر والده، كان اللقاء مؤثرًا يقطع نياط القلوب، ظل يبكي ووالده صامت لا يرد، وكأنه رافض لقرار الرحيل”، “عاد إلى بيته، ليودع ساكنيه”.
    ثم يأتي بعد ذلك مشهد الوداع، “كان الوداع قاسيًا يحمل من الوجع ما يكفي مجرة، لكنه القدر الذي رسم ملامحه قراره بالرحيل”، كان “طوال الطريق يتفحص الشوارع وأوجه الناس، يدقق النظر في تفاصيل المكان بكل مفرداته”.
    وتتأزم الأحداث، وتبلغ العقدة ذروتها، حيث يصطدم بالواقع، عندما “هبطت الطائرة إلى حيث تلك البقعة، كان الجو قائظًا، والهواء عزيزًا، نزل الدرج بترقب، يجول بنظره في كل مكان، الوجوه غريبة على مختلف الألوان والأجناس، الأبيض والأسود والأصفر، لا يجمعهم لسان واحد، أشتات مختلفة تحتاج ألف لسان ليفهموه”؛ مما ضاعف لديه الشعور بالغربة، حتى بعد أن “بعد أن ركب سيارات فارهة، وتناول الأطعمة المختلفة في أفخم المطاعم، لكنه ظل غريبًا عنها لا يستسيغها، غريبة على معدته، كان يحن لطعام بلده ولو كان بسيطًا”.
    ثم راح يعقد مقارنة بين بلده وبلد الغربة، فـ”اشتاق للبساطة رغم رفاهية الواقع الذي يعيشه، اشتاق إلى الأصل رغم لمعان الاستنساخ”، وهناك “رأى الناس محبوسين في علب مكيفة”، “وجوه جافة جامدة، خالية من الإحساس”، أمَّا المكان فإنه “يمثل بقعة مستعمرة من جميع أجناس الأرض، فلا لغة تجمعهم ولا ثقافة تجمعهم”، “كانت المدينة بمثابة وردة جميلة المنظر، لكنها بلاستيكية بلا رائحة، وهو الذي تعود على عبير الورد البلدي”، “كل شيء من حوله صناعي، وهو من فُطم على جمال الطبيعة”. إنه شعور يدركه ويحس به كل من فارق مصر إلى غيرها من سائر البلدان.
    وهنا تأتي مراحل الرحيل الثاني، والتي تأخذ هي أيضًا مراحل ثلاثة:
    المرحلة الأولى، الحنين إلى الوطن، فصدامه مع الواقع هناك في بلد الغربة، أخذه الحنين إلى وطنه؛ فراح يتذكر “تلك اللحظات التي كان يأمن فيها على نفسه لمجرد أنه بين عائلته”، ومن هنا تتضح أزمة الشخصية في افتقادها للأمن، والذي كان يستمده “من طمأنينة روحه حين يجد أحباءه بجواره لحظات الكرب، تلك الميزة سيعجز عن وجودها في ذلك المكان المقهور”، والذي انقلبت فيه الموازين، “فرأى الصديق عدوًّا شديد اللدد، والغريب قريبًا رغم قصر معرفته”. لكن هذا الحنين وحده، ليس من القوة بحيث يحمله حملًا على اتخاذ قراره بالعودة إلى وطنه.
    المرحلة الثانية: نقطة التحول، فثمة موقف جعله يعدل عن قراره، ويغير من مصيره، ويستبدل بقرار الرحيل قرار العودة إلى ثرى الوطن، وذلك “حين اعتاد صغيره الهروب من محادثته منذ أن تركه وسافر. تساءل.. هل يعاقبني لرحيلي؟ أم أنه طفل صغير مشغول باللعب ولا يعي ما يفعل؟”. وكانت صدمته عندما سأله زوجه عن السبب، فأخبرته أن “ابنك لا يرغب في الحديث معك حتى لا يُفكر فيك ويبكي”. نزل عليه الخبر كالصاعقة، لا سيما وأن “غربته ورحيله حولته لشيخ هرم من شدة الوجع المكبوت، فهرب حتى لا يبكي ويُفكر في آلامه”.
    المرحلة الثالثة: قرار الرحيل، وهي نتيجة حتمية للمرحلتين السابقتين. إنَّ هروبه من مواجهة هذا الواقع المرير لم يطل، فاتخذ قراره السريع بالعودة، حتى إنه “لم ينتظر حتى الصباح وعلى الفور حجز للسفر وأقلع عن هذا المكان الموحش، وحين هبطت الطائرة إلى أرض الوطن، قبلها بشوق، بعد أن عاد إلى قلبه نبض الحياة”.
    وما بين قرار الرحيل وقرار العودة تشكلت عقدة النص في اصطدامه بواقع زائف، كل ما فيه مسخ بلا روح، خضع في اتخاذ قرار الرحيل عن الوطن لحديث النفس وإغراءات الصديق بمكاسب طائلة وحياة مرفهة، ما جعله يميل ظاهريًا لخوض تلك التجربة، لكنه عندما اتخذ قراره بالعودة، لم يسمح لتلك الأصوات أن تثنيه، بل إنه على الفور حزم حقائبه، وأقلع عن هذا المكان الموحش، بعد أن تأكد لديه “أن بلاده أولى به، وأن جميع كنوز الأرض لا تساوي لحظة من السعادة العائلية، يعيش فيها في أحضانهم ويستأنس بوجودهم”.
    إن القصة عزف على سيمفونية الولاء للوطن والذوب في ثراه، فليس له عدل من بلدان العالم، والتي يغلفها الزيف في واقع قاس ومقفر وجديب.

د. سعيد محمد المنزلاوي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *