أدار دفة القارب، وشق طريقا ضدا على مد؛ يحاول عبثا أن يعيده من حيت أتى. زاد من سرعة المحرك، وتابع السير تحت جنح ظلام دامس، ولا من ضوء يستنير به غير بصيص نور، ينبعث من قنديل ليس إلا، ينخر عباب موج مختلف مقاساته، يصارع ثيارا لم يدري ساعتها من أي ثقب خرج عليه؛ محاولة منه أنى يدركه عرض البحر حيت ينتظره هناك صيد وفير.
لم يطل به المقام كثيرا؛ إذ سرعان ما انفلت خارجا من قبضة ذلك الثيار، واستوى على موج هادئ من غير هزة سطح ولا هوة قعر.
رمى بشباكه في الماء، در فتات الطعم هنا وهناك، وانزوى بركنية، يرقب من بعيد بشارة خير؛ تنسيه مغبة ركوب موج على الفاضي.
أخذته وعلى غفلة منه سنة نوم، استسلم فيها لحلم راوده، كان يمني النفس فيه بالصيد الوفير والعودة المظفرة سالما غانما حيت تنتظره على أحر من جمر الغطا زوجة حنونة وأولاد لم يبلغوا بعد أشدهم.
إلا أنه وكما يقال تجري الرياح بما لا تشتهي السفن؛ إذ هبت ريح قوية، أعقبتها وفي رمشة عين أمواج فارت وماجت كطوق جبال، انجرف القارب على إثرها بعيدا بعيدا إلى حيت ذلك الثقب الدوار.
انكسر القارب أشلاء، تمزقت الشباك إربا وتقطعت به كل السبل، وقبع وحيدا يقاوم يصارع عبثا إلى أن خرت قواه، واستسلم لموت محقق، وابتلعه عن آخره ذلك الثقب الدوار.
ظل يلف ويدور من حواليه، ولم يحيد عنه إلا بعد أن بلغ حده، ومن ثم لفظه بعيدا بعيدا على شاطئ مرمي الأطراف بجزيرة مجهولة لم يسمع عنها قط، ولا وطأتها قدم انسان أبدا أبدا.
وفي لحظة؛ استفاق على قوم عراة حفاة ذوو بنية قوية، يكاد الشعر يكسو معظم أجسامهم، وقد اشرأبت أعناقهم يتفرجون عليه؛ وكأنه مسخ قاده البحر إليهم.
جال ببصره من حواليه، فلم يحصد إلا قوما موغلا في القدم؛ خيل إليه من أول وهلة أنه في حضرة أشباه أناس من أساطير الأولين.
تقدم أحدهم إليه، والتقطه من بين الأنقاض، ورمى به على كتفه، وأسلم رجليه للريح، يركض وسط أشجار متشابكة، يتبعه بقية من بني جنسه، يتراقصون من حوله على لغو من قبيل اللغط فرحين؛ وكأنهم ظفروا بصيد ثمين.
انتصف النهار واشتد الحر ولا من طير يطير؛ وكأن الرسالة وصلت إذ بمجرد ما وطئت قدماهم أسفل الجبل حتى انجلى من بين الصلب والترائب كثلة عملاق يكبرهم حجما، أطل عليهم من وراء مغارة، انفلجت من رحم صخرة عظيمة، انتصبت جانبا على غدير شلال ماء ينساب من عل.
ساعتها طرح المسخ أرضا، وتولوا عنه غير بعيدين وخروا سجدا؛ ينتظرون ماذا عساه أن يفعل عملاقهم هذا بقربانهم هذا.
سرعان ما سال لعابه، كشر عن انيابه، وخطى نحوه بخطوات حثيثة كان لها ذوي زلزال من تحت أقدامهم، أمسك بدراعه ورفعه إلى عنان السماء إلا أنه ما كاد أن يبتلعه دفعة واحدة حتى انبرت أمامه ابنته باكية، تستعطفه أن يبقيه حيا هدية على شرفها.
لم يجد بدا من النزول عند رغبة ابنته، والتخلي مكرها لا راضية عن وجبة دسمة ما أحوجه إليها؛ لا لشيء إلا دمية تستأنس بها وتتسلى بها.
أخذته لنفسها، وعاش في كنفها لعبة بين أيديها، تداعبه ليل نهار حتى اصبحت لا تطيق فراقه ولو لهنيهة.
عاف كل شيء اللهم ما يصلح أن يؤكل نيئا من ما تنتج ارضهم من فواكه حتى خيل إليها أن هذا المسخ لا يعدو أن يكون إلا مخلوقا نباتيا.
كان هذا ظنها فيه؛ لتتفاجأ ذات يوم برائحة نفذت إلى أعماقها، تنبعث من طبيخ على موقع نار؛ أثارت شهيتها ولم تستطع عليها صبرا، ومن هنا كانت أصل الحكاية.
وكأنها لمست فيه ذكاء خارقا؛ إذ سرعان ما تعلم لغة تكاد تخلو من الحروف اللهم مواء يرافقه حركات من ذوات فن الميم، نسج من خلالها روابط قوية، كان لها الفضل عليها في الولوج إلى معارف كثيرة من لغة وزراعة وصناعة لم تستطع أن تبقيها طي الكتمان.
إلا أن العملاق الأكبر بقدر ما استحسن أثرها الإيجابي على معيشة قومه؛ بقدر ما أحس بأن عرش ألوهيته أصبح على كف عفريت، وهنا كانت نهاية الحكاية.
خاف على نفسه أن يأتي الدور عليه، ويجري عليه ما جرى على ابنة العملاق الأكبر، ولا من سند له سواها.
وفي ليلة ليلاء كان القمر لها عنوانا، انسل في غفلة من القوم خارجا حيت قارب صغير، ينتظره غير بعيد عن الشاطئ؛ لعل أي ثقب دوار يأخذه لبعيد.
الكاتب عبد الإله ماهل