يسند ولدي الصغيرُ رَأْسَهُ على وِسَادَةٍ يُشَاهدُ مَوَاكِبَ الشُّهَدَاءُ وَشَلَّالَاتِ الدِّمَاءِ ويَهْمِسُ مُتَحَسِّرًا في أُذُنِي: هَلْ تُفِيدُ الْمُقَاطَعَةُ وَحْدَهَا بعد ما حَاقَ بِنَا،وما مَسَّنا وَأََهْلَنَا مِنَ الضُّرِّ، ورَاحَ يُتَمْتِمُ :
سَيَظَلُّ يُلَاحِقُنَا عارُ الصَّمْتِ القاتلِ ليلَ نهارَ يَدْخُلُ مَعَنَا خِبَاءَنَا، ونَرْتَطِمُ بِهِ فِي خلائنا وخلواتنا.. نَقِفُ جَمِيعًا يكلِّلُ مَفَارِقَنا طُيْلسانُ الخُنُوعِ والخُضُوعِ والإذلالِ،ويجلِّل بياضَ شَعْرِنَا الْهَوَانُ؛ لأنَّنَا لم نَسْكُبِ الدَّمْعَ مِدْرَارًا حِينَمَا ارتقى الصِّغارُ بِغَزَّةَ هاشمٍ… حينما حوصر الرجالُ والنِّسَاءُ والصِّغارُ والْكِبَارُ في شِعْبِ بَنِي طَالبٍ حِينَمَا نَفَدَ الماءُ والدواءُ،و بَلِي الكِساءُ… حينما أَكَلَ الصِّغَارُ أَوْرَاقَ كُتُبِهِم المدرسِيَّةِ؛ ليسدوا رَمَقَ جُوعِهِم، ومَزَّقُوا الْحَقَائِبَ؛لِيُشْعِلُوا بها أَلْسِنَةَ اللَّهبِ؛لِيَسْتَدْفِئوا مِنْ بَرْدِ شِتَاءٍ قَارِصٍ لم تَعُدْ هُنَاكَ أوراقُ شجرٍ يَلْتَهِمُهَا الصِّغارُ بَدَلًا عَنِ الْحَلِيبِ؛ فَقَدْ قُطِعَتْ أَشْجَارُ الزَّيتونِ وَلَمْ تَبْقَ… يَقْرَاءُونَ الُْقُرْآنَ، وَيَتْلُونَ آخِرَ ما نُزِلَ مِنَ الآيَاتُ، وَأَوَّلَهَا بِلا جَدْوَى فلن تَتَنَزَلَ الطَّيرُ الْأَبَابِيلُ؛ لِتَرْجُمَ قوافلَ اليهودِ ونحن نائمون!!
تركناهم يساقون إلى الموتِ في العراءِ بلا نَصِيرٍ، و ألقيناهم في نهرِ الأردنِ وبحيرةِ طَبَرِيةَ مكتوفي الأيدي، ووقفنا نُصَفِقُ مع السَّامِرِيِّ، ونَأْمُلُ أنْ يكتبَ اللهُ لهم النَّجاةَ والْحَيْاةَ، وُوَقَفَتْ كُلُّ جيوشِ الْخِسَّةِ تقذفُ بِرَاجِمَاتِها الْقُرَى وتَحْرِقُ المخيماتِ تباغتُ الجرحى في المَشَافِي والطُّرُقَاتِ بِتِلالٍ من قنابلَ وشظايا وأكوامٍ من متفجراتٍ… خذلتهم أُمَمُ الأرضِ لم يجدوا مُعِينًا… نامَ ضميرُ العلمِ، وشلت قوانينه،وَرُدِمتْ كلُّ حقوقِ الإنسانِ… عجزٌ وضعفٌ وهوانٌ… طاعونٌ اسْتَفْحَلَ بِأكْنَافِ بيتِ المقدسِ… مُزِقَ شَرَفُ الْأُُمةِ ضَاعَتْ هَيْبَتُهُا صَنَعُوا لِبَنِي صُهْيُونَ جُسُورَ الإمْدَادَاتِ، ومَنَعُوا أَخَاهُم… ألَا بؤسًا لعادٍ أَلَا بُعْدًا لِثَمُودَ قومِ صالحٍ. كيف ماتت ضمائركم نسمعها بصوتٍ متهدجٍ من بين ركام وحطام؟!
أَيْنَ تَرَبَّيتُمْ ؟!
أَمَنْ أَلْبَانِ بني صُهْيُونَ رَضَعْتُمْ،وَبِنَفْسِ الْغِلِ تَرَعْرَعْتُمْ،و بِذَاتِ الْحِقْدِ الْقَابِعِ في قلبِ يَهُوذَا كصليبِ الموتِ قَطَعْتُم شرايينَ عُرُوبَتِكُم مَزَّقْتُم أَوْرِدَةَ القدسِ عَرُوسِ عُرُوبَتِكُم… اغْتَلْتُم يُوسُفَ وقتلتم طُهْرَ بَرَاءَتِه؟! أَرَضِيتُم أن يأخذَ غزَّةَ بعض السَّيَّارة بثمنٍ بخسٍ دراهمَ معدودةٍ وكنتم فيها من الزَّاهدينَ؟!
أَيَكُونُ الأخُ هُوَ الْقَاتِلُ لِأََخِيهِ يَمْنَعُهُ الْمَاءُ، ويُورِدُهُ مفاوزَ صحراءٍ تملؤها أخاطبُ بني صهيون وخفافيشُ ظلامٍ تمتصُّ دماءَ بني جَلْدَتِنا ؟!
أتكونُ الأمةُ محضَ سرابٍ أم محضُ هراءٍ؟!
تطالعنا الشَّاشاتُ بجثثِ الشُّهداءِ وآناتِ الجرحى.. من يحملُ بقايا جثةَ صديقِهِ المتفحمةِ في طِسْتٍ… أمهاتٌ فقدنَ فَلِذَةَ أكْبَادِهِنَّ… نساء ترملنَ… أعراسٌ تقامُ على أنقاضِ البُيُوتِ؛ ليحتمي العريسُ بحِضْنِ حبيبته في ليلِ الحربِ القاسيةِ يتقاسمُ معها الخوفَ وخواءَ البطنِ، ويعتصر شجاعةَ ليلِ القهرِ وأيام الصَّبر، ويَقْتَسِمُ الخبزَ اليابسَ والحزنَ السَّاكِنَ في أعماقِ القلبِ… ماتت أُسَرٌ بالكاملِ تحتَ الأنقاضِ وشهيدٌ يَنْزِفُ حتَّى الموتِ فوقَ الأسفلتِ يغادرُ دنيانا بِسُجُودٍ… أبٌ يودع طفلته: (سلامًا يا روحَ الرُّوح) … صحفيٌّ يلقى حتْفَه ومذيعٌ يتلو ما تيسَّرَ من سورة النَّصرِ تباغته قذيفةُ مدفعٍ؛ فيهوي صريعًا، وكذاك مُصَوِّرُهُ بَعْدَهُ :(تبت يدا أبي لهبٍ وتبَّ ما أغنى عنه ماله وما كسب ) …. مراسلُ حربٍ يدفن كلَّ صِغارِهِ جراء غاراتٍ تَسْتَهْدِفُ منزلَهُ ورِفاقَهُ…. تذيعُ القنواتُ العبريَّةُ خبرَ استشهادِ هنيَّةَ، وتمضي صحفُ الغدرِ تبيعُ للنَّاسِ الوهمَ بأنَّ هنية كان عميلًا زنديقًا ينشرُ تُقْيَتَهُ، ومَذْهَبَهُ الشِّيعيَّ في غزةَ وأنَّ هنيَّةَ ذَنَبٌ صُهْيُونِيٌّ متمدِّدٌ ذهبَ لمساكنَ قدامى المحاربينَ في طِهْران، وأنَّ هنيَّةَ أرهابيٌّ قتلَ جنودَ كمينِ الْبَرْثِ في وَضَحِ نَهَارِ العجزِ العربيِّ… قَتَلَ المنسيَّ… أكاذيبُ تِلْوَ أكاذيبَ تلوكُهَا ألسنةُ عملاءِ الدَّاخلِ أتباعِ ابنِ أُبَيِّ سَلُولٍ،وتردِّدُها ذيولُ بني صهيونَ…
في ليلٍ داجٍ وسماءٍ تُمْطِرُ قُبْحًا وسُحْبًا حبلى بالأسى وجروحًا تتقيحُ كقروحِ مريضٍ بِالسُّكريِّ…
ماتت نَخْوتُنَا في ذِي قارٍ… ما عادَ الهَمُّ العربيُّ بهواجِسِه يشغلنا… !! لماعاد الحلم الواحد يجمعنا… !! ماعدنا نملك إحساسًا بمصيرٍ مشتركٍ… !!
ما عدنا نذكرُ مَثَلًا يُرْوَي وحكاياتٍ تُحْكَي :(أُكِلْتُ يوم أُكِلَ الثورُ الأبيضُ )…!! تتقطَّعُ أوصالٌ تتمزقُ أحشاءٌ تتبعثرُ أشلاءٌ فلا نكترثُ،ولا نهتم، وإليكم هذا النبأ العاجلُ : ماتَ المعتصمُ واحتلَ الرُّومُ عَمُورِيَّةَ عُنَوةً… ما عادتْ واو النَّدْبةِ تعني شَيْئًا حذفوها من كتبِ النَّحْوِ…!!
طغى نَقْفُورُ وتجبَّرَ، وعاد الجنرالُ اللِّنْبِيِّ؛ لِيَرْكِلَ قبرَ صلاحِ الدِّينِ، ويصيحُ بِصَوْتٍ مُتَعَجْرفٍ ها قد عدنا يا صلاحَ الدِّين…!! واستوطننا مَمَرَّكَ بل أسْمَيْنَاهُ مَمَرَ( فِيلَادِلْفِيا) حتَّى تَنْسَاك الأجيالُ!! … تُطَالِعُنَا الصُّحفُ الْكَاذِبَةُ في صَفَحَاتِها الأولى: أنَّ جنديًّا صهيونيًّا قذرًا وقفَ يتمطى مُْسنِدًا ظَهْرَهُ لِجِدارٍ في مَعْبَرِ رفحٍ يغني بالعبرية :(خيبر خيبر سوفَ نعودُ سوف ندمِّرُ كلَّ العربِ
سوف نسومُ الكلَّ عذابٌ
لن نخشى بطشَكَ يا خالد لن ترهبنا صولةَ قعقاعٍ أو جولَتَكَ يا ابنَ أبِي طالب سنقتلعُ أشجارَ التِّينِ وأشجارَ الزيتونِ
مِنْ جَبَالْيَا لِبَيتِ حَانُون
سنقيمُ الوطنَ الموعودَ ).
فقمةُ العجزِ ألا يكونَ الأحفادِ لهم أندادًا انشغلوا بفريقٍ كرويٍّ ساحرٍ وممثلٍ كوميديٍّ ساخرٍ أو مطربٍ سبعينيٍّ خائرٍ يصفعُ رجلًا عاديًّا فينقلبُ السِّحرُ على السَّاحرِ لكنَّ صفعاتِ بني صُهْيُونَ هي الأقوى تَقْصِفُ كلَّ جباهِ القومِ، وتُدْمِي قَفَاهُم … حين يتلوثُ دَمُنَا العربيُّ ،ويتلونُ باللَّونِ الأزرقِ ،وتوغِلُ فيه نجمةُ داودَ ،وتشربُ أنهارَ عروبتِنا ،وتولغُ في دَمِنَا كأفعى نَاعِمَةُ،وناقعةُ السُّمِّ وينتشرُ كالجُرْذَانِ يهودُ الخبثِ والمكرِ واللُّؤمِ يتسربونَ كالنَّمْلِ من عُيُونِنا كخلايا سَرَطَانيَّةٍ غيرِ حميدةٍ تقبعُ تحتَ مسامِنا وتغشى أسماعِنا، وتأخذ أعينَنا … حين تنامُ عقولُ العُرْبَانِ، وتمتلئُ بطونُ السَّدنةِ… حين تمتدُ اجتماعاتِ السَّاسةِ لساعاتِ الفجرِالأولى… تشجبُ تستنكرُ،وتنددُ بالوضعِ المُزْرِيِّ لمآلاتِ أمورِ بلادٍ تحجبها غيومُ العهرِ تمنعُ شمسَ الغدِ تَسْجِنُ خلفَ زنازينِ الأملِ القادمِ ألفَ صباحٍ وصباحٍ… تكتبُ بالدَّمِ وبالبارودِ أنَّ بلادًا مسلوبةٌ وأن دماءً مسكوبة ٌ وأنَّ حدائقَ عطنٍ أو عفنٍ في كلِّ المدنِ العربيَّةِ ما طَرَحَتْ غيرُ أزاهيرِ العارِ حين تركنا غزةَ تواجِهُ موتًا قتلًا جوعًا حربًا فتكًا عطشًا قذفًا هدمًا أسلمنا رقابنا؛ لِتَنْدَقَّ ما بينَ مطرقةِ الأيَّامِ وسِنْدَانِ الأوهام ِ، وتوَّجنا الخُذْلانُ وباءتْ صفقتُنا بالخُسْرَانِ وما اسطاعت يدُنا أنْ تقذفَ حجرًا في وجهِ الآخرِ أنْ تَنْقُبَ نَقْبًا في رَدْمِ الزَّيفِ المتورمِ خلفَ جدارِ العزلِ الغاشمِ… أو ما تدري بأنَّ سيدةً حرَّةً صمدتْ أمامَ كلابِ عدوٍ مسعورةٍ كيلا تتركَ وطنًا يسكُنُها؛لتسكنه ذئابُ الأرضِ وتُضَاجِعَهُ كلابُ الطُّرقاتِ منحوها وِسامِ شَجَاعةٍ،ومُنِحَتْ أُمَّتُنَا أَوْسِمَةَ الْخِزْي؟!
فيا للْعَارِ ؟!
اسْتَفَاقَ وَلَدِي فوجدَ القومَ كما هُمُوا مازَالوا نِيامًا… !!
القاص عبدالصمد الشويخي