العصامي.. او عتبات الانسانية في رواية (جامعياتي) ل د. وائل أحمد خليل الكردي

انه هو ذلك السؤال الغامض دائما (ما معنى الانسانية؟) .. وعلى أي حال، فكل منظومة فكرية أو فلسفية تريد لنفسها الخلود والتأثير في الجماهير وذات أنصار كثر فحتما تحاول إيجاد منطلق من الانسانية لأفكارها ، حيث أن جماهير هذا القرن أشد من قرون سلفت عشقا وشغفا للإنسانية .. ولكن نوع هذه الانسانية يتحدد من جديد في كل مرة بحسب ما يتجه اليه كل قول فلسفي في رؤيته للعالم world-view وحتى تلك المدارس التي افرطت في المادية والتفسير المادي للكون والحياة كان لابد لها أن تؤسس لنفسها لدى الجماهير بمراجع عالية في الانسانية فتجد بذلك قبولا كثيفا بينهم . ولهذا السبب تحديدا كان (مكسيم جوركي) هو الملهم الفذ لمجتمعات
الاشتراكية الماركسية ، وكانت رواياته مراجع مهمة للإنسانية في رسم الثورة البلشفية الشيوعية في روسيا الأمر الذي جعله ومؤلفاته موضع تقديس من (لينين) زعيم الثورة ..


وفي رواية (جامعياتي أو مع الفلاحين) خط (مكسيم جوركي) الطريق نحو نوع التصور للإنسانية المطلوب للتوافق مع مقاصد الدولة المادية الاشتراكية والتي هي حتما دولة العمال والفلاحين .. وعلى دروب (فلاديمير لينين) في قوله (ان المادة مفهوم فلسفي لإظهار الواقع الموضوعي الممنوح الى الانسان في احاسيسه والذي ينسخ ويصور وينعكس من جانب احاسيسنا وهو قائم بصورة مستقلة عنها) صاغ (جوركي) روايته هذه كقصة لرجل عصامي يبدأ من قاع المجتمع الفقير زمن القياصرة وينطلق إلى الحياة الواسعة ، فليست العصامية عنده هنا لمن صنع مالا وفيرا من بعد فقر، وإنما هي هنا لفتى كان كالمادة الخام لا يحوز شيئا من الخبرة في شؤون الحياة المجتمعية ومشكلاتها ثم صار يعركها ويبني في كل يوم معرفة جديدة بها .. جاء ليكون طالبا بالجامعة في بلدة بعيدة فداهمته حياة المجتمع هناك بمطالبها للحاجات الأساسية مما اضطره إلى العمل عاملا في الحقول والمخابز والحوانيت، وفي كل مكان كان هناك أناس جدد وخبرات أخرى، لقد كان في الماضي وديعا هانئا بتصوراته الضيقة المتفائلة عن الدنيا بسبب تلك الكتب الكثيرة التي أغرق نفسه فيها وشغف بقراءتها حتى جعلها حاجزا بينه وبين العالم لا ينظر إليه إلا من خلالها تماما كم فعل بطل (سيرفانتس) (دون كيشوت) ولكن العمل سرعان ما اظهر الواقع أمامه مختلفا.. (بالقصص والروايات تلك، يفضل الناس أن يقضوا معها ساعاتهم ينسون بها همومهم ومشاكلهم، لكن الكتب التي كانت تلقى ترحيبا أكثر، تلك التي تحكي تفاصيل الحياة محاولة جعلها جميلة خادعة بذلك الجماهير ) .. فكانت تلك أولى عتبات الانسانية أن يمحو المرء الحاجز بينه وبين الجماهير وأن يصبح الكل للواحد والواحد للكل، وأن التعليم يأتي من المعايشة الحية لضروب الحياة والبشر .. (ليس فقط نوع الدراسة هو الذي سيجعل الكتب صلة بينك وبين الناس من حولك .. كل شيء يدرس أو يعلم يأتي من الرجل، ما يعلمك الناس أكثر الما من دراسة الكتب، وتعليمهم قاس، لكن ما تتعلمه في هذا الطريق لن تنساه أبدا) .. وهكذا كان ينبغي قراءة الكتب لا لتكون حاجزا بيننا وحياة المجتمع وإنما لتكون القراءة بذاتها تجربة حية يتفاعل بها الإنسان مع الدنيا وكل اصناف البشر والمشكلات فيها، (الحياة بدون تجمع.. انها مستحيلة) كانت تلك أول الدروس المستفادة .. (كان الشعب في نظرهم في مستوى راقي من الحكمة والطيبة والجمال فهو مثال كامل لكل الصفات الحسنة … كنت أرى أن كل الجمال، كل قوة التفكير قد تجمعت في هؤلاء المتناقشين، الذين يضمون بين صدورهم وفي قلوبهم إرادة قوية ومخلصة لبناء مجتمع حر على أسس جديدة من حب الانسانية … ومن ثم عملت على فهم الحياة على حقيقتها وصرفت التفكير عن نفسي واحلته كله إلى الاهتمام بالآخرين).. وعلى تلك الأولى تكون العتبة الثانية في الانسانية وتقوم عليها بالضرورة فهي القيمة التي يقصد اليها كل المجتمع وحكمة وجود الانسان وسبيل الاجتماع البشري، تلك هي قيمة (المحبة) وكيف أنها مصدر تماسك
الاجتماع البشري على الارض (فأمنت بأن اصلاح العالم لن يتأتى الا عن طريق الحب الصادق من اجل خلق اناس فاضلين… يجب أن يرفرف الحب على كل تصرفات الإنسان لأنه كل شيء في هذه الحياة. هذا هو الطريق الوحيد الذي يستطيع الإنسان أن يحيا على ضوئه، فبدون الحب لا يمكن فهم الحياة … أن الإنسان هو الإنسان أين وجد، وأنه ليس عمل الإنسان هو أن يغير موقفه في الحياة، بل أن ينظم روح الحب الانسانية .. الدعوة إلى الحب هو قانون الحياة) .. والعقل الجمعي يبرر هذا القانون للحياة بأن المحبة هي التخارج المستمر للإنسان عن ذاته ليصب في بحر المجموع وينصهر فيه فتذوب الانا في الاخر، الم تكن مقولة (جوركي) في جامعياته (كلما انخفض مركز الإنسان في الحياة كلما كان اقرب لفهم معناها الحقيقي ولحكمتها) ..

ولان قيمة الحياة للشعوب هي الحب فعند ذلك ايضا تشتعل جزوة النضال والصراع والمكابدة حيث أن أسباب الشرور تظهر كمكافئ جدلي وطرف نقيض تاريخي امام المحبة والاجتماع البشري الفاضل.. (هؤلاء الذين يعلنون أن ناموس الحياة هو النضال، هم عمي النفوس يهدفون إلى التخريب. فالنار لا تطفئها النار، كما أن الشيطان لا يقهره الشيطان ) .. وتلك هي العتبة الثالثة الكبرى للانسانية وهي الدراما الكامنة في مأساة ضياع المحبة في كل مكان، فالواقع الفعلي جد مرير.. (كل ما يدور حولنا في الحياة العادية بتفاصيلها، يثير الفكرة في قلبي، الشفقة والرحمة، وبدت لي الحياة كنجاح لا نهائي للقسوة والعنف خلال الصراع القائم حولها… ستزداد القسوة طالما يتقيأها الناس في كل مكان، حتى تفيق كل روح الى صوابها فيتركون هذا الطريق المزيف اللعين ).. ولنلاحظ أن الشر يؤججه ليس الأقوياء فقط، بل في أغلب الأحيان من يختبئون خلف الأقوياء بأردية البراءة والسمو.. (انني أخشى هؤلاء المتواضعين الذين يخفون دهائهم تحت ثياب هذا التواضع الآثم ) .. وكذلك الضعفاء.. (نحن ننصر الضعيف، فإذا جعلنا الضعيف قويا فان الأقوياء يفقدون قوتهم فيركبهم الضعفاء وهذه هي المشكلة) .. وهنا يتصاعد المد الدرامي للمأساة في جدلية الحب والقسوة وانهيار الأقوياء وصعود الضعفاء.. وكل هذا ينذر بما ينبغي أن يكون ويصير في نهاية الطريق، إلا وهو الثورة .. (فسينفذ صبر الناس في يوم ما، وسيفقدون كل تحكم في اعصابهم، فسينهضون ثائرين محطمين كل شيء يقف في طريقهم وسينفذ صبر الشعوب ) والثورة لن يقوم بها غير الكادحين الأقوياء الحكماء، وتلك هي رابعة عتبات الإنسانية.. (ومن هنا يبدأ العاطلون يهاجمون هذه الحياة أو يتركونها بعد أن رأوا انه لم يعد فيها أماكن خالية لوجودهم، فيعمل العمال من أجل الثورة، ليحصلوا على كل مزايا الإنتاج والربح ) .. فالحياة إذاً تؤخذ غلابا، والذين يضربون بطن الارض بأيديهم ويحرثون الطين ويشغّلون المصانع ويأكلون من كد يمينهم هم الأقوياء الحقيقيون وهم اقدر الناس على الثورة وهم الأحق بها، تلك الثورة الحتمية التي تعيد للمجتمع توازنه على قيم المحبة.. (وانتم ايها الفلاحون، انتم مصدر كل شيء.. النبلاء، رجال الكنيسة، الطلبة، القياصرة، كل هؤلاء كانوا فلاحين في الماضي )..


هكذا صار الفتى العصامي في رواية (جامعياتي) ذو ثراء في فهم الناس والمجتمعات بعد ان طال مشواره وكفاحه ولكثرة ما لاقاه من اشخاص يمثل كل منهم صنفا كاملا من اصناف البشر وما هنالك من اخلاق عالية وما هنالك من اخلاق منحطة.. وهكذا ايضا رسم (مكسيم جوركي) العتبات الانسانية التي بنى عليها اصحاب التوجهات الفلسفية المادية الاشتراكية اطروحاتهم وسبلهم في اكتساب الجماهير، كما رسم غيره كثيرون مختلفون عنه عتبات للإنسانية بحسب مذاهبهم وافكارهم، وقد يختلفون كثيرا فيما بينهم.. ولكن سيظل الانسان هو جماع كل المتناقضات وجماع ما يرسم الفلاسفة والأدباء من تصورات وتفسيرات، وما لا يرسمون.. فهو كائن لا يعلم كنهه الا الله.
•••

د. وائل أحمد خليل الكردي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *