العقل الجمعي ( ظاهرة نفسية اجتماعية تفترض فيها الجماهير ، أن تصرُف الجماعة في حالات معينة وموقفها تجاه حدث ما ، يعكس سلوكا صحيحا ) .
العقل الجمعي أو المطابقة الاجتماعية هي مسميات لظاهرة نفسية تحدث عندما يفقد مجموعة من الأشخاص قدرتهم على اتخاذ القرار المناسب، ويعولون على أن الآخرين يعرفون أكثر منهم، وأن تصرفاتهم ربما تكون هي الصحيحة، فينصاعون أو يسلمون للسائد دون تفكير، فيما يشبه ( سلوك القطيع ) .
وقد وصف عالم الاجتماع إِميل دوركهايم. ( العقل الجمعي أقوى من حُرية الفرد، ويتنافى معها؛ بل قد يتجاوزها أو ينفيها في بعض الحالات، مما يجعل سلوك الناس في الحياة جبريًا ) .
وقد أظهرت نتائج البحوث والدراسات للتحقق من نشاط الدماغ في هذه الحالة، أن المشاركين يغيرون قراراتهم وأرائهم عندما يجدونها تتعارض مع رأي المجتمع أو المجموع الذي يتواجودون فيه ، وكشفت بيانات الرنين المغناطيسي ، أن الصراع مع معايير المجموع ينشّط المناطق المختصة بالتكيف السلوكي والنفسي في الدماغ، حيث تؤثر توجهات المجموع على الحس والإدراك وصنع القرار، مما يسارع ويجعل الأفراد يغيرون آراءهم وسلوكياتهم للتوافق معها.
أما الكاتب ( جوستاف لوبون ) . 1841 – 13 ديسمبر 1941 ، وهو طبيب ومؤرخ فرنسي ، الذي صدر كتابه للمرة الأولى عام 1895 م أي قبل حوالي 150 سنة تقريبا ً ، في خضم أجواء مشحونة وتغيّرات جيوسياسية واجتماعية متزايدة، جرّاء تراكم مجموعة من الأفكار على مدى دهر من الزمن لدى الجمهور الفرنسي خاصة والأوربي بشكل عام. يقول في كتابه الشهير ( سيكولوجيا الجماهير ) إن العقل الفردي مختلف تماماً عن العقل الجمعي في التفكير؛ فالأول قد يصل إلى قرارات عقلانية ومنطقية. ولكنه إذا انجرف مع العقل الجمعي فقد يتصرف بسلبية ، ويمكن أن توجد فجوة كبيرة بين عالم رياضيات شهير وصانع أحذيته على المستوى الفكري، ولكن من وجهة نظر المزاج والعقائد الدينية، فإنَّ الاختلاف معدوم غالبًا أو ضعيفًا”. وهذه حالة سائدة ومحيّرة تعاني منها كثير من المجتمعات التقليدية؛ كالمجتمعات العربية والإسلامية وحتى الأفريقية والأسيوية والتي تعاني من غياب العقل الناقد وتسيطر على بعضها ثقافة القطيع.
أينشتاين يقول : ( إذا سِرْتَ معَ القَطِيع سَتَصِلُ إِلَى حَيْثُ يَقُودُكَ القَطِيعُ.. وَإِذَا سِرْتَ وَحْدَكَ سَتَذْهَبُ إِلَى أَبْعَدِ مَدَى تُرِيدُهُ أنْت ) .
ولا يخفى على أحد أن للجماعة غلبة على الأفراد ، قد تزداد ويفقد معها الأفراد قدرتهم على تمكين وتحكيم العقل وتمييز الخطأ والصواب وتحديد السلوك الأفضل والمناسب لتصل لحد ما يسمى بـ«سلوك القطيع» على افتراض أن الأكثرية تملك الرأي الصحيح والأقلية ، لايمكن أن يكون رأيها أفضل من الجميع ، وقد سمعنا من التاريخ قصصاً كثيرة وكذلك في كتاب الله تعالى ، عن هيمنة العقل الجمعي عبر القرون السابقة عند تعاملها مع الأنبياء والرسل ومثال ذلك ؛ ( قالوا أجئتنا لتلفتنا عما وجدنا عليه آباءنا)، (قالوا بل وجدنا آباءنا كذلك يفعلون)، (قالوا وجدنا آباءنا لها عابدين) (وإذا قيل لهم اتبعوا ما أنزل الله قالوا بل نتبع ما ألفينا عليه آباءنا)، وتمثل لنا تلك الآيات الكريمة صور الانصياع والإذعان من قِبل تلك الأقوام لسيطرة العقل الجمعي، فتُلغى عقول الأفراد وتُعطل من التفكير الناقد وتشخيص الأخطاء ، وتُقمع الفطرة وتنحصر آراء الجماعات الكبيرة في حيز ضيق جداً من المعلومات السطحية وتكون لها الغلبة .
وضرورة أن نعي ليس دائماً الكثرة مقياساً للصواب، ولم تكن دائماً الجموع الغفيرة دليلاً للطريق الصحيح والقويم ، ولذا نجد أن القرآن الكريم يصف و يذم اتباع الكثرة في مواضع كثيرة، منها: (وَإِن تُطِعْ أَكْثَرَ مَن فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَن سَبِيلِ اللّهِ إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ) . وقوله تعالى: (وَلَقَدْ ضَلَّ قَبْلَهُمْ أَكْثَرُ الْأَوَّلِينَ) . وقوله تعالى : ( وَلَكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ) .
من المفارقات المضحكة ، والتي دعتني للأستفسار ، كان أحد بائعي الخضروات شاب بعمر 40 سنة ويساعده أخيه بعمر 28 سنة ، كان لديهم عربة صغيرة ، يجلبون 20 صندوق طماطة ، و20 صندوق خيار ، قبل الغروب ينتهون من بضاعتهم ولم يبقى أي شئ منها ، وعربتهم تجدها دائما مزدحمة بالزبائن ، مع الجدير بالذكر هم يمتازون بالحيوية والنشاط والترويج الجميل والمضحك لبضاعتهم ، ولكن هذا لايكفي فهناك منافسة كبيرة بين البقالين ، فدعاني الفضول الى معرفة ماهو السبب ، فسألت الشاب الكبير فأجابني وبصراحة قائلاً هي ثقافة القطيع ، ضحكت كثيراً قلت له وكيف ذلك ، قال في البدايات لمدة شهرين كاملين أبيع بضاعتي بأرباح بسيطة جداً مجرد ( أجلب لعائلتي قوتها اليومي ) ، وبعد ذلك عندما شاع الخبر في السوق وفي كل المناطق بأن ( ميثم )
أسعاره جداً رخيصة ، وبضاعته نظيفة ودرجة أولى ، رفعت الأسعار تدريجيا ً وغيرت من نوع البضاعة ، ليس للإسوأ ، ولكن للأقل درجة ، وبهذا حققت أرباح جيدة ومهمة وبفترة قياسية ، والناس هكذا لاتسأل ولاتدقق .
في أحد الأيام أحدى القنوات العربية عملت تجربة جميلة جداً ، أظهرت لنا ثقافة القطيع وتأثير العقل الجمعي من خلال مشهد تمثيلي مفاده ( قام بعض الممثلون بالوقوف بالدور أمام باب كبير لأحدى ( المولات ) ، فجاء الجميع يتقاطر ويقف بالدور ، ولم يبادر أحداً بالسؤال ، لماذا الوقوف وماهو السبب ، ولم يتجرأ أحد بالذهاب الى الباب ويدخل رغم ( مكتوب علية مفتوح ) ( open ) ، وبالمناسبة كان الزبائن من كل الجنسيات والألوان ورجال ونساء ، حتى أنتظروا لمدة نصف ساعة ، بعد ذلك جاء ممثل من الخلف وقام بالدخول مباشرة ، فضحك الجميع من الموقف .
فياترى هل مازالت ثقافة القطيع موجودة في عالمنا ، ولها تأثير على عقولنا وحياتنا ومصائرنا وأحلامنا وآمالنا .
الكاتب والباحث الاعلامي سامي التميمي