العملات بين الاستقرار والتعويم

يسود الاعتقاد أن ارتفاع قيمة احدى العملات المحلية مقابل العملات الأجنبية بالضرورة مؤشر على ازدهار الدولة اقتصاديا وعلى امتلاكها احتياطات نقدية متوازنة.
لكن الحقيقة قد تختلف من منظور اقتصادي لأن هذا ليس معيار او مؤشر على قوة الدولة، بل قد يكون عبأ ثقيلا على اقتصاد الدولة ويسبب ركود بالسوق المحلية وانخفاض في الصادرات والذي بدوره سيؤدي الى عجز اكبر بالميزانية.
بداية يجب معرفة الأنظمة التي تتبعها الدول في تحديد سعر عملاتها ولاحقا تأثيرها على الدخل القومي لهذه الدول.
تعتمد الدول نظامين في تحديد سعر عملتها:


• نظام سعر الصرف الثابت: في حال اتباع هذا النظام تسعى الدولة الى استقرار سعر عملتها عند قيمة معينة تضمن لها بقاء ميزان السلع خاصتها متوازن وتمكن اقتصادها من تخفيض العجز او الخروج بمؤشر ايجابي في افضل الحالات.
كيف تستطيع تلك الدول الوصول الى السعر الثابت الذي تسعى ورائه؟
كما تم الطرح يتحكم العرض والطلب في السوق المحلية بسعر صرف العملة المحلية، أي أن زيادة الطلب على العملة مع عدم وفرتها سيرفع قيمتها مقابل العمل الأجنبية وزيادة العرض وقلة الطلب سيسبب انخفاض قيمتها، هكذا يمكن فهم الاطار الأساسي لتحديد سعر صرف العملة ولكن بعض الدول تقوم بربط عُملها بعُمل اجنبية قوية لتجنب انخفاض قيمتها لنفس العوامل الاقتصادية المذكورة.
مثلا تقوم المملكة الأردنية بربط الدينار الأردني بالدولار الأمريكي وبذلك تبقى قيمته مرتفعة لأن الدولار مستقر من جهة ولا يتأثر بالحركة الاقتصادية للمملكة حتى ولو كانت تمر بأزمة اقتصادية داخلية من جهة أخرى.
وتزيد الكويت على ذلك فتربط الدينار الكويتي بسلة عملات أجنبية فيؤدي هذا الى استقرار مستدام بالعملة الكويتية بما يتناسب مع اقتصاد الدولة والرؤية الاقتصادية لها.
وهكذا يتم تثبيت سعر صرف العملة المحلية بشكل مستقر ووفق اطار معين تحدده الدول، اذا ماذا يمنع دولة مثلا العراق او سوريا من تثبيت سعر صرف عُملها عند حاجز معين لنقُل دينار واحد للدولار او حتى ليرة للدولار؟
من الناحية النظرية هذه الخطوة ممكنة جدا ولكن عمليا ستكون كارثة على اقتصاد الدولتين الذي يعاني أصلا من أزمات خانقة. اذا ارادت الدولتين تثبيت سعر الصرف عند مقدار معين فعليها بيع احتياطاتها من النقد الأجنبي بهذه القيمة، أي ان يبيع البنك المركزي العراقي او السوري الدولار بدينار او ليرة دون ان تنفد مخزوناته وهذا امر مستحيل حاليا في ظل الركود الاقتصادي للدولتين وانخفاض الطلب على عملتيهما وسيؤدي الى اعلان الدولتين افلاسها.
وهذا سيقود الى نظام سعر الصرف الثاني وما تفعله الدول عند مرورها بأزمات اقتصادية وعدم قدرتها على الدفاع عن القيمة السابقة للعملة المحلية.


• نظام سعر الصرف المعوم: عند عدم قدرة الدولة على تثبيت سعر صرف عملتها فهي أمام خيارين إما تقوم بخفض القيمة الى الحد الذي يستطيع البنك المركزي بيع العملة الأجنبية ضمنه دون استنزاف احتياطي النقد الأجنبي أي مثلا 1000 دينار عراقي أو سيفرض الواقع سعرين لصرف العملة، وبالتالي ستنشأ سوق سوداء تتداول النقد الأجنبي بسعر مغاير للسعر الحكومي ويبدو أكثر ملائمة للعرض والطلب في السوق المحلية.
لنبقى بالخيار الأول وهو أن تخفض الدولة قيمة عملتها المحلية لتجنب الإفلاس وبهذا الاطار تقوم الدول بطباعة الكثير من العملة المحلية مما يؤدي الى زيادة العرض على العملة رغم قلة الطلب فيؤدي ذلك الى انخفاض قيمتها.

لكن هل يعد انخفاض قيمة العملة دائما مؤشر على ضعف الاقتصاد وهل يتم اللجوء اليه تجنبا للإفلاس فقط؟
لا يعد انخفاض العملة دائما مؤشر على ضعف الاقتصاد بل ان كثير من الدول الصناعية لا تسعى لتثبيت عملتها وتعتمد نظام سعر الصرف المعوم أي انها لا تتدخل بسعر صرف العملة و تبقيه رهين التداولات المحلية “العرض والطلب”.
كما أن هذا السعي أدى لظهور ظاهرة تسمى بصراع العملات بين الدول الأقوى اقتصاديا لزيادة التنافسية لاقتصاداتها وتقويتها اكثر وهذا سيقودنا الى النظام الهجين الأخير الذي انبثق من رحم النظامين الأساسيين وهو نظام سعر الصرف المعوم الموجه.


في هذا الحالة لا تكون الدول تمر بأزمة اقتصادية لكنها تسعى بشكل مدروس لخفض عملتها كنوع من التشجيع لزيادة الاستثمار الأجنبي أو لرفع صادراتها وجعلها قبلة تصديرية رخيصة ووجهة تلجأ اليها الدول لشراء المنتجات كونها ازهد بكثير من كلفة انتاجها محليا.
تدخل اليوم كثيرا من الدول في هذا الصراع وعلى رأسها الصين ودول أخرى مثل الهند، اليابان، سنغافورة، ماليزيا، اندونيسيا وتايوان وغيرها.
في هذا الحالة عندما تقوم دولة تصديرية قوية مثل الصين أو اليابان بخفض قيمة عملتها فيعد ذلك كارثة بنسبة للدول الاقتصادية الأخرى مثل الولايات المتحدة الأمريكية والدول الأوروبية لأنها تعد وجهة مستهلكة لمنتجات البلدين الرخيصة بحكم قوة عملهم الشرائية وقدرتها على استيراد أطنان من البضائع الصينية واليابانية بثمن زهيد وهذا ما تسعى الصين واليابان وغيرها وراءه، لكن هذا بدوره سيأثر على الحركة الاقتصادية في الولايات المتحدة والدول الغربية ويؤدي الى تراجع مرتبتها على سلم اقوى الاقتصادات.
وتلجأ الدول الأوروبية لمنع ذلك من خلال رفع التعريفات الجمركية كوسيلة ضغط لدفع الصين وغيرها لتثبيت عملتها عند مقدار معين بوصفها دولا متلاعبة بالعملة.
فكيف تقوم هذه الدول بتخفيض مدروس لعُملتها وكيف يمكنها هذا الخيار من امتلاك احتياطات رهيبة من النقد الأجنبي؟


تعتمد هذه الدول على عدة أساليب في عملية تخفيض قيمة عُملها المحلية ساعية وراء الأسلوب الاكثر ملائمة لاقتصادها والأكثر مناسبة لتطلعاتها الاقتصادية.


• الأسلوب الأول يقوم على شراء النقد الأجنبي من السوق لدرجة تجعله شحيح وكثرة الطلب عليه تزامنا مع قلة العرض ستتسبب بإرتفاع قيمة العملة الأجنبية مقابل العملة المحلية وتسيطر الدولة على مخزونات ضخمة من النقد الأجنبي على سبيل المثال الدولار الأمريكي


• الأسلوب الثاني يكون من خلال تشجيع المستثمرين على استثمار اكبر مقدار من العملة المحلية بسوق المحلية ومنعهم من ابقاءها مجمدة بالبنوك أو غيرها من خلال تخفيض سعر الفائدة الذي سيجعل المستثمرين يعزفون عن الاقبال الى البنوك ويفضلون ضخ الأموال بالسوق المحلية مما يؤدي تكدس النقد المحلي رغم عدم وجود الحاجة الملحة لذلك وبتالي تنخفض قيمتها بشكل كبير.


• أما الأسلوب الثالث فيستهدف المستثمر الأجنبي من خلال فرض اجراءات مشددة على الاستثمار الاجنبي وتقييده بقوانين صارمة مما يمنع دخول النقد الأجنبي الا بمقدار معين وسط تعريفات جمركية عالية مما يؤدي الا شح النقد الأجنبي وارتفاع قيمته بالضرورة.


وبذلك تحصل الحكومة بالحالات الثلاث على المبتغى وهو تخفيض العملة وهذا ماتنفذه الصين منذ 2019 والتي تعد من أكبر المصدرين للولايات المتحدة بشكل خاص وأوروبا بشكل عام ووصفته الولايات المتحدة بالتهديد الاستراتيجي وأخذت اجراءات صارمة تجاه هذا الفعل تمثلت بزيادة التعرفة الجمركية على الصين وسط سعي حثيث منها لمحاربة الهيمنة الصينية على السوق العالمية وحبك جماح توسعها في السوق العالمية على غرار تجربتها مع اليابان التي كانت تمثل التهديد الأكبر للاقتصاد الأمريكي قبل أن تجبرها بنفس الضغوظ على رفع قيمة عملتها عن طريق اتفاقية بلازا ولكن شتان مابين الصين واليابان لأن الصين تعد قوة متكاملة على عكس اليابان التي كانت ولاتزال تسعى لأن تكون قوة اقتصادية فقط.

لكن بعد كل هذا الشرح قد يطرح تساؤل عن امكانية الدول العربية من تكرار التجربة الشرق اسيوية والمحاولة من الاستفادة من خفض قيمة العملة المحلية بطريقة تساهم في تطوير اقتصاداتها وتحقيق مستويات جيدة من التوازن الاقتصادي؟


لا شك أن الاستفادة من هذه الحالة تحتاج لمقومات تفتقدها الدول العربية مجتمعة رغم الاستقرار الأني الذي تتمتع فيه دول مجلس التعاون الخليجي بفضل الثروات الباطنية.
لا تمتلك الدول العربية قطاع تصديري قوي يُمكنها من تحقيق الاستفادة المثلى عند تخفيض العملة باستثناء دول مجلس التعاون الخليجي فتسجل اغلب الدول مؤشرات سلبية في ميزان السلع التجاري، وذلك لأنها دول مستهلكة أكثر من كونها مصدرة فهي سوق للبضائع الأجنبية ويكفي اجراء مقارنة بين الدول العربية (الغير خليجية) واندونيسيا نجد أنها تتساوى من خلال الناتج المحلي بحوالي 300 مليار. رغم الفوارق الكبيرة بالمساحة وتعداد السكان وغيرها
وأما الدول النفطية التي تملك ميزان سلع تجاري قوي ذو مؤشرات ايجابية الا انها تسمى بالاقتصادات النفطية او الانية لأن النفط يمثل جل صادراتها ولا تمتلك قطاع صناع تصديري قوي، وبما أن النفط يباع بالدولار بسوق العالمية فإن تخفيض العملة سيلحق ضرر أكبر باقتصاداتها ولنفس السبب تربط عملها بالدولار وغيره ساعية لاستقرار العملة وثباتها عند سعر معين.


الخلاصة الدول العربية كلها لا تزال متواضعة اقتصاديا رغم المقومات الكبيرة كونها سوق للسلع الأجنبية ولكنها قد تستفيد من التجربة الشرق اسيوية لو سعت لتطوير قطاع تصديري حتى ولو بما يعرف بنظام السلعة الواحدة.

ورشة الفضاء الحر

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *