إن انخراط الفكر المعاصر في مسيرةالحداثةالفكرية واقع يفرض نفسه على كل المفكرين بالضرورة ، لأن التحولات التي يشهدها الواقع في علاقاته الاجتماعية وفي بنيته الاقتصادية تفرض انتقال النظريات الاقتصادية والعلوم الاجتماعية وفتح باب استيراد الفكر الغربي كعملية تثاقف باتت تطبع تلك التحولات بطابع الأزمة بدلاً من كونها نتيجة تطور طبيعي في مواجهة الواقع ، واختلط فيها هَمَّان متداخلان ، أولهما هَمُّ متابعة واستيعاب التطور الفكري في العلوم الاجتماعية لدى الغرب ، وثانيهما هَمُّ محاولات فهم تحولات الواقع الوطني نفسه .
وازدادت حدة الأزمة عند دراسة العلوم الاجتماعية الغربية واكتشاف الدارسين بأنها ليست علوماً بالمعنى الدقيق ، وأنها ليست معارف علمية محايدة تصلح لكل زمان ومكان ، ذلك لأنها قد نشأت نتيجة جدلية الواقع والوعي في المجتمعات الغربية حصراً ، وأنها تحمل سمات الصراعات الفكرية الغربية التي جاءت نتيجة أزمات اجتماعية فعلية وكانت بمثابة حلول مؤقتة واستجابة للتحديات المطروحة في المجتمع الغربي نفسه ، وبذلك كان علم الاجتماع الغربي وليد الثورات الأوربية ، وبصورة خاصة ، الثورة الفرنسية التي كونت التفكير في الاختلالات البنيوية للمجتمع الفرنسي في محاولة للحد من الفوضى الاجتماعية التي سببتها الثورة الفرنسية نفسها ، وهو ماجعل من العلوم الاجتماعية الأوربية الظاهرة الأساس لنشوء الدولة القومية التي تحمل طابع العلوم النظامية التي اكتسبت طابع المعرفة المرتبطة بالسلطة . إلا أن هذه العلوم تحولت إلى صراع ايديولوجي قائم بين علوم نظامية وتقنيات معرفية مرتبطة بسلطة الدولة ، وبين علوم إنسانية تهدف إلى تحرر الإنسان من كمِّ الضغوط وكن مظاهر الاستغلال السائدة والمتفشية إلى درجة الهيمنة ، وبهذا المعنى فإنها علوم ترتبط في معناها العميق والبعيد بفلسفة التنوير الإنساني التي تُخضع حياة الإنسان بكل نواحيها للتحليل ، إلى درجة أنها انقلبت إلى تفكير نقدي ينتهك المقدسات والمحرمات السائدة منذ عمق التاريخ ، وجعلت من تلك المقدسات والمحرمات مجرد ظواهر اجتماعية تم فرضها لديمومة الهيمنة الكلية تحت اسم الدين ورايته ، وباتت هذه العلوم الاجتماعية المستحدثة ترتبط بالسلطة وبنظام الدولة كما يتجلى ذلك في الاقتصاد السياسي المتراوح على هامش المؤسسات التعليمية التنويرية الرسمية التي حلت محل الظلامية الدينية التي كانت تحكم المجتمعات باسم الدين والكنيسة . كما أن الكثير كن هذه العلوم الاجتماعية صارت تتسم بطابع المركزية الأوروبية القوي من خلال نظرتها إلى بقية العالم باعتباره ملاحق تابعة للمركز الأوروبي ، وبنظرتها الى ماتمت تسميته بالمجتمعات البدائية وبالذهنية البدائية المتخلفة مقابل المجتمعات الأوروبية المتقدمة إنسانياً وفكرياً وعقلانياً ، وحصل نوع من تقسيم العمل الدراسي والمعرفي بين هذه العلوم إلى انثروبولوجيا و اثنولوجيا واثنوغرافيا وديموغرافيا .. وهكذا ، وذلك ماطبع تلك العلوم الاجتماعية بطابع المركزية الأوروبية وجعلها الاستراتيجية الأهم في تثبيت الفكر الفوقي والاستعماري لرأسمالية النظام الصناعي الحديث ، وقسمت هذه المركزية الأوروبية العالم إلى عوالم أول وثاني وثالث ، وهو ما دعا شعوب العالم الثالث الى معاملة العلوم الاجتماعية الأوروبية كعلوم دخيلة وأدوات للسيطرة المرتبطة بالهيمنة الاستعمارية وبالنظام الرأسمالي الاستغلالي ، لأنها تحولت في الواقع من علوم معرفية إلى علوم ايديولوجية تحمل في طياتها امكانية استخدامها في معرفة مجتمعات العالم الثالث وفي توجيهها وفق مصالح استعمارية بحتة . وذلك ماجعل تلك العلوم والمعارف الاجتماعية تدخل حلبة الصراعات الفكرية والايديولوجية في مجتمعات العالم الثالث بين أصار التحديث وبين المدافعين عن الأصالة ، وازدهرت دراسات العلوم الاجتماعية مع ازدهار حركات التحرر الوطني وانتعاش حركات التقدم التي اعتبرت العلوم الاجتماعية علوماً إنسانية وأداة فكرية في فهم وتحليل مكونات المجتمعات بعيداً عن أي تصنيف غير تنويري ولايعري آليات السيطرة والتحكم الداخلية من خلال الكشف عن المكبوتات والمحظورات الفكرية والحضارية في أي مجتمع وفي أي نظام سياسي واعتبار الجهود العلمية التنويرية صورة اداة تحديثية وأداة عقلنة للذهن الإنساني ، وذلك بسبب الطابع النقدي العضوي لهذه العلوم تجاه أي مجتمع كيفما كان تصنيفه سواء كان من العالم الثالث أو من غيره من العوالم حسب التصنيف الأوروبي الذي تم ترويجه وترسيخه في الوجدان الشعبي والاجتماعي العالمي .
إلا أن مسألة تكييف مناهج ونظريات هذه العلوم الاجتماعية مع خصوصية المجتمعات ظلت قائمة حتى لاتكون مجرد سرد لنظريات نشأت وتم تطبيقها في مجتمعات غريبة ، فنادى البعض بضرورة تطوير التراث الاجتماعي واستنباط أدواته المعرفية واستلهام خصوصيته الحضارية في فهم وتطوير هذه العلوم والمعارف الاجتماعية ، بينما اعتبر آخرون أن التغييرات التي تحدث من خلال التفاعل الثقافي والتثقيف الفكري مع الآخر تغييرات نوعية تلغي إجرائية المفاهيم التراثية المحملة بشحنات من بنية فكرٍ مضى بمفاهيم الأمة والقبيلة ، ولم يعد صالحاً للتداول بعد أن تجاوزه التطور الاجتماعي الحديث المستقى من تطور العلوم الاجتماعية الغربية ، ولابد من تكييف المفاهيم الحديثة مع خصوصية أي مجتمع على اعتبار أنه نتيجة تفاعل إنساني وثقافي بين المجتمعات . وبذلك كان الصراع بين تياري الأصالة والتراث وبين التحديث والتطور صراع آليات واختيارات التمسك بالأصالة و التراث الذين يعتبرون الدعوة إلى (التثاقف) استلاباً واغتراباً وامتساخاً للشخصية الحضارية ، وآليات واختيارات تفرضها الحداثة والتطور تعتبر الارتباط بمفاهيم الماضي نكوصاً وعجزاً ودوراناً في حلقة البنية الفكرية التي عفى عليها الزمن .
ولاضير هنا من الإشارة إلى أن العلوم الإجتماعية في الغرب نفسه ما تزال في صراع بين هذين القطبين ، حتى أنه يبدو بأن الروح الوضعية قد سكنت هذه العلوم وطبعتها بمفاهيمها وبنتائج نظرياتها . وأن مظاهر ترسخ الفصل بين العلوم والايديولوجيا وبين الذات والموضوع بادعاء أن تقدم المعرفة يسير باتجاه التخلي عن الذات ، وأن دور الباحث هو أن يرى قبل أن يُرى ، لأنه في العلوم الاجتماعية يستحيل الفصل النهائي بين ماهو علمي وبين ماهو ايديولوجي ، لأن الايديولوجيا في منظورها الاجتماعي هي تعبير عن إرادات الجماعات قبل الأفراد ، وأن الروح الوضعية لأي أصالة هي ايديولوجيا خفية محافظة ، بذلك تكون العلوم الاجتماعية مجالاً من حلقات الصراع الايديولوجي بل وحتى أداة من أدواته .
لذلك ، فإن تطوير العلوم الاجتماعية بأصالة تنويرية لاترفض حضارات الشعوب والأمم يرتبط بمدى قدرة الأمم على بلورة المستقبل وبناء مشروعها الحضاري على أسس وطنية ثابتة وغير غريبة المنشأ والهدف .
وفي الختام ، لابد من التركيز على أن مبدأ دراسة خصوصيات المجتمعات هو الأرضية الصلبة لاستنباط العلوم الاجتماعية ذات الرؤى التي تصلح لفهم واقع هذه المجتمعات ، وإن نجاح (ابن خلدون) في تأسيس علم الاجتماع يعود إلى التزامه الكلي في تحليل خصوصية المجتمع الذي انطلق منه إلى العالمية حتى اليوم .
د.علي أحمد جديد