عندما يريد الأكاديمي أن يكتب عن جبران خليل جبران، أو يتحدث عنه؛ فإنه يُصاب بارتباك ذي طبيعية منهجية؛ إذ يجد نفسه، أياً كان تخصصه، عاجزاً أمام شخصية إشكالية متعددة تثير حولها كثيراً من الأسئلة.
يمكنني شخصياً بحكم تخصصي، في مجال اللغة العربية ـ تخصص السرديات، أن أبدي رأياً أو أن أقدّم تقييماً لتجربة جبران القصصية والروائية، كما يمكنني ببعض التوسع أن أستنتج نتائج مهمة من خلال قراءة أشعاره ورسائله، ولكنني لن أستطيع الغوص عميقاً في مؤدّيات كتاباته الفلسفية، ولا في دلالات لوحاته، ناهيك عن فهم شخصيته التي عاشت حائرة ومحيّرة عند الحدّ الفاصل بين روحانية الشرق ومادية الغرب.
أردت من خلال ما تقدّم أن أشير إلى أن قراءة جبران تحتاج إلى مثقف موسوعي، متغلغل في الأدب والفكر والفلسفة والتاريخ والفن؛ فقد قدّم للقارئ إضافة إلى رواية (الأجنحة المتكسرة) قصصاً تناثرت في (الأرواح المتمردة) و(المجنون) و(عرائس المروج) و(دمعة وابتسامة)، وقصائد رومانسية خالدة في (المواكب)، ورسائل عشق وغرام في (الشعلة الزرقاء)، ورؤى اجتماعية وفلسفية تجلّت بشكل خاص في (التائه) و(رمل وزيد) و(العواصف) و(النبي)، وغيرها إضافة إلى ما يزيد على سبعمئة عمل فني فيها سكتشات وبورتريهات بالرصاص والفحم، ولوحات مائية، وأخرى زيتية، يوجد معظمها في لبنان والولايات المتحدة.
وكما كان جبران متعدداً في إنتاجه الإبداعي فقد كان متعدداً في مرجعياته؛ فقد اطّلع كما يبدو من كتاباته ولوحاته على أساطير الشرق والغرب وفلسفاتهما، وتأثر برؤى كبار الفنانين الذين سبقوه وعاصروه، أمثال: ميكائيل أنجلو وأوغست رودان وليوناردو دافنشي، وقد بلغ مدى تأثير الأساطير بجبران حدّاً جعله يؤسطر لوحاته (ميدوزا مثلاً)، فيما لم يقتصر تأثير دافنشي به على الخطوط والظلال والنور والعتمة، بل إن ذلك التأثير دفعه إلى رسم لوحة بعنوان “الموناليزا الحزينة”، وقد عبّر عن تأثره بروح ذلك الفنان وعبقريته في إحدى رسائله إلى مي زيادة؛ حيث قال:
“ما رأيت أثراً من آثار “ليونردو دافنشي” إلا وشعرت بقوة سحره تتمشى في باطني، بل وشعرت بجزء من روحه يتسرب إلى روحي”.
انتقل جبران إذاً في أدواته من الرصاص والفحم إلى الألوان المائية والزيتية، وانتقل في موضوعه من التخطيطات والبورتريهات إلى اللوحات الكاملة التي تجسّد تلاحم الطبيعة والوجود، وفي الاتجاه الفني تنقل بين التجريدية والكلاسيكية والرومانسية والرمزية وغيرها، وإذا سألت عن السوريالية فإنك واجد أثرها في كتاباته؛ عد إلى (المجنون) واقرأ آياته وتجلياته. وهل هناك بيان أعظم للسريالية من أن يُتّخَذَ المجنونُ كاشفاً للخبث والتحجر والجهل، مدركاً لما وراء حجاب العقل من أسرار؛ ليقدم رؤيته للوجود والحياة والخير والشر والعلاقات الاجتماعية من خلال خمس وثلاثين قصة رمزية، يختمها بخاطرة نثرية؟ ومن قصص “المجنون” نختار القصة التالية:
“قلت مرةً للّعين: ألم تسأم نفسك الإقامة في هذا الحقل وحيداً منفرداً؟
فأجابني قائلاً: إن لي في التخويف لذة لا يُسبر غورها، ولذا فإني راض عن عملي ولا أملّه.
ففكرت هنيهةً ثم قلت له: بالصواب أجبتَ، فإنه قد سبق لي فَخَبرت هذه اللذة بنفسي.
فأجابني قائلاً: إنك واهم يا هذا، فإن هذه اللذة لا يعرف طعمها إلا من كان محشواً بالقش مثلي.
فتركته إذ ذاك، وانصرفت وأنا لا أدري هل مدحني أم تنقّصني.
وانقضى عامٌ صار اللعين في أثنائه فيلسوفاً علّامة. وعندما مررت به ثانيةً رأيت غرابين يبنيان عشاً تحت قبّعته”.
ومثلما فعل جبران في “المجنون” أعاد الكرّة في “النبيّ”، بل كان أكثر أناةً وتركيزاً؛ إذ جاء كتاب النبي بياناً ناصعاً على فلسفة جبران في الحياة، فهو يتضمن خلاصة آرائه في الحب والزواج والبيع والشراء والموت والحياة والأخلاق واللذة والجمال والدين والأخلاق والشرائع، وغير ذلك، وقد جاءت تلك الآراء على لسان نبيّ اسمه المصطفى المؤمن بوحدة الوجود، وبأن الحب هو جوهر الحياة، وبأن الروح تتوق للعودة إلى مصدرها. ومما جاء فيه قوله عن الموت:
“تودّون أن تعرفوا سرّ الموت، فكيف تهتدون إليه إن لم تلتمسوه في السويداء من قلب الحياة”؟
ولكن كيف بدت صورة هذا النبي الذي سمّاه جبران المصطفى في فنّه؟
لقد رسم جبران بنفسه صورة مصطفاه، رسمه كما جاءه في أحلامه، يقول جبران، كما تنقل عنه ماري هاسكل في مذكراتها: “ذات ليلة كنت أطالع كتاباً، وأنا في فراشي، تعبت. توقفت وأغمضت عينيّ… وخلال هذه الغفوة رأيت ذاك الوجه واضحاً وجلياً… ودامت الرؤيا على وضوحها دقيقة ودقيقتين ثم اختفت). و(النبي)، كان محاولة مني لإعادة رسم (وجه يسوع)، وما أكثر ما عانيت في (النّبي). أكون إلى مائدة… وإذا بالوجه يتراءى فجأة. فأرى منه ظلاً، أو خطاً معيناً… فأتمنى الذّهاب الآن إلى المحترف لأضع هذا الخط مكانه في اللّوحة. وأكون أحياناً نائماً، فأستيقظ فجأة، وقد اتّضحت لي تفاصيل جديدة، فأنهض وأرسمه”.
يبدو الوجه الذي رسمه جبران بالفحم على ورقة بيضاء هادئاً تماماً: عينان هادئتان غارقتان في التأمل، وملامح وجه يشعّ منه بياض اليقين، وصفاء الرؤية التي تشي بالقدرة على الصبر، وتفيض بالنور الأزلي الذي يمنح الطمأنينة للناس جميعاً.
ها هنا يختزن الوجه نور القلب أيضاً، وقد امتاز جبران عن كبار الفنانين الذين تأثر بهم بتركيزه على وجه النبي المانح للنور، دون أن يصوّر الجسد كاملاً، وأودع هذا الوجه الصامت الهادئ كل المعاني التي يسعى إلى ترسيخها، لقد اقتنص الوجه في لحظة السكون لا في لحظة الفعل، وقد أتاح له رسم وجه النبي بلا لحية (بخلاف الكثير من لوحات الفنانين الغربيين للأنبياء والقديسين) أن يودع الوجه كثيراً من الملامح التي أشرنا إليها، أو التي قصرنا في قراءة دلالاتها.
:أمثلة
موسى يخلع نعليه عند العليقة الملتهبة
دومينيكو فيتي
الملاك يمنع التضحية بإسحاق
رامبرانت فان راين
تمثال موسى
ميكايل أنجلو
لقد كانت ثقافة جبران تتجسد في فنه مثلما تجسّدت في أدبه، ولا يمكن له إلا أن يكون قد اطّلع على الفن الكنسي الذي كان يعيش آخر أيامه، ولا بد له أن يكون قد اطّلع على (هكذا تكلّم زاردشت) لفريدريك نيتشه، تماماً مثلما اطّلع ألغييري دانتي على “رسالة الغفران” للمعري، فقد قدّم نيتشه موضوعات مشابهة لتلك التي قدّمها جبران بعده، في قالب فلسفي روائي، وإن كان أسلوب نيتشه أكثر تعقيداً، وأصعب فهماً، ولعلّ من الغريب أن نلمس ذلك التناقض بينهما تجاه المرأة، على الرغم من أن الرجلين قد ترعرعا في ظل أم وأخت بعيدَين عن الأب، ذلك أن جبران رأى في المرأة أماً وأختاً وحبيبة، بينما رأى فيها نيتشه مجرّد وسيلة لإنتاج “الإنسان المتفوق”، ومما قاله: “إذا ذهبت إلى المرأة، فلا تنس السوط”.
غير أن التنظير للنبوة والفضيلة لا يجعل من الإنسان نبياً، ولسنا هنا بصدد الحديث عن نيتشه الذي مجّد القوة، بل عن جبران الذي لم يكن قادراً، وهو التوّاق إلى الحرية، على تحمّل عبء قيد الفضيلة، وقد استنكر ميخائيل نعيمة على جبران “أن يصوّر نفسه نبياً حتى تحت نقاب من التمويه الفني”، لأنه كان يعرف أن صاحب كتاب النبي لم يكن نبياً حقّاً، بل كان منغمساً في ملذات جسدية متعددة، حتى في الفترة التي كان يكتب فيها لمي زيادة تلك الرسائل المعطرة بعبق السمو.. لقد كان نبيَّ نفسه كما يشير إلى ذلك أدونيس في الثابت والمتحول؛ إذ يشير إلى أن “الفرق بين النبوة الإلهية والنبوة الجبرانية هي أن النبي في الأولى ينفّذ إرادة الله المسبقة الموحاة، أما جبران فيحاول، على العكس، أن يفرض رؤياه الخاصة على الأحداث والأشياء”.
لقد تأثر جبران بكل من قرأ لهم، وبكلّ من تأمل لوحاتهم، ولكنه كان مختلفاً، لأنه لم يكن مشغولاً بالمحاكاة والتقليد، بل بالإبداع والتجديد؛ وقد كان هاجسه الحرية التي تتفلت من أي مذهب أدبي أو فني، ولم يكن مقيّداً بأية قواعد سوى قاعدة الحرية التي ارتضاها لنفسه، من خلال تأسيس الرابطة القلمية مع عدد من الأدباء في نيويورك عام 1920، ومنهم ميخائيل نعيمة ورشيد أيوب وعبد المسيح حداد وإيليا أبو ماضي وآخرون، وهي جمعية أدبية كان هاجسها الحرية، وتخليص الأدب العربي مما علق به من شوائب التكلّف والتعقيد، والحث على التجديد في الأساليب الشعرية، وتلبية توق الإنسان إلى الحب والموسيقى، والإفادة من الطبيعة وتأملها، والعمل على ترسيخ الحقيقة والخير والجمال.
لقد أمّنت هذه الحرية شهرة واسعة لجبران؛ إذ استطاع من خلال موهبته أن يلفت إليه الأنظار من خلال وقوفه على الحدّ الفاصل بين الشرق والغرب؛ فقد كان روحانياً أكثر مما يحتمل الغرب، ومادياً أكثر مما يحتمل الشرق، وقد تبدّى ذلك في لوحاته أكثر مما تبدى في كتاباته؛ إذ نجد في تلك اللوحات كثيراً من العري الذي يعلله جبران بالسعي إلى الاتحاد بالطبيعة، فيقول على لسان المصطفى: “إن ثيابكم تحجب الكثير من جمالكم، ولكنها لا تستر غير الجميل. ومع أنكم تنشدون بثيابكم حرية التستر والانفراد، فإنها تقيدكم وتستعبدكم. ويا ليت في وسعكم أن تستقبلوا الشمس والريح بثياب بشرتكم عِوَضاً عن ثياب مصانعكم؛ لأن أنفاس الحياة في أشعة الشمس، ويد الحياة تسير مع مجاري الرياح”.
فإذا نظرنا إلى العري في لوحاته وجدناه يخدش حياء الشرق، ويلامس روح الغرب، لأننا إذا دققنا النظر في هذا العري في كثير من لوحاته وجدنا كائنات هيولية (أنثوية غالباً) لا تفاصيل فيها، وكأنها كائنات لا جنسية تشبه تصورات اللوحات الكنسية للملائكة، أي أن الشرق المتزمت رأى في لوحات جبران جنوحاً نحو المادة بينما رأى الغرب فيها تحليقاً في سماء الروح، وعند ذلك الحد الفاصل طارت شهرة جبران من الغرب إلى الشرق، لتضعه الصبايا تحت وسائدهن، وليقف في وجهه رجال الدين مثل علي الطنطاوي الذي رأى أن أسلوبه الجميل يسلب المرء إيمانه.
لقد أمّن التمركز على ذلك الخيط الرفيع شهرة عالمية افتقدها كثير من كتّاب الشرق الذين لم يكن أسلوبهم يقلّ روعة عن أسلوب جبران، ولا ينقصهم سمو الروح في كتاباتهم، ولعلنا نشير بشكل خاص إلى مصطفى صادق الرافعي الذي أعلى من شأن الروح أيّما إعلاء، ولكنه لم ينل شهرة جبران العالمية؛ لأنه ابن الشرق، ولأنه كان يبيع الماء في حارة السقائين، بينما باع جبران ماءه في حارة الذين يبحثون عن قطرةٍ من ماء الروح.
أمّا فيما يتعلق بصورة النساء في حياة جبران وأدبه وفنّه، فقد عاش جبران حياته بين النساء منذ الطفولة، في ظلّ غياب الأب الذي تقول عنه كثير من المراجع إنه كان سكّيراً عربيداً يلعب القمار ويعامل أسرته بقسوة، وهذا ما أثّر في حياة جبران إلى حدّ كبير، وجعله ينتقل من حضن نسائي إلى آخر، بحثاً عن دفء الروح الذي افتقده تباعاً بعد وفاة أخته ثم أمه.
وقبل أن ننتقل إلى الحديث عن نساء جبران نود أن نشير إلى بعض الشكوك التي يمكن إبداؤها حول حقيقة الأب الذي يكنّ له جبران احتراماً وتقديراً؛ إذ يقول عنه: “لقد أُعجبت بقوته وصدقه ونزاهته، حيث كان يتغلب على من حوله بكلمة. لقد كانت جرأته وصراحته ورفضه التنازل سبباً في إيقاعه في مشكلة في النهاية”.
كما يمكننا الاستناد في شكوكنا إلى قصة “خليل الكافر” من مجموعة “الأرواح المتمردة” وهي قصة تفضح نفاق بعض الرهبان وفساد دينهم، إذ يطردون خليلاً من الدير؛ لأنه لم يستطع السكوت عن حقه، مثلما فعل الآخرون، ويستطيع في النهاية أن ينتصر، مؤازَراً بالناس الذين التفوا حوله، وبالنص المقدّس الذي واجه به المنافقين من تجار الدين.
ويبدو لنا من خلال تضافر قول جبران وقصته أن بطل القصة، واسمه خليل على اسم أبيه، يشبه والده في الاستعداد لمواجهة الخطأ، مهما كلف الثمن، بخلاف أسرته التي كانت ميالة إلى البحث عن راحة البال ودعة العيش، ولو كلفها ذلك الهجرة بعيداً عن ذلك الأب المشاكس.
عاش جبران علاقات عاطفية مضطربة في أمريكا وخارجها، وارتبط بما يزيد على عشر نساء، ارتباطاً أمومياً أو عشقياً أو مثالياً، من سلطانة ثابت وماري قهوجي وحلا ضاهر إلى جوزفين بيبودي وماري هاسكال وصديقتها إميل ميشل (ميشلين)، إلى شارلوت تايلر وكورين روزفلت، وبربارة يونغ، وصولاً إلى مي زيادة، ذلك الحب الذي خلّده الأدب.
تبدو الأمّ في لوحة جبران شديدة الرومانسية، إنها المرأة الضعيفة التي لا تتخلى عن واجب الحماية، فها هي ذي في لوحة (صورة العائلة) تحتضن طفلها، وتؤمن الحماية له، ولمن شبّ عن الطوق، في حين يبدو وجهها كسيراً حزيناً، ولكنه يوزّع الرضا والطمأنينة على من حوله. بينما تبدو في لوحة (والدة الفنان) ضعيفة وحزينة، ومتضافرة مع حزن مستمد من صراخ لبؤة محتضرة في خلفية الصورة.
وإذا كانت الأمومة تعني الاحتضان والحماية فإن شخصية مثل ماري هاسكال تكاد تنتزع هاتين الصفتين من كاميليا رحمة (أم جبران)؛ إذ التقى هاسكل عام 1904 بُعيد وفة أمه، فكانت الراعية الرسمية لقلب جبران وفنه وطموحاته: تحبه، وترعاه، وترسله لدراسة الفن في فرنسا، وتحرّر له كتبه التي كتبها بالإنكليزية، وترث لوحاته، فترسل معظمها إلى لبنان.. من هنا يبدو خطاب جبران إلى هاسكال: “أقبّل يدك بأجفاني يا أمّ قلبي العزيز” متماسكاً ومفهوماً، وقد بدت هاسكال في عدة لوحات رسمها جبران، منها لوحة “أربعة وجوه”، بينما أطلّت ظلالها في لوحات أخرى، تبدو فيها امرأة (كاسية أو عارية) تمدّ يدها إلى مجموعة من العراة (فاقدي الدفْء) الذين ينتظرون منها العون والدفْء والبركة.
غير أن لوحة محددة تلفت النظر في هذا المجال، هي لوحة تتضمن ثلاثة عناصر أساسية: جبران والمرأة والكرة البلورية.
المرأة ها هنا هي هاسكال، والكرة التي تحملها هي كرة الأمنيات التي نعرفها في الأساطير، أو هي مصباح علاء الدين الذي يمسحه جبران حين يشاء، فيُخرج له المارد نقوداً ومعارض وحبّاً غامراً. ولكن لماذا يشيح جبران عن هذه المرأة؟ ولماذا لا تبدو ملامحها بوضوح ملامحه؟ ولماذا هي خلفه وليست إلى جانبه؟ لعلّ ذلك يعود إلى عدم رغبة جبران في الارتباط بمنظومة مؤسساتية أسرية تحدّ من تحركاته، وتغلّ من حريته. وهنا نجد أنفسنا في مواجهة أخبار تقول بأن جبران عرض الزواج على هاسكل التي ترددت في قبول عرضه ثمّ رفضته؛ ذلك أن اللوحة تقول ما يناقض هذا الخبر، “ولم تكن ماري تجهل ما في نفس جبران من قلق، فآثرت أن تعيش معه صداقة متينة، على أن تعيش معه حبّاً ما أسرع أن ينفض جبران يده منه”.
ولا نريد هنا أن نمضي أكثر في أشكال تقصّي تجليات صورة المرأة في فن جبران، غير أننا لا بدّ أن نقف عند محطتي “سلطانة ثابت” و”مي زيادة”؛ وربما كانت سلطانة ثابت هي الحب العذري الوحيد في حياة جبران؛ إذ تدخّل القدر ليضع حدّاً له؛ إذ شغف جبران بتلك الأرملة الشابة، وبادلها الرسائل، وقابلت رسائل شغفه بحيادية في أثناء حياتها، وناقشته في شؤون الشعر والأدب، ولكنها ماتت بشكل مفاجئ، بعد أربعة أشهر من صداقتهما، لتترك بعدها سبع عشرة رسالة في العشق لم تجرؤ على إرسالها إلى جبران.
لقد تركت سلطانة ثابت ظلالها في أكثر من لوحة من لوحات جبران؛ إذ برزت صورتها في كل حبّ مقهور، وفي كل أنثى مهيضة الجناح، كما برزت آثار عشقها في روايته “الأجنحة المتكسرة” التي تعاني فيها الأنثى (سلمى كرامة) بطش الشرق، وتموت على مذبح الحب العذري. أمّا مي زيادة التي لم يشتطّ خيال جبران كثيراً في رسمها؛ فقد حاول، من خلال كتابة رسائله، ومن خلال نشرها لاحقاً في “الشعلة الزرقاء”، أن يحافظ على صورة له في مخيلة مي، وهي صورة الفارس العاشق النبيل، حتى حين كان غارقاً في ملذاته.
ولأننا في الشرق مولعون بنسج الحكايات فقد رحنا نتصور عشقاً عذرياً طاهراً بريئاً يحمله كل منهما للآخر، في حين أنّهما كانا على طرفي نقيض: مي، على الرغم من إحاطة المعجبين بها (مثل الشيخ مصطفى عبد الرازق والكاتب عباس محمود العقاد والشاعر ولي الدين يكن)، كانت تعشق جبران حتى ثمالة القلب، غير أنها أرادت أن تكون سيدة القصر في قلبه، لا أن تكون محظية بين محظياته، وأما جبران فقد عاش لفنه وحياته، وتركها بعد موته فريسة للوحدة والجنون.
جبران الذي كان واضحاً وثابتاً في عشقه للطبيعة، كان غامضاً ومضطرباً في عشقه للنساء، إنه في نهاية المطاف رجلٌ يخلص لنفسه ولرؤيته تجاه الحياة، ولعلّ أصدق وصف ينطبق عليه هو قول الشاعر نزار قباني:
مارستُ ألف عبادة وعبادةٍ.. فوجدت أفضلها عبادة ذاتي
كل الدروب أمامنا مسدودةٌ.. وخلاصنا في الرسم بالكلماتِ
المراجع:
• أدونيس: الثابت والمتحول، الجزء الثالث ـ صدمة الحداثة، دار الفكر، بيروت، 1986.
• جبران خليل جبران: الأرواح المتمردة، دار العرب، القاهرة.
• جبران خليل جبران: الشعلة الزرقاء (رسائل جبران خليل جبران إلى مي زيادة)، تحقيق: سلمى الحفار الكزبري ود. سهيل بشروني، مؤسسة نوفل، بيروت، ط2، 1984.
• جبران خليل جبران: المجنون، ترجمة: أنطونيوس بشير، دار العرب، القاهرة، 1985.
• جبران خليل جبران: النبي، د. ثروت عكاشة (ترجمة موازية للنصين الإنجليزي والعربي، دار الشروق، القاهرة، ط9، 2000.
• ميخائيل نعيمة: جبران خليل جبران، مؤسسة نوفل، بيروت، الطبعة الثالثة عشرة، 2009.
• ميخائيل نعيمة: الغربال، مؤسسة نوفل، بيروت، الطبعة 15، 1991.
• نزار قباني: الأعمال الشعرية الكاملة، منشورات نزار قباني، بيروت.
• نزار بريك هنيدي: هكذا تكلّم جبران، الهيئة العامة السورية للكتاب، وزارة الثقافة، دمشق، 2022، ص15.
• واسيني الأعرج: مي.. ليالي إيزيس كوبيا”، بردية للنشر والتوزيع، القاهرة، ط2، 2018.
المراجع الإلكترونية:
• فراس حج محمد، ومادونا عسكر: لوحة النبي لجبران خليل جبران، موقع ديوان العرب:
• https://www.diwanalarab.com/
• موسوعة ويكيبيديا.
د. يوسف حطيني