في الليلة الأخيرة بعد مائة وسبع وثلاثين ليلة سابقة قضيتها بين أقبية سجن الدامون الباردة وزنازين الجلمة القاسية، لم أتمكن من النوم. تقلبت يمينًا ويسارًا على سريرٍ استضافني طوال أشهر، واستضاف أخريات ربما سنوات. وتأملت الغرفة من حولي، تلك الجدران المهترئة التي ضحكت عليها ساخرةً، متسائلة: كيف سأودعها بعد سويعات؟! صدأ الحديد الملتوي على الأقفال بدا لي أثقل من أي وقت مضى، والهواء الذي كان ينهش أجسادنا من شبابيك الزنازين كأنه يودعني بآخر طعناته.
كنت أفكر بلحظة اللقاء بوالدتي، كيف سأحتضنها؟ كيف ستكون أولى لحظاتي مع صديقتي المفضلة؟ ومع عائلتي وأصدقائي وأحبتي؟ ولكن كان هناك ما يؤلمني أكثر: أنني، رغم كل هذه اللحظات المنتظرة، لن أتمكن من لقاء والدي الذي كان يزورني في الأحلام طوال فترة الأسر.
فكرت كثيرًا في العلاج الذي طال انتظاره، وأنا أردد شعاري: “ما زلت على قيد الحياة”. تذكرت دراستي التي تركتها في منتصف الطريق، لأجد نفسي الطالبة الأسيرة المريضة بين أربعة جدران سوداء. فكرت في رفيقاتي اللاتي شاركنني تجربة قاسية، ولكنهن حاولن بكل حب أن يهوِّنَّها عليّ. كيف سأودعهن؟ أفكار كثيرة غزتني، ولم أجد للنوم طريقًا إلا بعد صلاة الفجر، وأنا أدعو الله أن ترافقني قلوبهن الطيبة إلى بيتي.
بعد ساعات، نادى السجان باسمي. تم فك القيود الحديدية عن يديَّ وقدميَّ شفهيًا، تاركةً خلفها ندوبًا لا تُمحى. حينها استرجعت لحظات طويلة كنت أسير فيها مكبّلة في المحاكم والمستشفيات. ودّعت رفيقاتي بعيون دامعة وقلوب مثقلة، نظرت إليهن وقلت بصوتٍ مرتعش: “أحبكنّ كثيرًا”.
غادرت قسم الأسيرات وتوجهت إلى غرفة صغيرة، هي ذاتها التي شهدت أولى لحظات انتقالي إلى سجن الدامون بعد تحقيق الجلمة المرهق. جمعت معي بعض الهدايا والرسائل التي أعدّتها رفيقات الأسر لعائلاتهن، لكن الضابط لم يعجبه ذلك، فألقى بها في سلة المهملات أمام عينيّ. لم يخرج معي سوى دبدوب صغير صنعته بنات غرفتي في يوم ميلادي، ورسمتان وقطعة قماش كتبت عليها: “أثر الفراشة لن يغيب”.
ثم انتقلت إلى “البوسطة”؛ تلك الزنزانة المتنقلة التي تشبه الثلاجة، شديدة البرودة. طلبت مرارًا وتكرارًا إطفاء جهاز التكييف، ولكن دون جدوى. وصلت إلى حاجز سالم غرب جنين، حيث كانت عائلتي وأصدقائي ينتظرون بفارغ الصبر. لكن الاحتلال لم يكتفِ بتعذيبي طوال الأشهر الماضية؛ أراد أن يجعل من لحظة الحرية معاناة جديدة.
بدلًا من السماح لي برؤية والدتي فور فك القيود عن يدي، نُقلت إلى حاجز الجلمة شمال جنين. لم أكن أعلم أين وطأت قدماي، لكنني رأيت العمال الفلسطينيين العائدين إلى منازلهم. اقتربوا مني مهنئين بسلامتي، وداعين لي بالشفاء. استعرت هاتف أحدهم، واتصلت بعائلتي بعد أن سألتهم عن مكاني.
في تلك اللحظة، بدأت أفقد تركيزي. لم أكن أدرك أنني أصبت بجلطة دماغية منذ ساعات قليلة. عندما وصلت عائلتي، كان الوضع قد تفاقم. بدأت أفقد قدرتي بالتعرف على بعضهم. بكيت بحرقة، بكيت ما لم أستطع أن أبكيه طوال الأشهر الماضية.
ومنذ تلك اللحظة، يظل سؤال واحد يلاحقني: من الذي اخترع السجن؟ من الذي اخترع الأقفال والأسوار الحديدية والعتمة؟ تلك العتمة التي كانت تخيفني، والحرمان من الدواء الذي أودى بعيني اليمنى. هل سيعود نظري بعد الحرية؟ حرية ما زلت أستغربها، حتى بعد انقطاع السلاسل عن يدي.
رحلة العذاب الأخيرة – سجن الدامون
الأسيرة المحررة الإعلامية دينا جرادات