الساعة تشير إلى العاشرة ليلا
شوارع خالية وسماء ماطرة وأعمدة بها أنوار خافتة ورياح غاضبة ونوافذ مغلقة وقلوب معلقة وأناس حول المدافئ حالمة كان يجوب تلك الشوارع البائسة الباردة ويلف معطفه حوله ليقي جسمه برودة العواصف والعواطف فقد اتحدت ضده جميعها مثل باقي البشر الذين أصبح لديهم قلوب كالحجر وبقي يلتفت يمنة ويسرة يبحث عن مكان يأوي إليه وبعد أن نال منه التعب وجد بيتا مهجورا فجلس في ركن من أركانه وكان هو وذلك البيت بينهما شبه فقد بث كل منهما لصاحبه لوعة الهجر والغدر من الأحباب فالبيت يشكو إليه غدر من سكنوه وتركوه ورحلوا لمكان أجمل وأرحب وهو صار مأوى للحيوانات والمتشردين وعوامل الطبيعة من أمطار ورياح تفننت في تحطيم كل جميل فيه من أبواب ونوافذ وحتى الجدران تآكلت بعدما تعاقبت عليها السنون حتى انطمست معالمه ولم يعد كما كان ولم يبقى له سوى ذكرى لأناس كان يضمهم بين جدرانه وكانت ضحكاتهم تتعالى بين ثناياه فقد شاركهم أفراحهم وأتراحهم وكان يشعر بدفء مشاعرهم ولكن لا أحد كان يشعر أو يظن أن للبيت روح كما لهم أرواح وتتأثر كما يتأثر ساكنوها فلو كان الناس يشعرون بمشاعر منازلهم لما غادر أحد منزله أو ابتعد عنه أو باعه لأحد غيره فالبيت كلما أطلت المكوث فيه صارت فيه روح كروح من يسكنه ويصير لديها إحساس وذكريات
ثم سمع ذلك المشرد أزيزا صادرا من ذلك البيت المهجور فظن أنه بفعل الرياح هي من أصدرت تلك الأصوات ولم يكن سوى بكاء ونحيب ذلك البيت بسبب الشوق والحنين لأحبته الذين كانوا فيه
فخاطب ذلك المشرد جدران ذلك البيت وقال أنا كذلك كان لدي بيت يأويني ولي فيه ذكريات من ضحكات وليال من الحب والسمر وأحبة أو كنت أظنهم أحبة من أهل وإخوة فلم أجد منهم سوى الخيبات ولم أجد في مقابل تلك المحبة سوى النكران والقسوة فقد جردوني من ذلك البيت وكل ما أملك فانكسرت روحي ولم يجد أي أحد يجبر روحي المنكسرة فبقيت هائما على وجهي أجوب البلاد وادور في الأزقة والحارات وكلما رآني إنسان اشمأز مني وهناك من يزجرني ويزدريني وهناك من يقوم بسبي وشتمي كأنني حيوان وليست بإنسان فأنظر في وجوه هؤلاء الناس ولا أفهم السبب فأطأطأ رأسي وأغادر لأبحث لي عن مكان يأويني ولا يكون فيه من يؤذيني فكنت في عديد المرات أفترش الأرض وألتحف السماء وأضع رأسي بين يدي وأضم إلي ركبتي وأبدأ في البكاء حتى أخفف ما في نفسي من بؤس وشقاء
فتهتز جدران ذلك البيت كانه يفهم ما يقول فيستلقي ذلك المشرد فوق الأرض ويغط في نوم عميق لا ينهض منه أبدا فيخاطبه ذلك البيت ويقول له فل تبقى رفيقي وأنيسي للأبد فأنا لن أغدر ولن أخون وبقي ذلك البيت وذلك المشرد متعانقان فقد كانا ميتين هما الإثنين.
الكاتب مصطفى مسلم