المثير والاستجابة في قصة ” امتياز بلا قيمة” للأديب مدحت شنن نقد قصصي ل د. سعيد محمد المنزلاوي

تأتي (أثار) في معاجم اللغة لتدل على الثورة والهياج؛ إذ لابد في المثير من فاعل ودافع ومحرض ومغرٍ بالفعل. ومن ثمَّ كانت الاستجابة كرد الفعل لذلك المثير وطاعته فيما دعا إليه([1]). والتفاعل بين المثير والاستجابة هو الذي يبرر لنا أفعال الشخصية. وتخضع قصة “امتياز بلا قيمة” لتلك الثنائية؛ فيفتتح الكاتب قصته بهذا المشهد الفرائحي “تعالت الزغاريد في منزل مجاهد الكلاف حين نجح ابنه منصور في الجامعة بتقدير امتياز مع مرتبة الشرف” ويختزل هذا الاستهلال عناصر السرد، ويكفي أن يذكر الكاتب مهنة الوالد (مجاهد الكلاف) لنتصور ملامح المنزل، كما يتكشف جانب مهم من جوانب الشخصية الرئيسة، فمنصور أحد أبناء الطبقة الدنيا، تفوق في دراسته، وهذا التفوق كفيل بأن يغير مسار الأسرة، فالوالد “كان أسعد الناس بتفوقه بعد أن قضت المصاريف على مدخرات الأسرة وأحاطهم الجدب من كل اتجاه لكنه شعر بأن شقاه لم يتبدد وجلس بين أقرانه والفرح متجليا في قسمات وجهه، متفاخرا بما حققه ابنه من إنجاز سيحيله إلى وظيفة مرموقة تليق بشهادته التي اجتهد من أجل الحصول عليها”. فلابد أن الفقر كان مثيرًا وكانت استجابة منصور أن يهزم هذا الفقر بتفوقه. وقد عبر اسم كل من الوالد وابنه (مجاهد ـ منصور) على ما بذله الوالد مع ابنه الذي لم يخذل والده، فتفوق، وأعد نفسه لوظيفة مرموقة تَجبر وضعًا اجتماعيًّا متدنيًّا لأسرته. “حتى فتح باب التقدم، فاشترى بدلة متواضعة لكنها كانت أفضل من ملابسه التي لا تصلح لمثل هذه المقابلات.”، البدلة الجديدة استجابة للوظيفة الجديدة، ولكن البدلة (متواضعة) كتواضع عائلته، بينما المقابلة لوظيفة مرموقة. وهذه المفارقة تفض بكارة المفاجأة، ولا يمهلنا الكاتب حتى يضعنا أمام مفارقة أخرى “توجه إلى حيث المبنى العريق القابع على ضفاف النيل، فكان أول المتقدمين شكلًا وموضوعًا. ثم جلس بين زملائه ينتظر دوره في الدخول على اللجنة، وأخذ يقدح ذهنه ويسترجع معلوماته، وكلما دخل زميل له، تاقت نفسه لمعرفة ما يدور وراء الباب الموصد”، وتحمل هذه الفقرة جملة من الإشارات التي تضيء النص، وتنسج خيوط الحبكة؛ فالمبنى عريق، ومنصور أول المتقدمين شكلًا وموضوعًا، وهو مؤهل لتلك الوظيفة بشهاداته ومعلوماته، ولكن هل هذه هي كل متطلبات تلك الوظيفة المرموقة. إن شيئًا من المجهول يتوارى خلف الباب الموصد. ويأتي هذا المثير ليقحمنا في ذروة الأحداث ” حتى سمع صوت الحاجب ينادى باسمه، فدخل فألفى نفسه في مواجهة أناس من عالم آخر غير عالمه الذي اعتاد عليه، أجفانهم منتفخة وعيونهم محتقنة متسمرة في الأوراق الموضوعة أمامهم، ومزاجهم معتكر، وبين الحين والآخر يرمقه أحدهم بنظرة خاطفة وجبين مقضب”. تلك الأوصاف للجنة المقابلة تهيئ للخاتمة، والتي باتت واضحة “كانت أسئلتهم مختصرة، لا علاقة لها بتفاصيل الوظيفة، أو المعلومات المتعلقة بها، وشعر بكآبة تثقل قلبه نتيجة نظراتهم المستريبة، لكنه كان مرغما على الإجابة التي كانت موءودة بسؤال آخر تحمله نظرة استنكار من عيون تملؤها حدة”. والتي جاءت ترجمة للعنوان، والذي جاء سافرًا كاشفًا في غير عناء عن مضمون القصة، والذي انكشف في يوم النتيجة حين ” وقف أمام كشف المقبولين ولم يكن منهم ” وتكشف كلمة (المقبولين) عن ملمح مهم من ملامح شخصيته، فهو شخصية حالمة، وشخصية هذه صفتها شخصية غير مرنة، لا تقوى على المواجهة، ولا تحسن التكيف مع الواقع، فقد كان حلم الوظيفة حلمًا للأسرة كلها وليس لمنصور وحده، فعندما نجح منصور ” كان الأب مستعدًا بتحويشة العمر، فذبح كبشا نذرًا وكرمًا ليأكل الأهل والجيران، وجاء العمدة مهنئا وأطلق عشرات الأعيرة في الهواء، وسط هدير الطبول ونغمات المزمار التي أشاعت جوًّا من البهجة على قلوب تجرعت الوجع، حتى انسدلت أستار السماء، وانصرف الناس ليتركوا الأسرة تعيش مع حلمها الذي تحقق بعد طول كفاح.”. إن الحلم تجاوز فرديته، ليكون حلمًا جماعيًّا لا يخص منصورًا وحده أو أسرته أو حتى قريته، إنه حلم الطبقة الكادحة في أن تنال حظها كالطبقات الراقية. ولكن قرار اللجنة كان مخيبًا للآمال ومحطمًا الأمل الذي عاشت له الأسرة الفقيرة، بل إن الفقر كان هو السبب المباشر في الرفض “سأل عن السبب فكان الرد واضحا بأنه غير لائق اجتماعيًّا، ومثل هذه الوظائف لا ينالها إلا أبناء الكبار”. جسدت صدمة الرد أزمة الشخصية “كجبل شاهق، حين أحاله الإخفاق إلى ذلك الحاجز العنصري الذي لا يمكن تجاهله أو تفاديه مهما اجتهد”، وقام الصراع داخل الذات المنهزمة العاجزة ” قطع الطريق ينهب الأرض بخطوات مسرعة، نحو غاية لا يعرفها وفي لحظة أدرك أنه لا يعرف نفسه، ولا قريته التي رآها موطنا للأشباح أو قبرًا للأموات ليس أكثر” واستدعى معه ماضي الشخصية “وبدأ شريط العمر يتراءى أمامه بمشاهد والده بتجاعيد وجهه المغبر بلون التراب، وعظامه البارزة وأنامله المعروقة وبشرته المغضنة وخده الهضيم وشعره الأشيب، وهو يمسك الفأس بيدية التي تشققت من العمل، والعرق يتفصد من جبينه ليبلل وجنتيه التي حفرت فيهما قسوة الزمن ملامحه. ورويدًا رويدًا صارت أحداث حياته خلفه، وبدأ يحس بأن أواصره مع العالم تتآكل”. وعلى عكس الافتتاحية الفرائحية ختمت القصة بذلك المشهد “وبدأ يسرح في عالم آخر، وينظر إلى صفحة الماء المتدفق من تحته وكأنه ينظر إلى فراغ. ترتجف شفتاه ويتمتم بكلمات غير مفهومة، وقد صمت أذنيه عن ضجيج الدنيا التي لم تسعفه ولم تفتح له يوما ذراعيها. وفجأة … رمى نفسه يحتضن الماء” إن الذات حين فقدت حلمها في واقعها وعالمها الجائر، تاقت لعالم آخر؛ ليسدل على الحلم ستارًا صفيقًا ملخصًا معاناة الذات في آخر كلماته: «منصور ابن مجاهد الكلاف عمره ما هيكون بيه!»، والتي تحكي انكسار الذات أمام مرآة الآخر، تلك المرآة الصدئة التي لا ترى شيئا.  فقط أكلشيهات جاهزة، وعنصرية تبدد أحلام شباب غض يريد أن يكون شيئا لنفسه ولذويه ووطنه، ولكن تتسلط عليه حماقات الآخر لتتفتح عينه على حقيقة حاول طمسها ولكن عبثًا لأنها منحوتة في الصخر. تلك المناصب الرفيعة للصفوة من أرباب المال والنفوذ، وليبتلع النهر سوأة الفقراء فأحلامهم وهم وسراب.


([1]) المعجم الوسيط، مادة (ثور)، ص102، ومادة (جوب)، ص145.

د. سعيد محمد المنزلاوي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *