السؤال الذي يؤرق الجميع: لماذا لم يستطع بايدن أن يضع حداً لسياسة نتنياهو العدوانية تجاه الشعب الفلسطيني ولم يضغط عليه لوقف الحرب؟ إن العدوان الإسرائيلي مستمر منذ أكثر من ١٠ أشهر، لم تتخذ إدارة بايدن قراراً يجبر نتنياهو على وقف الحرب والقبول بصفقة تضمن من خلالها عودة الأسرى الإسرائيليين، على الرغم من كل الضمانات والوعود التي قدمها الرئيس الأمريكي بضمان أمن إسرائيل وتزويدها بكافة الوسائل والإمكانات التي تحقق لها التفوق.
الجواب سيكون على الشكل الآتي:
ثمة خلاف جوهري بين بايدن ونتنياهو، لا خلاف عقائدي؛ فالاثنان يدافعان عن مصلحة إسرائيل، بل على شكل ومستقبل المنطقة ككل ضمن منظور الإدارة الأمريكية لمنطقة الشرق الأوسط الكبير. وخاصة بعد التحول الكبير الذي فرض على أمريكا معادلة جديدة: ملء الفراغ بدلا من محور المقاومة التي تقوده إيران في المنطقة كمناؤى للوجود الأمريكي ومناهض لسياسة أمريكا. وهذا ما أكدته الجملة التي قالها الرئيس بايدن بعد عملية طوفان الأقصى البطولية حين قال: “لو لم تكن إسرائيل كان لزاماً علينا إيجادها أو خلقها.”
قد يحاول بعض الصحفيين الأمريكيين التقليل من أهمية هذه الجملة، واصفين بايدن بالعجوز الخرف. ومع ذلك، تجدر الإشارة إلى أن بايدن قال هذه الجملة قبل ٤٠ عاماً في العاصمة الإندونيسية جاكرتا. هي سياسة واستراتيجية تعلمها في مدرسة الحزب الديمقراطي الذي ينتمي إليه.
الوجود الإسرائيلي كدولة ديمقراطية بين دول مستبدة، على زعمهم، مهم جداً لحماية المصالح العليا للولايات المتحدة الأمريكية. تحظى منطقة الشرق الأوسط باهتمام الولايات المتحدة منذ ما قبل الحرب العالمية الثانية. تحرص الولايات المتحدة على إبقاء المنطقة في حالة حرب مستمرة؛ فعندما تنتهي حرب، تبدأ أخرى. منذ قيام الكيان الصهيوني على أرض فلسطين التاريخية وحتى الآن، تظل المنطقة تحت المجهر الأمريكي.
ان هذه السياسة الخارجية الأمريكية هي من صنع تيار المحافظين الجدد. المحافظون الجدد هم مجموعة من الكّتاب والصحفيين من أصول يهودية. لقد شكلوا تيارًا فلسفيًا سياسيًا متشددًا، يظهر في ظاهره ليبراليًا حديثًا، لكنه في حقيقته يعبر عن عقيدة يمينية متطرفة. ظهر هذا التيار خلال فترة الحرب الباردة بين الولايات المتحدة وروسيا. كانوا من أشد المتطرفين في تناول موضوع الحرب الباردة، بل إنهم أيدوا إسرائيل بوصفها دولة حضارية يجب أن تبقى في منطقة الشرق الأوسط كدولة مهيمنة مسيطرة على شعوب المنطقة. لا يهم إذا أزهقت لهذه الغاية أرواح الآلاف، وهم ملتزمون تجاهها بالدعم العسكري واللوجستي. وأن من حقها القيام بحروب وقائية لضمان أمنها وسلامة أراضيها.
كما أن الولايات المتحدة تمثل قوى الخير في العالم، بوصفها قوى عظمى تحكم العالم من خلال زيادة التسليح والإنفاق على الجيش الأمريكي، لضمان الحفاظ على هذه المكانة التي تخولها دون الرجوع لمجلس الأمن التدخل في سياسات الدول والشؤون الداخلية وتغيير الأنظمة إذا شعرت أنها تهدد مصالح الولايات المتحدة الأمريكية.
من أهم المفكرين الذين يعتبر لهم الفضل في التأثير على السياسة الخارجية والداخلية للولايات المتحدة الأمريكية وإرساء مبدأ “يجب أن يفكر الرئيس دوماً بالحرب وأن لا مجال للحل السلمي وإتخاذ منهج العنف كمحرك أساسي لهم لإحكام السيطرة على السياسة الداخلية الخارجية “، من أبرز المفكرين أرفينغ كريستول، هو عراب التيار. نشر العديد من المقالات والأفكار التي أصبح التيار يستلهم منها توجهاته، ونجح في التغلغل في السياسة الأمريكية والوصول لصناعة القرار. كما يعتبر الأب الروحي لهذا التيار، فأسس عام ١٩٦٥ صحيفة المصلحة العامة. عُرف عنه بأفكاره المتشددة ونظرته الحادة إزاء الاتحاد السوفييتي، على الرغم من أنه يساري، لكن عقيدته اليمنية المتطرفة تحكمت لأفكاره ونهج العنف غلب عليها من خلال دعمه المطلق لقيام دولة الاحتلال على أرض فلسطين.
استمر تيار المحافظين الجدد بالتأثير على أصحاب القرار وتشكيل الرأي العام لغاية ثمانينيات القرن الماضي. بحلول الوقت، انضم معظم المحافظين الجدد للحزب الديمقراطي. كما انضم أيضاً بعض الجمهوريين الذين انتقدوا السياسة الأمريكية آنذاك بأنها يجب أن تكون أكثر حدة وعداءً للاتحاد السوفييتي.
مع وصول الرئيس الأمريكي رونالد ريغان، وجد المحافظون الجدد في شخصه السبيل الوحيد لمناهضة الأفكار الشيوعية من خلال موافقته الجريئة على العلن وخطاباته، وزيادة الإنفاق والتسليح للجيش الأمريكي، والدعم المطلق لإسرائيل. وجودها ضروري كقوة مهيمنة مسيطرة على الشرق الأوسط الكبير.
لقد استطاع المحافظون الجدد التأثير على سياسة الولايات المتحدة واتخاذ قرارات الحرب والسلم، خاصة بعد تفكك الاتحاد السوفييتي وانتهاء الحرب الباردة. ازدادت شعبيتهم ووصل مؤيدوهم إلى مناصب عليا، مثل ريتشارد بيل الذي شغل منصب مساعد وزير الدفاع، ورونالد رامسفيلد، وكولا باول، وكونداليزا رايس، صاحبة نظرية الفوضى الخلاقة. هذه النظرية تدعو لوجود خطر دائم للولايات المتحدة، مما يبرر استخدام العنف لحماية أمنها وسلامة أراضيها.
قيادة العالم بمنهج العنف لا بالأخلاق. وأن الرئيس يجب أن يتخذ قرار السلم فقط للاستراحة والتنفس، وأن المنطقة يجب أن تكون مجزأة مفككة فيها كنتونات وحروب طائفية وصراعات قبلية، وأن إسرائيل أقوى دولة في المنطقة. وهذا ما حصل بالفعل.
ولكن عملية طوفان الأقصى البطولية التي قادتها المقاومة ومن وراءها من محور مقاوم أفشلت هذا المخطط، شكلت نقطة تحول استراتيجي في الصراع العربي الصهيوني وتهديد مصالح الولايات الحيوية في المنطقة، وخاصة في منطقة البحر الأحمر. الإسناد اليمني المبارك جعل جو بايدن ينظر إلى منطقة الشرق الأوسط بقلق، وخاصة أن سياسته الخارجية كسابقه أوباما اتصلت بالتوازن، قوضت سيطرة المحافظين الجدد ووضعت حد لتأثيرهم في السياسة الخارجية، وخاصة بعد الانسحاب من أفغانستان والعراق.
نجد أن الشرخ يتعمق والخلاف يزداد على إدارة منطقة الشرق الأوسط. هل سيكون الرئيس الأمريكي الجديد أكثر تطرفاً لجهة الدفاع عن المصلحة الإسرائيلية، أم أنه سيضغط باتجاه وقف الحرب وفرض مفاوضات ترسم مستقبل المنطقة ككل؟
الكاتب والباحث محمود النادي