المفارقة وإعادة تشكيل النص قراءة في قصيدة “عرض يومي للنمل”للدكتور طه النفاض  دراسة نقدية ل د. سعيد محمد المنزلاوي

(كان الضوء الخافت في الغرفةْ

لا يدرك لون الجدرانْ

كانت أركان الشرفةْ

تتلقى عبق الفئرانْ

والليل يقدم أغنية وطنيةْ

فالليل يحب الأوطانْ

كان النمل يقدم عرضًا يوميًّا

ما بين شقوق الأرضِ

وبين شروخ الجدرانْ)

استهل الشاعر قصيدته بهذه اللوحة القاتمة التي يختلط فيها الضوء الخافت مع عبق الفئران، ويمتزج فيها الليل بالحنين ويسري الغناء بين شقوق الأرض وشروخ الجدران، والتي اتخذت منها أمة النمل وطنًا لها يزاحم وطن الليل.

        وإذا كان هذا المقطع الافتتاحي بمثابة العناوين العريضة للنص، أو مفاتيح الولوج إلى عالم النص، فبوسعنا أن نطرح بين يدي المقدمة بعض التساؤلات، والتي يثيرها المقطع الافتتاحي للنص، والذي يمتح من معين العنوان، إذ العنوان يحمل في جعبته الكثير، فهو عنوان للنص وللديوان معًا، مما يجعله بتجاوز حدود النص وجغرافيته ويتعدى لأن يسقط ظلاله على نصوص الديوان الأخرى، مهيمنًا على بعضها تارة، وعلمًا على البعض الآخر، مما يدفعنا لأن نسأل عن عرض النمل، كنهه ومرامه وجدواه وصداه عبر أركان النص وجنباته.

        ولننطلق من عتبة العنوان، ولكن من خلال بنياته الثلاثة (العرض – اليومي – للنمل)، والتي تتجاوز علاقتها النحوية، والتي تجعل من مجموعها خبرًا لمبتدأ محذوف، إلى أن تكوِّن في مجموعها دالًا زمنيًّا يدل باسميتها على الاستمرارية والثبات، يؤكد تلك البنية الزمنية قوله في مطلع قصيدته:

(كان النمل يقدم عرضًا يوميًّا)

إن فعل الكينونة هنا لا يعني انقضاء الحدث، بل يعني حكاية الحدث، والذي لا يزال يتردد صداه كما تتردد الأوتار، ولذا كثر التعبير به في أكثرَ من مقطوعة:

(كان سرير النوم نحاسيًّا)

(كان السقف الخشبي)

كان رتاج الباب المكسور)

مما يعين الشاعر على رسم مسرح الأحداث، والذي نطالع فيه غرفة عتيقة، كل ما فيها عتيق، السرير النحاسي، السقف الخشبي، ثم يضفي عليها إيحاءات تجعل منها مأوى صالحًا لكل شيء إلا البشر؛ فالضوء خافت، ورائحة الفئران تفوح من الشرفة وتتخذ من السقف الخشبي أخنانًا، بينما النمل:

(يقدم عرضًا يوميًّا

ما بين شقوق الأرضِ

وبين شروخ الجدرانْ)

وبيت هذا حاله، هو بيت غير آمن:

(لا توجد منطقة آمنةٌ

بين السلم والثعبانْ)

إن البيت هو الشخصية الرئيسة في النص، ومن ثَمَّ كثرت الأنسنة في جنبات النص:

  • (الضوء الخافت في الغرفة

لا يدركُ لون الجدرانْ)

  • (والليل يقدم أغنية وطنيةْ)
  • (كان رتاج الباب المكسورْ

مختبئًا خلف السورْ)

كما تتراسل الحواس وتتعانق من خلال تلك الأنسنة، فتتراسل حاسة الشم مع الطفل في قوله:

(كانت نظرات الطفلِ الجائعِ

تستقبل رائحة اللحم الملقى

للكلب أمام حديقة قصر الجارْ

يا للعارْ!)

محدثة مفارقة لاذعة وموجعة. كما تتراسل نفس الحاسة مع الشرفة:

(كانت أركان الشرفةْ

تتلقى عبق الفئرانْ)

لتبث في الشرفة حياة وإنسانية.

كما تتراسل حاسة السمع في ذلك المشهد:

(موسيقا تعزفها الغفلةْ)

وكذلك في قوله:

(والليل يقدم أغنية وطنية)

لتحيل الغفلة والليل إلى عازف وشادٍ.

لكن هذا البيت بوضعه المزري هذا تأوي إليه (أم وثلاثة أبناء). الأم:

(تجمع أحطابًا

تشعل كانونًا)

هي أم ريفية ساذجة:

(لا تملك إلا حجة ذاك البيت)

حين أشار الشاعر للبيت، استبدل باسم الإشارة القريب ذاك المشار بها للبعيد، دلالة على أنه أبعدَ ما يكون عن وصف البيت الذي يأمن فيه من يأوي إليه.

ومع الأم:

(كان الابن الأكبر تمثالًا

للخوفْ

حين أراه أشاهد يأسي في المرآة

عجزًا مكتمل الأركان)

لقد أبدع الشاعر في وصفه للابن الأكبر، والذي يفترض فيه أن يكون الوتد الذي يحمي الأسرة من الانهيار، بيد أنه (عجز مكتمل الأركان). هذا حال الابن الأكبر، بينما الابن الأصغر:

(يملكه المرض العقلي)

أما الابن الأوسط، فهو سوي، لكنه يشعر بالدونية، يخجل من وضعه المادي:

(قد يسألك زميلك عن عنوان البيتِ

فتخجلُ أن تعطيَه العنوانْ)

ومن الشخصيات تتوالد أحداث وتنمو قصص في ثنايا النص:

منها قصة حب ساذجة موءودة:

(ثمة بعض كتابات بالطبشور على الحائط

بعض  رسوم موجودة

ذاك القلب الخارج منه السهم

يوجد اسمان على الحائط)

ومنها قصة تحكي العرض اليومي للفقر:

(تلك الهرةُ

كانت تتسول لقمة عيشٍ

من ذاك البيت)

تأمل دلالة اسم الإشارة (ذاك)، بالرغم من أنها متاخمة للبيت، ولكنها إشارة إلى الهوة التي تفصل بينها وبين البيت وساكنيه. فتلك الهرة:

(لا يمكنُ أن تدخل قصرًا

يسكن فيه مواطنها الآخر

كان الهرُّ (سياميًّا) يتحمم (بالشامبو)

وينام على نصف سرير في ذاك القصر)

وهناك قصة اليأس، تتلخص في تضمينه للمثل الشعبي، في قوله:

(يا مولانا الراعي

جف يراعي

واختلط الحابل بالنابلْ)

والعلاقة بين النص الشعري والمثل الشعبي جد وثيقة، تبرز لنا اختلاط الأمور وتداخلها، فلا يستطيع التفريق بين الحلم والقنبلة، أو بين السنبلة والهشيم:

(لا توجد أحلام أدركها

فالحلمُ قنابلْ

والسنبلة انقلبت في صندوق قمامةْ

تدهسها أقدام العاملْ)

فالأسطر السابقة مثقلة باليأس فالحلم قنابل، والسنبلة الخضراء تدهسها الأقدام. مما يبرز الزيفَ المتمثلَ في الواقع الهش بمُثُله المزعومة وشعاراتِه المكذوبة.

ومن مجموع القصص تتشكل اللوحات، فنجد لوحة الفقر، ويتمثل بعدها المكاني في قوله:

(أركان الشرفةْ

تتلقى عبق الفئرانْ)

وقوله:

(كان السقف الخشبي الكائن فوق المنزلِ

يحمل قشًا أخنانًا

تسكنها الجرذانْ)

وبعدها الزمني ويتمثل في قوله:

(كان سرير النوم نحاسيًّا

يبدو مصنوعًا من عهد سليمانْ)

وتبرز ألوانها القاتمة في قوله:

(تشعلُ كانونًا

يُخرجُ دخَّانًا

ليغيِّر لون السقف الخشبيِّ

فالأسودُ سيدُ كلِّ الألوانْ)

وبعدها النفسي يتراءى في قوله:

(قد يسألك زميلك عن عنوان البيتِ

فتخجلُ أن تعطيَه العنوانْ)

وهناك لوحة مائية مفارقية بديعة في قوله:

(كان العصفور الساكنُ

بين السورِ وبين السقفْ

يزعجه الماءُ المتسرسبُ

من أمطار الصيفْ)

وتتقابل هذه الصورة مع صورة مائية أخرى أكثر نصاعة، في قوله:

(ثمة صنبور في الشارعِ

تملأ منه الماءْ

هذا مغتسل وشرابْ)

حيث يضيء الاقتباس القرآني النص الشعري، مشيرًا لما يمثله هذا الصنبور من أهمية لدى هذه الفئة المهمشة من المجتمع.

كما تلتقط عدسة الشاعر الراصدة ذلك الإعلان:

(ثمةَ إعلانٌ في تلفاز المقهى

في الفاصلِ

عن خطر الإنجابْ)

ومن جلسته في البيت يرصد لنا أصداء الشارع، والتي تقتحم عليه عزلته بأصواتها الصاخبة:

(في الخارج أصواتُ سبابْ

توجدُ معركةٌ كبرى

بين الإخوة والأحبابْ

أمواتٌ تتنابز بالألقابْ)

ويحمل السطر الأخير مفارقة لاذعة اتكأ فيها على الاقتباس القرآني، فماذا يغني الأموات تفاخر ذويهم بالألقاب، فقد قضوا نحبهم، وسلبهم الموت أوسمتهم.

ومن المفارقات القائمة على الجناس قوله:

(يوجدُ بندولٌ يتأرجحُ

لكنْ لا توجدْ ساعةْ

توجدْ أشواقٌ ملتاعةْ

تعطيك شعورًا أنَّ الابن يحب فتاةً

لكنَّ أباها سيوافقُ

حين تقومُ الساعةْ)

فالبندول يتحرك وليس ثمة ساعة، وكأن البعد الزمني بلا جدوى، فلا عجب أن جاءت موافقة الأب (حين تقوم الساعة) فالموافقة كذلك بلا جدوى. وما بين الساعة الأولى والساعة الثانية جناس تام، ومع نفي الساعة الأولى وبُعد الساعة الثانية، يتجسد الرفض، والذي تخمد معه تلك الأشواق الملتاعة.

فاللوحات السابقة تتضمن العديد من القضايا، كالفوارق الاجتماعية بين الأغنياء والفقراء وغياب العدالة الاجتماعية:

  • (كان الكبتُ يقص شريط الحرمانْ

في وقتْ يعطِي للكلبِ حقوقَ الإنسانْ)

  • (وهنالك إعلان زواجٍ بين الفقرِ

وبين القسوةِ

ينتظر الإشهارْ)

  • (ثمة أصواتُ رياحٍ خلف البابْ

والخوف يطالبُ ربَّ الأسرةِ بالأتعابْ)

كما يبرز في القصيدة العنصر الدرامي المتمثل في ذلك الحوار القائم على المفارقة، يقول:

(يا مولانا الراعي

هل يوجدُ فرقٌ بين النومِ

على الفضةِ والنومِ على الأحجارِ؟

هل يوجدُ فرقٌ بين البيتينْ؟

قالَ:

شعاعُ الشمسِ يزور الاثنينْ

قلتُ: كلامك ميْنْ

هل كان لمثلك أن يصبح فردًا

في مصلحة الفقرِ القوميةْ؟)

ما بين بنيتي الحوار (قال – قلت) تتجسد الهوة السحيقة بين الشعارات البراقة وبين الواقع الزائف، ولذا جابهه بالحقيقة التي لا يمكن أن يهرب منها:

(هل تقدرُ أن تدخل بيتًا

والحشراتُ تطوف على مصباح الضوء الخافتْ

لتشاهدَ أسرابَ بعوضٍ

تحمل لافتة مكتوبًا فيها

نأسفُ للإزعاجْ؟

حين تراها تغمض عينيك الثاقبتينِ

بدعوى عدم الإحراجْ)

ثمة بيتان في القصيدة:

ذاك البيت الذي يمثل مسرح الأحدث، فهو مليء بالشروخ وبالشقوق، يغطيه الدخان والسواد، وتبحث فيه عن منفى. وبيت آخر هو ذاك القصر، وفيه:

  • (يوجدُ أسوار عازلة أسلاك شائكةٌ)
  • (لا يمكنُ أن تدخل قصرًا

يسكن فيه مواطنها الآخرْ)

والممنوع دخوله على الفقراء والذين يتسولون لقمة عيش.

ومن البيت الصغير والذي فيه:

(تبحث عن منفى

فتسافرُ يصحبك الخوفُ

بكل مكانْ)

إلى البيت الكبير، وهو الوطن، والذي تجتمع فيه كل التناقضات:

(يا مولانا العادلْ

في الوطن المقتولِ القاتلْ

لا يوجدُ فرق بين السجنِ وبين العزلةْ)

عودٌ على بدءٍ، ويطل برأسه ذلك التساؤل الذي بدأنا به عن عرض النمل، كنهه ومرامه وجدواه وصداه عبر أركان النص وجنباته.

ويتضح من هذا التطواف أن القصيدة من مبدئها لمنتهاها، هي عرض للنمل، يتمثل هذا العرض اليومي في تلك المشاهد المتكررة للخوف:

(تبحث عن منفى

فتسافرُ يصحبك الخوفُ

بكل مكانْ)

يتجلى في ذلك العَوَز والتي تتكرر صوره في كل بقاع الوطن، كقوله:

(كانت نوبات المرض الأولى

موجًا يعصف بالأذهانْ

كانت تحتاج قرار علاجٍ

يحتاج رضاء وزير الصحة والسكانْ)

كما يبدو في ديمومة الفقر والإخفاق والظلم، وأد الأمنيات والأحلام، وحين يغيب العدل يختلط الحابل بالنابل، وحينها:

(لا توجدُ أحلامٌ عاقلةٌ

أو أحلامٌ مختلةْ

لا يوجد للفوضى وطنٌ

غيرُ بلادٍ محتلةْ)

وتضعنا المقطوعة الأخيرة على حقيقة هذا العرض اليومي، إنه فوضى المشاعر والعلاقات في حركتها الدءوبة بين شقوق الروح وبين شروخ النفس في وطن محتلٍ.

وهذه الحركة للعرض اليومي للأجناس المكبوتة، والتي يحتشد بها النص، تسير عبر نغمات بحر المتدارك/الخبب، وقد أجاد الشاعر في انتقائه لتجربته، فهو بحر كله جلبة وضجيج يتناسب وتلك الجلبة الدءوبة في جنبات النص، سار فيها ما بين (فَاعِلْ وفَعَلَنْ) ما بين القطع في الأول والخبن في الثاني، إضافة إلى التذييل فيهما أحيانًا، ما يجعل القصيدة تدور ما بين عدو وبطء، حركة وسكون، في شكل رتيب ومنتظم كبندول الساعة يتأرجح ما بين الحركة والسكون.

د .سعيد محمد المنزلاوي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *