طال الحديث الهاتفي الودود، تذكَّر صديقي فقال: “بالمناسبة، أحب أن أسأل الروائيين عمَّ تقرؤون؟ فماذا تقرأ يا دكتور؟”. أجبته: “في الصباح أقرأ في الكتب التراثية، وفي المساء أقرأ قصصًا وروايات…” فقاطعني ليوضح: “أقصد الروايات، ماذا ستقرأ هذا المساء؟”. “سأتابع قراءة… (وذكرت اسم الرواية)” وقاطعني ثانيةً بدهشة: “ماذا؟ ولكنها رواية قديمة وفلسفية ومملّة، وليس لها حكاية واضحة! كيف تطيق قراءتها؟”.
لم يخطئ الصديق في وصفه، ولكني أعود فأجدد علاقتي الوطيدة بهذه الرواية التي هي في رأيي من العشر الأوائل من الأدب الروائي الحصيف على مستوى العالم. ولهذا التقدير عندي أسباب وجيهة، فهي رواية كلاسيكية “صافية” خرجت إلى الحياة في القرن التاسع عشر، رواية للأدب الذي يحترم عقل الإنسان ويُغذِّيه، قدَّمها كاتبها بإخلاص دون أن يلوثها بالمصالح والاعتبارات الخارجية. ولأنها ذات مضامين فكرية إنسانية قيمة فقد تراجعت الحكاية فيها لتفسح الطريق إلى مقولات خالدة على ألسنة شخوص تتحاور وتختلف وتتحرك بهدوء دونما سعي من الكاتب إلى إقحام عناصر التشويق والإثارة، ولابد هنا من الانتباه إلى أن البطء فيها تشفع له حركة العصر البطيء الذي ولدت فيه الرواية، وهي بالتأكيد لا تشبه الإيقاع السريع الصاخب في زماننا هذا. إنها نص طويل مدروس بعناية تناسب عصرها كما تناسب القيم الإنسانية في كل عصر تالٍ، ولهذا أفضلها على كثير من النصوص المزامنة لها أو اللاحقة.
ولنرجعْ إلى السؤال القديم عن وظيفة الأدب عامةً، والرواية تحديدًا من بين الأنواع السردية بوصفها النوع الأدبي الأكثر انتشارًا (وربما ستبقى كذلك لعقد أو اثنين قادمين) ولتحديد وظيفة أدب الرواية أريد تعريفها تعريفًا خاصًّا فأقول: الرواية نص أدبي طويل ذو لغة معبرة عن المضامين والأحوال، ويؤدي رسالة إنسانية عبر حكاية نافعة للرسالة المتضمنة وللقارئ معًا.
ومن السهل الآن تمرير الرواية التي ذكرت عنوانها لصديقي عبر فحصها بمفردات تعريفي الخاص لأقول بكل شجاعة إنها رواية مثالية. ومن السهل أيضًا أن أختار مجموعة من الروايات الكلاسيكية ينطبق عليها التعريف، بل ربما تكون هي التي أوحت لي بهذا التعريف.
أما الصعب فهي الحالة التي سأضطر فيها إلى إخراج عدد من روايات القرن العشرين (برغم احترامي لأصحابها) من تعريف الرواية الجيدة جيدًا. ولكن يبقى الأصعب بالتأكيد ما وصل إليه عدد غير قليل من روايات القرن الحادي والعشرين من انزياح عن قواعد كتابة الرواية وخروج عن حدّ المقبولية، بحيث إن القارئ المتمرس (وليس الناقد بالضرورة) يحار في توصيف هذه النوعية من النصوص “المارقة” حتى لعناصر الرواية، ويتساءل إن كان ما قرأه رواية أم خواطر مزاجية لا يربط بعضها ببعض إلا خيوط واهية وحكاية مبالغ فيها.
وعندما بحثت عن أسباب الضعف في الرواية العربية المعاصرة (وهذا أكثر ما يهمنا نحن القراء والكتَّاب) وجدت مخالفاتها تبدأ من عنوان الرواية نفسه، فأطلقت على هذه النوعية مصطلح “روايات العنوان” وأعني بها الروايات التي يسعى أصحابها إلى اجتذاب القراء بعناوينها. وهذا ما يحدث فعلًا لعامة العابرين في معارض الكتاب، الذين يقتنون نسخهم من كل رواية متوَّجة بعنوان مثير أو مغرٍ أو موافق لمشاعر نبيلة. وليكون كلامي واضحًا وغير جارح في الوقت نفسه سأذكر الآن مثالًا موضحًا، وإن كان لا يشير بصراحة إلى اسم مؤلف أو عنوان رواية.
في رواية لكاتبة عربية (مع احترامنا لشخصها) نجد في عنوانها كلمة (سرير). وجاءت المفردة هنا من جهة التقارب اللفظي مع مفردة (سبيل) الشائعة. ليست هذه مشكلة، المشكلة في أن مشروع القارئ (أي الرجل الذي سيقتني هذه الرواية بسبب عنوانها ولم يكن قد قرأها بعد) قد ذهب ظنه بمضمون الرواية مذهبًا غير سليم. ويمكن أن أعبر عما سبق بمعادلة:
كاتبة (أنثى) + كلمة سرير + خيال مريض = زيادة المبيعات = عزوف عن القراءة الجادة فيما بعد.
وكالمثال السابق ثمة أمثلة كثيرة انتشرت بفعل مجاراة ما صنعته الكاتبة المشار إليها، وبفعل ركوب الموجة وتقليد الكاتب الأحدث للكاتب الأقدم.
وفي المقابل سيمر من أسميناه بمشروع قارئ بروايات تحمل عناوينها كلمات مقتبسة من القرآن الكريم، وهنا يجتذب العنوان (وغالبًا لا علاقة له مباشرة بالنص الروائي) شريحة واسعة جدًّا من القراء المنتمين إلى بيئات محافظة كانت من قبل تعزف عن قراءة الروايات بسبب سمعتها غير المحافظة وغير الأخلاقية أحيانًا، وأمثِّل لذلك برواية في عنوانها (ويسألونك) وهي جملة مقتبسة من القرآن، فتكون المعادلة:
عنوان مقتبس من القرآن الكريم + كاتب يبدو أنه متدين + التزام ديني لدى القارئ = زيادة المبيعات = إخلال الرواية بعنصر التخييل وإقحام الاقتباس في غير سياقه القرآني = إيهام القارئ بأن ما قرأه رواية مثالية.
وهنا وقفت طويلًا في دراسة لي عند ظاهرة التناصّ من القرآن الكريم في الرواية العربية المعاصرة، ومن المؤسف حقًّا أن يتحول التناص في كثير من النصوص الروائية من تقنية تخدم النص إلى استخدام خاطئ أساء إلى النص والقارئ معًا، وهذا يشير إلى غياب الدراسة الجادة عند بعض الكتّاب لعناصر كتابة الرواية في مرحلة التأسيس لمشروع كتابتهم، ويشير أيضًا إلى غياب النقد الموجه لهم.
ولأن ما يحدث للأدب لا يأتي مفاجئًا ففي عقود مضت لفت نظر القراء والكتّاب عناوين روايات مثيرة لروائيين عالميين سابقين مشاهير مثل (عناقيد الغضب) و(جثة في المكتبة) و(أحبك حيًّا أو ميتًّا) و(عائد لأبحث عنك) و(ليالي الحب والرعب) والقائمة تطول… ومنذ قرأ بعض الجيل المعاصر من كتاب الرواية تلك العناوين وأشباهها والرغبة عندهم ملحة جدًّا في صناعة عنوان يحقق الهدف التجاري قبل الهدف الأدبي، ولتتحول صناعة العنوان الأدبي عند بعضهم إلى عامل مثير يحقق مبيعات وشهرة تشبه ما يسمى في صناعة السينما بأفلام الشبَّاك. ومن الأسف أن الهبوط الاضطراري مازال مستمرًا بفعل التقليد المتدفق والمنافسة في سوق الشهرة.
الأديب محمود عمر خيتي
أحسنت الكتابة جزاك الله خيرا