يؤذن لصلاة العشاء، يتبارى أهل القرية في جمع بقايا الطعام، بعضهم يؤجل كأس الشاي لحين العودة من الصلاة، والبعض الأخر يتعجل الشاي حتى يلحق بركب المصلين في مسجد العمري هذا المسجد العريق في قريتنا العتيقة، يتجمع الشباب أمام المسجد بعد الصلاة، يجمعهم العلم والأدب والدين والثقافة، يتبادلون السلامات والابتسامات والمعلومات… ومن بعيد يأتي شاب أسود ضخم على رقبته شال أبيض، يمد يده ويصطحبني.
-كنت أعرف أنك هنا، وأنك مع هذه الثلة من خيرة شباب القرية، لكني أعلم أنك مستعد للحاق بالعمالة التي تجني القطن، وأن لك رغبة في ذلك، فأنت تقضي الإجازة في العمل؛ لتحصل مصاريف الدراسة، هل لديك استعداد أن تكون معي غدا؟!
-وكم أجرتي؟
-خمسة جنيهات مثل بقية الأنفار.
-معي أخي الأصغر، وابن أختي.
-ابن أختك صغير لا يمكنه القيام بمهمة جني القطن.
-سوف أكون بجواره وآخذه معي بــــ(ريشة) “ريشة أي ثلث الأجرة أو ربعها”.
– القبض نهاية اليوم في بيتي، موعدنا غدا عند المقابر السادسة والنصف صباحا؛ ستنتظرنا سيارة نقل هناك، وأحضر معك غداءك، فالعمل في أرض وسية، وأصحابها لا يقدمون وجبات للأنفار!
قال لنفسه: كنت أتمنى ألا أكون من أولئك الذين يقودهم هذا الشاب الأسود إلى الأرض الواسعة في بلد تبعد عن قريتنا آلاف الأمتار، لكنها الحاجة التي تدعو الإنسان وتضطره، فلابد من العمل حتى أتمكن من سداد المصروفات الدراسية، وشراء الملابس.
في هذا اليوم، استيقظت أمي من نومها على صوت إحدى الجارات، تناديها، يا خالتي طلع النهار، أيقظي العيال، حضري لهم سُرَّتهم، رغيفين وقطعة الجين القديم وحبة طماطم، مع قليل من (المحدق)، واربطي السُّرة جيدا حتى لا تطاولها الشمس أو تفسدها الحرارة، أما الماء، فمعهم من الأنفار بنتا يختارها (الخولي) تقوم بحمل الماء في جركن يسع عشرين لترا، وكوب من البلاستيك، تمر به على رءوس خطوطهم، وقت التشريبة صباحا وبعد العصر قبل مغادرة الأرض.
سرنا في طريقنا إلى مستقرنا الأخير، وصلنا الأرض، أرض طينية واسعة، يزينها لون اللوز الأبيض، يتجمع حولها مناطيل كثيرة، أمام كل منطال ماكينة ري يسقط خرطومها في الترعة الأمامية لهذه الأرض الواسعة. وماء المنطال قد يكون مثل ماء المطر المتجمع في وسط شارعنا القديم، يخلع الشباب أحذيتهم، ويدلي كل منهم قدميه كأنه على شط بحر.
يأخذ الشباب والشبات ساترا لخلع ملابسهم، يلبسون ثيابا تكاد تكون بالية، لكنها خشنة تتحمل عيدان القطن ولوزاته، ومع كل واحد شيكارة بلاستيك من شيكارات الكيماوي الذي يستخدموه في الزراعة، الشيكارة ملفوفة بحرفة، فهي تبدأ صغيرة ثم تعلو مع علو كمية القطن المجموع بها.
صوت جهوري يسود المكان، ينادي على الأنفار بكلمات ثتير الغضب والنصب.. ركبت خطي وعن شمالي أخي الأصغر، وبيننا ابن أختي، وعن يميني طفل يتجاوز العاشرة أخذه أحدهم بريشة أيضا. وحتى لاتنزلق قدمي في خَطه، استندت على ريشة الفحل الطينية العالية؛ وفي أسماعنا نقيق الضفادع وصوت ماكينات الري، ونباح الكلاب التي استغربت حضورنا من أطراف القرية.
بدأ العمل على قدم وساق، وبدأ معه وابل من الشتائم والإهانة، وصلنا للفردة الرابعة بعد العاشرة صباحا، فسمعنا صريرا يشبه بكاء النساء، اندفع من خلفنا، كدنا أن نضج منه ونثور. ثم يأتي هذا الأسود يمر بين الخطوط، يحمل عصا غليظة، يدفع بها شكارات القطن، اشتد حرارة الشمس في منتصف النهار، الشمس تكسو أرجاء المكان، وعلى مرمى البصر تفرقت الأنفار، هذا سابق، وهذا متخلف وبينهما أنفار يتقدمون ساعة ويتأخرون ساعة، حتى حان موعد الغداء.
وتحت أشجار الجزورين والصفصاف، يتحلق الأنفار، كل أمام سرته المعهودة، والخولي يلف الممر الطويل الذي يقضي لنهاية الأرض، الأجساد متعبة مجهدة، بدات ضعيفة نحيلة ممصوصة الوجوه، البنات يتشحن بطرحاتهن، نظرة العيون تؤكد الإرهاق، أما أنا فكنت أشعر بخوف وقلق سكنا صدري من بعد التشريبة، وقلت لأخي إن أمرا ما يقلقني من هذا الشاب الأسود، قال: لا عليك ساعات وينتهي اليوم، لا تقلق.
طوفان الاستعداد البادي على الوجوه يفترس عيدان الحطب ليدنوا كل واحد من خطه، السعادة بالخروج للغداء اجتثت من النفوس، عادوا إلى السجن مقيدين في خطوطهم، أخفت شكاراتهم ضوء الشمس، وصارت رغبتهم في إنهاء اليوم تطفئ ضوء القمر في ليلهم القصير.
كل أحلامهم العودة لبيوتهم الطينية، والرطوبة الشديدة، ورائحة الطبيخ، والقش المحترق في الفرن، وبرام الأرز المدسوس، ومفارقة العبد الأسود الذي قبض أجورهم ووزعها عليهم ناقصة، مازال ينادي الأسماء، ينتظر كل منهم اسمه وكأنه ينتظر إعلان نتيجة شهادته، وهو يدور حولهم ويعطي كل واحد أجرته، كأنه يتصدق عليهم.
قبيل العصر، سمع صراخات في ايقاع غير منتظم، جعلته يهرول، انخلع حذاؤه، واندفع يجيب الداعي، ثم أمسك بطرف ثياب الطفل الذي جاوز العاشرة، الذي بال على لوزات القطن في خطي المعهود.
كان الطفل ابنا لاحد أقارب صاحبنا الأسود، فلما عنف الصبي، ونهره لفعلته، أنكر من شدة خوفه أنه صاحب الواقعة. وها هو يأتي من بعيد وعيونه حمراء ذاهلة، ينظر إليَّ ويصرخ بصوته المتحشرج المشروخ من كثرة الكلام طوال النهار..
لا أدري ماذا أفعل، لكن الرجل الأسود الضخم كان في مكان منخفض وكنت أنا الأعلى، فلما شتمني دفعته فسقط على ظهره… يأتي أخي من بعيد، ويدفعه مرة أخرى، فيسقط بيننا، والأنفار صامتين متفرجين، وكل خولي يأتي بعصاة، الضرب فوق أجسادنا ورؤسنا، جرينا هربا، حتى وصلنا الممر، وانزوينا في مكان بعيد، لا نرى إلا لوزات القطن تعانق ركبتنا من شدة الضرب.
دوائر الخوف تشكلت حول أعناقنا، ورجل يلقي السلام بصوت خافت دون أن ينتظر ردا، اقترب منا، قرب زجاجة ماء، رفع الثياب من فوق أجسادنا، لم ير سوى عيدان القطن وقد تركت علامات كالسياط، ملامح وجوهنا الغاضبة تجعلنا نضج ونثور..
مشينا لأول الطريق، ركبنا سيارة أجرة لبلدتنا، استقبلتنا أمي بلطم خديها، خرجت من باب الدار وخلفها أبي وثورة أبنائها، يسرعون الخطأ للمقابر منتظرين قدوم هذا الأسود وعصبته..
طرقات القرية ضيقة، الجو -مع شدة الحرارة- بارد، تأخر الركب، فهدأت العاصفة، رجعنا للبيت على أمل القصاص حين يعود هذا الرجل الضخم الأسود إلى بيته يوزع الأُجرة التي سنحرم منها بعد هذا الصراع المرير….
د. أحمد مصطفى