(بئر التاريخ وآبار الفنون وأنشطة العقل العربي)

تمضي السنون وتظل سيوف الحقيقة على العنق لا تبارحها حتى وإن جف المداد، وتظل حتى لحظة الاحتضار فينطق المحتضر بالحقيقة التي خاف أن ينطق بها في حياته.
مضى عقد ونصف العقد وأنا أجاهد الحقائق لتظل طي النسيان كما ظلت قرونًا عديدة ودهورًا مديدة، لكن الإلحاح القوي منها على الظهور ينتصر على ضعفي البشري ويرغمني على الكتابة عنها.
تأتي الأفكار للمبدعين كفتاة ليل لعوب تشاغله حتى يخرجا في نزهة أو ينفردا في ظلمة فيقضي كلاهما وطره، وكأن شيئا لم يكن فإذا سجلها الفنان بريشة أو حرف أو عزف أو رقصة استراح كلاهمافتنام الفكرة ويستقر ذهن الفنان وشعوره.
بينما الحقائق حينما تلح فإنها تأتي في كامل هيئتها حاثة وضاغطة ومقررة لا مناص من وضعها على شفاه النَّاس جميعًا فلن تقبل الحقيقة أقل من ذلك أبدًا.
يروي ابن عبد ربه في كتابه العقد الفريد: (اجتمع النعمان بن المنذر (المتوفى عام 602 أو 607م) مع قيادات الصين والهند وبلاد فارس، وتحدث كل واحد عن أمته، فلما وقف النعمان ليتحدث عن العرب قال: لم يطمع في العرب طامع، ولم ينلهم نائل،
حصونهم ظهور خيولهم، ومهادهم الأرض، وسقوفهم السماء،
وجنتهم السيوف، وعدتهم الصبر، إذ غيرها من الأمم عزها
الحجارة والطين وجزائر البحور).
لم تعش الأمة العربية في يوم من الأيام حياة الجاهلية كما كانت تعيشها _ ولا زالت _ أمة الغرب الجاهلية والعالم يعيش في القرن الحادي والعشرين بعد الميلاد المجيد.
كيف يصف المؤرخون الغربيون أمثال مرجليوث وبروكلمان
وماسينيون عصر ماقبل الإسلام بالعصر الجاهلي، وكأن هؤلاء
المؤرخين قد اعتنقوا الإسلام والقاصي والداني يعلم أن هؤلاء
المستشرقين يكرهون الإسلام كراهية قذفهم في النار، فهذا الوصف جاء كراهية للعرب وللتاريخ العربي عبر كل العصور.
كانوا يعلمون تمام العلم أن أمة العرب أكبر أمة قدمت خيرا للبشرية طوال التاريخ القديم والجديد، وأن العرب أكثر الأمم تحضرًا عبر التاريخ كله، فأين كانت الدولة المعينية التي نشأت من 1200ق. م وحتى 650 ق.م؟ وهي من أقدم الدول بعد مصر القديمة، وأين كانت مملكة سبأ؟ ومملكة حمير الأولى التي بدأت عام 115 ق.م والثانية التي قامت عام 300 م، ومملكة المناذرة ومملكة الغساسنة ومملكة تدمر ؟، وغيرها من الممالك والدول العربية المهمة جدا.
من الذي كان يحمي طرق التجارة العالمية قديمًا بين الفينيقين واليونانيين وبين الهند والصين؟ ومن الذي كان ينقل البضائع عبر الصحاري بالجمال وعبر البحر الأحمر والمحيط الهندي بالسفن؟.
حينما ساد الرومان العالم قبل الميلاد لم يستطيعوا أن يسودوا العرب، بل إنهم أرسلوا حملة ضد العرب عام 24 ق.م للسيطرة على طرق التجارة العالمية ولكن حملتهم باءت بالفشل وانسحبوا من الجزيرة العربية بعدما تاهوا شهرين وهم لا يعرفون طريق العودة.
ومن يرجع إلى كتب المؤرخين الحقيقيين من القدماء في الشرق والغرب أمثال هيرودتس وسترابو وديداورس الصقلي سوف يجد أن أغنى بلاد العالم كانت بلاد العرب وأن تربة الأرض العربية كانت تفوح بالعطور وأن خصوبة الأرض العربية كانت تنتج لهم أشجارا ليس لها مثيل في العالم، وأن العرب قادرون على حماية البحار وتأمين طرق التجارة العالمية بين أوربا وآسيا وإفريقية.
يعرف علماء الغرب أن جميع الحروف الهجائية لجميع اللغات في العالم خرجت من أرض سيناء، حتى وصفت الكتابة في بدايتها بالكتابة السينائية نسبة إلى أرض سيناء العربية المصرية.
كان اليوناني والروماني والفنيقي والإغريقي يفتخر بأنه يلبس ثياباجاءت من بلاد العرب ويتزين بالذهب والفضة من بلاد العرب، ويتناول الخمور والعطور من بلاد العرب، كل هذا كان قبل الإسلام العظيم وقبل نزول الوحي على الرسول الأكرم والنبي الخاتم. مالكم كيف تحكمون!!!
أين تقع أقدم قلعة في تاريخ البشرية؟ أين تقع أقدم كنيسة في تاريخ العالم؟ أين يقع أقدم معبد لليهود في تاريخ اليهودية؟ أين وجدت آثار الشرائع السماوية منذ بدايتها؟ أليست في بلاد العرب؟ من الذي نشر اليهودية ؟ ونشر المسيحية؟ ونشر الإسلام؟.
العالم يشتمل على ثمانية مليارات نسمة، منهم سبعة مليارات
يدينون للفكر العربي والثقافة العربية التي نشرت الشرائع السماوية، أليس كذلك؟
أما كلمة الجاهلية التي يلصقونها بحياة العرب قبل الإسلام فهي كلمة تبرز مدى حقد المستشرقين الذين استخدموها، فقد وردت كلمة الجاهلية في القرآن المجيد أربع مرات لتصف حوادث وليست حياة العرب، فوصف القرآن الحكم الظالم بحكم الجاهلية، أليست أحكام مجلس الأمن بين إسرائيل والعرب أحكاما جاهلية؟.

Elking, [14.01.2024 19:48]
وصف القرآن الكريم اختلال الفطرة في الملبس والزينة للنساء
بالجاهلية (ولا تبرجن تبرج الجاهلية)، هل تخلو عاصمة في العالم الآن من هذه الجاهلية؟.
وصف القرآن الكريم سوء الظن في الاعتقاد بأنه جاهلية، كما وصف التعصب للقبيلة بالجاهلية، وهل يخلو العالم من هذه الجاهلية؟.
اطلع علماء الغرب بالتأكيد على خريطة بطليموس التي رسمها مابين عام 150 وعام 160 م، حيث صور فيها مناطق العالم المتمدين والمتقدم، وأشهر بلاد العالم تقدما وتمدنا في هذه الفترة كانت بلاد العرب، ولا تزال الخريطة في كتاب الجغرافيا لبطليموس حتى الآن.
لم يخلو أدب قديم عند الصين أو الهند أو الفرس أو اليونان أو
الرومان أو غيرهم من ذكر عظمة وتمدن وتقدم أمة العرب على سائر الأمم وحسبي أن أشير إلى كتاب ثيوفرستس اليوناني (المتوفى عام 288م) وهو يصف الحضارة العربية وكيف كانت بلاد العرب من الغنى في الطيوب والذهب والحلي والبذخ والشهامة وعلو الهمة والفروسية وحماية الضعيف وإكرام الضيف وبناء القصور وتزيينها وأنه لاتوجد قصور في العالم كله تضارع القصور العربية بما فيهم
قصور كسرى وقصور ملوك الروم والصين والهند.
لم تعرف الحرية والديمقراطية أمة من الأمم قبل معرفتها الأمة العربية، فلن تجد كتابا يتحدث عن العرب إلا وصفهم بالأحرار الثوار الذين لا يقبلون الضيم لقبيلتهم ولا لمن يحتمون بهم، أو يسغيث بهم مستنجدا، قال العربي ينصح ابنه قبل الإسلام: (أسرع إلى النجدة في الصريع فإن لك أجلا لن يعدوك)، يقصد إذا استنجد بك إنسان فعليك أن تعينه وتسرع لنجدته، فإن ذلك لن ينقص من عمرك شيئا، فالأجل عند الله مكتوب.
لو عدنا إلى كتب وهب بن منبه والهمداني ونشوان الحميري وغيرهم من كتاب التاريخ العربي القديم سوف نعرف كيف كانت هذه الأمة العربية أرقى الأمم تحضرا واقتصادا وفكرا وحرية وديمقراطية حقيقية وليست مزيفة.
إن تعدد مستويات التأريخ ظلم الأمة العربية ظلما كبيرا مبينا، فكل البلاد ذات الطنطنة في عصرنا من أمريكا وبلاد أوربا وآسيا لا يستندون على إرث تاريخي وثقافي وعلمي كما تستند الأمة العربية على شعر وتاريخ وحضارة ومدنية وفلسفة وأدب وانتصارات وعلوم وتقدم وحرية وبناء دولة حقيقية ذات علاقات داخلية وخارجية، وتحقق مصالح شعوبها.
إن منظومة العلاقات العربية في وقتنا الحالي استطاعت أن تفكك ما للأمة العربية من تاريخ حضاري ملهم للشعوب والحكومات على حد سواء، فحينما تكون الصلات عميقة بين الشعوب العربية وكذا بين الحكام فإنها سوف تنتج تجليات عظمى قادرة على تغيير الواقع مهما كانت درجات الرداءة فيه، حيث إن التراكم التاريخي حينما يستخدمه الحكام في إيقاظ أنشطة العقل الجمعي الشعبي لأمة من الأمم، فإن ذلك يصبح دافعا أصليا للخروج من الحالات الصامتة والصعود إلى اللامحدود في الفكر والعلم والتقدم، بل يمكن لأمة العرب إذا استعادت ذاكرتها الحقيقية أن تزاحم كل الدول المتقدمة
خلال شهور وليست سنوات كما يدعون، فليست المعرفة حكرا، وليست المعرفة هي الأهم، بل الفهم في كيفية استخدام المعرفة هو السبيل الأيسر والأنجع والأسرع للدخول إلى حلبة السباق.
إن حكاية التاريخ على الأجيال وتجريده من الرهافة والمعقولية، إنما هو درب من الإجرام في حق الشعوب وبخاصة الشعوب العربية على وجه التحديد، فلا توجد أمة في العالم من مائه إلى مائه تهتم بالأنساب وبتاريخ القبائل والأقوام والعشائر والبيوت والخيام وتحولها من تاريخ إلى علم يطلقون عليه (علم الأنساب) سوى الأمة العربية.
إن الحالة الراهنة في معرفة العربي لذاته من خلال توثيقه لتاريخه وإدراكه لسلاسل القوة في وجوده على هذه الأرض العربية التي ورثها عن أجداد عظماء لم يسمحوا لمستعمر ولا لدخيل أن يساوم على خطوة، أو أن يفاوض العربي على النخوة، أو أن يستعلي عليه بعلم أو يتحكم فيه بظلم، فتاريخ الإنسان العربي – في ظني – هو أشرف تاريخ على وجه هذه الأرض، ويمثل شرفه في تمسكه بدينه وأخلاقياته وتمسكه بالعلوم والفنون والحضارة بشقيها المادي والمعنوي، وحينما تجد الشعوب العربية نمطا للعمل المشترك وتنخرط العقول المتباينة وتندمج في بوتقة موحدة فلن يلحقها اليوم من سبقها بالأمس، ولن يفرض سطوته عليها غادر محتل،
أو مستعمر مختل.


د. رمضان الحضري

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *