القصة الفائزة بالمركز السابع في مسابقة مجلة القصة الذهبية
أليس من الغريب أن تمرح تلك الدودة على طاولة المطعم الشهير؟
انتبه الى زحفها غير متأففٍ بقدر تركيزه على بقعة دم تتكور من مؤخرتها وتنزلق الى وسطها ثم تدفع مقدمتها فتتقدم رويدا رويدا بجسمها شديد الضآلة.
وتساءل في نفسه عما لا يجد له دوما إجابة.
الهواء في بداية الليل ساخنا قليلا ما يمتزج بنسمة باردة بين الحين والآخر، غادر الحافلة العامة المكيفة في طريقه المؤدي الى قرية البضائع بالمطار الدولي، يدوي عن قرب أزيز الطائرات في قدومها ومغادرتها يكنس صمت المحيط، وصوت غناء غربي على جيتار حالم يصدر من الفندق القريب في بداية الطريق إلى وسط المدينة فيتشبث بعذوبته قبل ليلة من عمل عسير،
وأسئلة تنهال عليه من سائقين أتيا للتوصيل أو الاستقبال تائهين في طرقات المطار المبهمة يتلقفون منه إجابة تدله على الطريق الصحيح لصالات الوصول والمغادرة، وعربٍ بعقالاتهم الداكنة فوق الرؤوس.
يطالع بعينيه في تركيز ما بين وجه مدير الصالة وبوليصة الشحن في قلق من نظراته التي تبرق بالشرر والنذير ويترنح شاربه أسفل أنفه الأفطس في تناثر أشعث يتدلى على شفتيه المكسوة بزرقة وسواد إثر تدخين شره، يقطب حاجبيه وعلى جبينه التواءات استوت بينها طلعة مهيبة مقبضة، يلقبونه في الشركة بالمرعب.
يراجع في قلق كميات البضائع المصدرة مطالعا في الساحة الواسعة الممتدة علب الشاحنات والحاويات تفغر أفواهها أمام صبية مرتزقة يعملون بالقطعة أو باليومية اختلفت أعمارهم وهيئاتهم في حمية ومهارة لرص وترتيب عبوات الخضر والفاكهة الموسومة بشعار منتجها وبلد منشأها.
يلجلج صوت خبط وجلبة في أحد علب الشحن بصفيحها اللامع في أقصى الساحة فيتضاحك الشباب والصبية في خبثٍ وتلميحات لما يدور بداخلها،
يغادرها شاب تبين عليه أمارات السعادة والسلام الداخلي تغلف شفتيه ابتسامة رضا، عسلي العينين يشذب حاجبيه وكحل خفيف على رموشه ويعتلي دراجته يمخر عباب الحياة في انطلاق وطيران، بينما يتبعونه بنظرات شامتة لائمة ضاحكة وهو مسترسل في صمت باسم يغادر الليل الصاخب الى حيث يعمل بإحدى شركات الخدمات بالمطار.
بصوت جامد مبحوح جهوري يجمع موظفي التخليص الجمركي أمام مكتبه الزجاجي بالساحة يصخب ويزأر ويؤنب في غلظة،
يلتفت إليه موبخا عن سهوه في كمية بأحد “بوالص” الشحن. فيشرع في توضيح موقفه فيقاطعه بذراع مرتعدة غاضبة وصوته الأجش يزداد خشونة ويتطاير رذاذ لعابه في وجهه فيتراجع لما يبصقه فمه من رذاذ وصفاقة.
فيخفض وجهه مستاءً بوجهه القمحي متأسفا في صمت وخشوع تجلَّيا في طلته الأنيقة وربطة العنق البنفسجية التي يحرص على ارتدائها كأثرٍ باق على عصر ولى من الرغد والغنى.
ويلح السؤال كلما دوى في أذنه أزيز طائرة تقلع تشق دروب السماء فتغادر هذا المناخ الساخن متى.. متى؟
ألا يمتك بقعة دم تدفعه للأمام؟
لا يكف الصبية عن الغمز والضحك المكتوم لما يروه من تعنت ذلك الرجل المتكور مع موظفيه،
وعما جرى داخل العلبة من جلبة،
يغادرها مهندِما ملابسه في نشوة فيقف وسطهم كقائد مسموع يتباهى الصبية بزميلهم متوسط القامة في قرب الى الطول مدبب الأنف في كبرياء أسمر اللون في ملاحة منتفخ الذراعين في فتوة يلقبونه فيما بينهم بالمعلم وفي مجتمعات الليل بالمرعب.
يضحكون ويمرحون بغمزةٍ من أحدهم قائلا “هي دودة ولازم تجر صاحبها دائما” في تلميح بذيء عما دار بينهما.
فيلكزه على كتفه ” طب شوف شغلك يا ابن ………..”
فيسترسلون في الضحك والمرح غير آبهين لصياح هذا الضخم المأفون وإن كان أكثرهم ترفا يرتدي حذاءا مطاطا ويطوق خصره خيط بدلا من الحزام الجلدي.
يتابعهم عن كثب يضيق بما لاقاه كبرياؤه من توبيخ وإهانة فيحل قليلا ربطة العنق يجاهد أن تقتنص الهواء رئتاه.
زادت في الفترة الأخيرة معاناته من ضيق التنفس وفتُرت صحته وهزل قوامه قليلا، بل واضطربت علاقته مع زوجته كلما جاهدت نفسها ان تدعوه فلا يقابلها سوى بفتور وزهد واسترسال صامت تمضغه آلام ويعصره انقباض فتودعه ببسمة دامعة وتدلف الى عالم مستقل وحيد على نفس الفراش.
تتقاطر عربات اللوري فتكنس الساحة من كل العلب والحاويات والشاحنات، والصباح يشرع في طلاء بياضه على استحياء والليل يترنح كما الأجساد من مشقة وكلل.
وفي انتظاره للحافلة أسفل لافتة شاهقة بالترحيب بالوطن،
يلمح في نهر الطريق الشاب ذا الحاجبين المشذبين كحيل الرموش ذا الدراجة التي تكاد تطير خفة ومرحا كأنه يناطح الطائرات في عليائها بالوجه السكين الوديع، وهو يتأمل بسمته وطلته وتَصالُحه المسافر في وسامة وجهِه وسكينة لم يهنأ بها منذ ان تغيرت الإدارة واحتلال هذا الرجل للمنصب.
ما أن جلس بمقعد الحافلة إذ ينادي المحصل في إعلان عن رفع سعر التذكرة في لهجة ما بين الأمر والاعتذار فيتلفت في دهشة فتقع عيناه على مانشيت رئيسي لجريدة يفردها أحد الركاب ” تحريك سعر المحروقات”
فيتخذ قرارا صعبا بمغادرة الحافلة المكيفة وانتظار الحافلة العامة ذات السعر الأقل.
الكاتب عبده حسين إمام