تتضمن هذه المقالة نبذة عن بعض الأمثال البيروتيّة العاميّة. وفيها نحاول أن نقدّم المثَل مع ذكر الحالة أو القصة التي أدّت إلى ترداده بين البيارتة-نسبة إلى أهل بيروت- في لبنان، وشيوعه من جيل إلى جيل.
لا شكّ في أنّ الكثير من الأمثال العاميّة الشّعبيّة، تتشاركها الشعوب العربية، وإنْ بلهجات ومفردات مختلفة، إلّا أنّها تحمل المضمون عينه والعبرة نفسها. لذلك تتناقل هذه الامثال الشعبية على ألسنة العوام في حالات أو مواقف إجتماعية معيّنة. وقد ارتأيتُ الإطلاع على قصّص ظهور بعض هذه الامثال الشعبية، بغية تقديم صورة معاصرة مختصرة عن هذا التراث الشعبي.
*المثل الاول: “الإبرة قالت للمقصّ،أنا بوصِل وإنتَ بتقصّ”:
ظهر هذا المثل تعبيرًا عن المظاهر الإجتماعية التي تختلف عناوينها بين الناس. وقد ردّده الشرفاء من أهالي بيروت، للحكم على بعض الفئات من النّاس الذين يعملون على تأجيج الخلاف فيما بين الأصدقاء أو الجيران أو الأقرباء أو زملاء العمل، ويفرحون بقطع العلاقات بين الأطراف. كما يردّدونه لوصف الأناس الطيبّين الذين يسعوْن إلى إصلاح ذات البين، ووصْل العلاقات المزعزعة بين المتنازعين. فالإبرة تخيط ما انقطع من الثياب وتوصل بين خيط وآخر وقماش وآخر. أمّا المقصّ فيقطع الموصول ويباعد بين الخيوط وبين الأقمشة الموصولة في قطعة واحدة.
لذلك كان البيارتة عندما يحاول أحدهم رأب الصدع بين إخوة مختلفين أو جيران أو أقرباء، ثمّ يأتي مَنْ يسعى إلى تأجيج الخلاف، كانوا يقولون له “الإبرة قالت للمقص أنا بوصل وإنت بتقص” فيشبّهونه بآلة قاطعة ويذكِّرونه بأنّ الوصلَ أمرٌ حميد. وهذا ما يعلّمنا إيّاه ديننا الإسلامي الحنيف؛فما أكرم الواصل بين الإخوة، وبُعدًا للذين يمشون في طريق القطع وطريق والتفرقة.
*المثل الثاني: “الأنفلونزا وأنف العنزة”:
شاع هذا المثل في القرن التاسع عشر في بيروت، فقد تفشّت النّزلة الصّدريّة التي تبدأ بالتعطيس وسيل الأنوف والسعال مع الإصابة بالحمّى و بألم في الظهر وبثقل الحركة.
وكان هذا المرض المنتشر في تلك الحقبة في أوروبا يُدعى الأنفلونزا، أمّا في بيروت فقد كان الأهالي يسمّونه أنف العنزة لأنّ أنف المصاب به يسيل كما يسيل أنف العنزة. وقد ضحك الناس بسبب المشابهة التي تجمع بين كلمة الأنفلونزا وبين عبارة أنف العنزة، وثمّة مَنِ اعتقد أنّ البيروتي القديم قد لفظ الكلمة الأجنبيّة خطأً، فبدَلَ أنْ يقول أنفلونزا، قال أنف العنزة.
والجدير ذكره، إنّ تفشّي مرض النّزلة الصّدريّة في ذلك العام، دفع بولاية بيروت إلى تأليف لجنة طبيّة لزيارة المدارس وفحص التلامذة، فتألّفت اللجنة من طبيب الكرنتينا ومن رئيس المستشفى العسكري، ومن طبيبْين آخريْن ينتميان إلى عضوية مجلس المعارف.
وبناء على الجولة التي قامت بها اللجنة الطبيّة في جميع مدارس بيروت، أحصى الأطبّاء إصابة حواليّ عشرة آلاف تلميذ بهذا المرض المتفشيّ، فأمر الوالي بإقفال المدارس حتى إشعار آخر.
*المثل الثالث: ” بأيّام الباتنجانة ما بتنام جوعانة إلا الكسلانة”:
شاع هذا المثل على ألسنة أجدادنا بشكل خاص في مواسم الباذنجان. وقد وصفه البعض أنه “أبو العيال” وذلك لكثرة الأصناف التي يمكن إعدادها به. لا سيّما وأنّ سائر الخضار متاح تحضيرها بطريقتين فقط هما السلق والقلي بالزيت أو بالسمن. أمّا الباذنجان فيمكن قليه وشيّه وحشوه وطبخه مهروسًا أو مقطّعًا بالفتّة اللبنيّة. من هنا جرى وصف المرأة التي تنام من غير أن تحضّر عشاء بموسم الباذنجان على أنها كسولة.
وقد تغنىّ الناس في بيروت بالباذنجان ونوّعوا مديحه فهو البابا غنّوج والمغمور والمقلوبة والمحشيّ باللحم و المحشيّ بالزيت، وهو أيضا يُصنع كمُربّى شهيّ، كما يُصار إلى جعله مكدوسا طيّب المذاق، وإلى استخدامه في مؤونة أيّام الشتاء.
وهناك أمثال خرجت من عباءة هذا المثل، حيث كان العامّة يصفون المتكبّر بالقول: “كبرت الباتنجانة ودندلت أجراسها ونسيت قفّة الزبالة يلّي براسها”. كما كان البعض منهم يردّدون هذا المثل: “طِلعْ طلوعْ القرع ونِزلْ نزول الباتنجان” وذلك للدلالة على اختلاف المكانة والمقام، ليس فقط في أنواع الخضار، إنمّا وبشكل أساسيّ، بين فئات الشعب المتعدّدة البيئات والمهن والدرجات العلميّة والاجتماعية.
*المثل الرابع: “بالصيف محراق وبالشتي مغراق“:
كان البيارتة يردّدون هذا المثل أيّام بيروت القديمة، عندما كانت بيروت داخل السّور في أوائل القرن التاسع. وسبب هذه المقولة التي تصف حال بيوت البيارتة القدماء وصفا بيئيًّا دقيقًا، أنّ طرقاتهم كانت داخل ذلك السور ضيّقة ومعوجّة، عرضها كان يبلغ نصف المتر، أمّا العريض منها فبلغ مترًا ونصف المتر. كما كانت بعض هذه الطرق مغطّاة بالأقبية والقناطر، الأمر الذي كان يحوُل دون تجدّد الهواء ودون نفاذ ضياء الشمس بشكل كاف، فكانت رائحة العفونة تتصاعد منها. لذلك كان البيارتة في الصيف،إذا اشتدّ الحرّ كثيرًا، يسارعون إلى ضواحي العاصمة، مثل رأس بيروت والمنارة طلبا لهواء عليل بعض الشيء.
أمّا في فصل الشتاء، فقد كانت سماء بيروت آنذاك، تمطر مطرًا شديدًا، وفق قول بعض المؤرّخين إذْ وصل الوحل إلى الرّكب. كما شهدت بيروت في تلك الأيّام فصل شتاء قويًّا تسبَّبَ بإتلاف البضائع في الجمرك، وبطوفان المياه على الدكاكين، بحيث إرتفع منسوبها فوق ذراع، كما شكّلت السيول نهرًا في شارع ويغان بلغ إرتفاعه ذراعًا وعرضه عشرين ذراعًا.
والجدير ذكره أنّ هذا المثل: “بالصيف محراق وبالشتي مغراق”، لا يزال حاضرًا على ألسنة البعض في أيّامنا هذه، ولكنْ بصيغة حروفية مختلفة، إذ يقولون “بالصيف حريق وبالشتا غريق”. ويستخدم هذا القول ساكنو الطوابق العليا في بيروت، أي الطابق الذي يسمونه “روف” لأنه يتعرّض في فصل الصيف إلى أشعّة الشمس الحارّة طيلة النّهار، ويتعرّض للمطر الغزير في فصل الشتاء ليلَ نهار. إلاّ أنّ البيارتة محظوظون بالنسيم العليل أو الهواء الغربي الحنون الذي ينتقل من البحر إلى البرّ في فصل الصيف، فذلك يمدّهم بالإنتعاش قليلا.
*المثل الخامس: إنْ ضاعت الأمانات خليّ مخبأك عِبّك”:
سبب شيوع هذا المثَل يعود إلى أيّام الأزمة الإقتصاديّة والماليّة العالميّة التي شهدتها بيروت في ثلاثينات القرن العشرين، حين كانت العملة المتداولة في العاصمة في العهد العثمانيّ، متمثّلة بالليرة الذهبيّة والمجيديّ والفضيّ. كما وجرى إستعمال النّحاس لشراء السّلع ذات القيمة المنخفضة، ونذكر من هذه النقود النحاسية، البشلك والمتلك. وكان هنالك أيضًا النقود والعملات الأجنبّية.
وقد أصاب الإرتباك الماليّ في تلك الحقبة معظم النّاس، بسبب الهبوط الذي كان يصيب بعض أنواع النقود،
الأمر الذي كان يدفع بالتجّار إلى الإمتناع عن قبض هذا النقد وغيره، خوفًا من عدم إستقرار قيمته المالية.
وقد ساد أيضًا في تلك الحقبة هرج ومرج في أسواق العاصمة وفي الجبل أيضا، وتكاثرت المشاحنات والمشاجرات بين التجّار والمشترين، وتزايدت الأسعار ودبّت الفوضى. حتىّ أنّ صغار المودعين في البنوك المحليّة في العاصمة كبنك داغر وبطرس وبنك كرياكوس، أصابهم الشعور بالغضب لأنّ تلك البنوك توقّفت عن دفع المال للمُودِعين. لذلك سحب النّاس ثقتهم بنظام البنوك التي كانت نادرة آنذاك، وعادوا إلى إدّخار أموالهم في بيوتهم وتحت البلاطة، كما يقال، وحرصوا على ترديد هذا المثل: “إن ضاعت الأمانات خليّ مخبأك عبّك”
وازدهرت في تلك الأيام عادة الإدّخار بالليرة الذهبية، وظل البيارتة يحرصون على إخفاء أموالهم في مكان أمين داخل المنزل، وكانوا يتفننون في إيجاد مخابىء لا تخطر على بال اللصّ.
وظلّ الأمر على هذا الحال حتى تغيّرت أحوال العالم كله، وتكرّست أسعار العملات إلى حدّ كبير.
*المثل السادس: “إذا لقيت قمحْ لا تاخُدْ طحين،وإذا لقيت طحين لا تاخُدْ خبز”:
جاء هذا المثل على ألسنة البيارتة القدماء. وقد لا يعرفه الكثيرون من أبناء اليوم. لكنّ الآباء يعرفونه من الأجداد الذين عاصروا بيروت القديمة. حيث كان سكّانها بحاجة إلى الخبز عن طريق إستيراد القمح. فلم يكن في جوار بيروت القديمة سهول لزراعة القمح، لذلك كان أبناء العاصمة يعتمدون على شراء حبوب القمح المطحونة من مطاحن جبلية في لبنان وبعضها كان يعمل على البخار. وكان العديد منهم يشترون الطحين ويصنعون منه خبزًا بيتيًّا نظيفا وصحيًّا.
لذلك سرى هذا المثل على ألسنة الأجداد:”إذا لقيت قمح لا تاخد طحين، واذا لقيت طحين لا تاخد خبز.”
وقد كان في جوار بيروت القديمة ساحة معروفة بساحة “جرينة الحنطة” والجرينة مشتقة من إسم الجرن المستخدم لخزن القمح. وقد تغيّرت هذه الأماكن وأصبح هناك اليوم، كما هو معروف إهراءات للقمح.
ومن الأسباب التي حفّزت أجدادنا على ترك عادة أخذ القمح، عدم إهتمام المغربلين والطحّانين وأصحاب المطاحن والنخّالين بعملهم حتى تكون البضاعة ذات مواصفات جيّدة لا تشوبها شائبة. والسبب الرئيسيّ الآخر أيضًا في ترك هذه العادة، هو كثرة العمران والأشغال في بيروت في تلك الحقبة الزمنية التي عاشها الأجداد في القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين، ممّا جعل الناس يشعرون بضيق الوقت في العمل الذي حال دون أن يتفرّغ الأهالي لشراء القمح وغربلته وتصويله وطحنه وخبزه.
*المثل السابع: “إن أقبلت باض الحمام على الوتد، وإن أدبرت بال الحمار على الأسد”:
لهذا المثل قصّة شعبيّة رواها بعض الرواة من كبار السنّ، عن حكاية أحد التجّار الأثرياء الذي كان يعيش في بيروت في مطلع القرن العشرين، وقد كان إلى جانب تجارته الميسورة التي جعلت منه جامع ثروة طائلة، مُحبًّا وشغوفًا بتربية الحمام، فكان يشتري الحمام الأصيل بمبالغ عالية،حتى امتلأ برج الحمام عنده بالبيض، فأخبر رفاقه بأنّ الحمام باض حتىّ على الأوتاد الموجودة على سطح الدار. وما إن زاد المال أكثر بين يديه حتى راح يتفاخر بذلك ويصف نفسه بأنّه الأسد في السوق، تمامًا مثلما الأسد هو الأقوى في الغابة. وكان أحد رفاقه يلومه على التكبّر ويعظه بذكْر هذا المثَل البيروتي القديم: يا جامع المال إلكْ إيّام معدودة، المال للورّاتْ، واللّحمة للدّودة”.
ثم دار الزمن دورته، وشهد النّاس أزمة إقتصادية خانقة، وظروفًا عصيبة تخلّلها إغلاق المرافىء وكساد البضائع، فتوقّف حال هذا التاجر وانقلبت تجارته حتى أعلن إفلاسه. فدفعته أسباب العوز إلى الهجرة فقصد أرضًا غريبة، وما إنْ عمّ المساء حتى دخل إلى خان للمكارية، أي المكان الذي توضع فيه الحمير ليلاً. فنام في هذا الخان، وفي أثناء نومه، بال عليه حمار فتحسّر على نفسه وتذكّر المثَل الذي كان يردّده النّاس في دياره “إنْ أقبلت باض الحمام على الوتد، وإنْ أدبرت بال الحمار على الأسد”، وتذكّر أنّه وصف نفسه بأسد السوق بتباهٍ وعجرفة، ثمّ أشفق على حاله وغدا يبحث عن عمل يكفيه قوتَهُ وقوتَ أهله.
*المثل الثامن: “برنيطة أبوه معلّقة بالتوتة”:
شاع هذا المثل أيّام البيارتة الذين عاصروا بيروت القديمة، حيث كانت ربّات البيوت تغسِلْنَ ثياب العائلة وتنشرنّها على حبال ممتدّة بين أشجار التوت حتى تجفّ. وكان من بين الملابس المغسولة الشراويل والطرابيش، حين كان الطربوش زينة الرجال البيارتة آنذاك.
و لكن مع تبدّل العادات الإجتماعية بمرور الأعوام ومع تطوّر المِهن ودخول الأجنبي إلى البلاد العربيّة ومنها بلاد الشّام، ومن ضمنها مدن لبنانية وبالأخصّ بيروت التي كانت “حندوقة” عين الأجنبي ومطْمعَه،إستبدل معظم الرجال الطربوش بالبرنيطة، وخاف تجّار الطرابيش على تجارتهم، فلجأوا إلى
الخيّاطين كي يجدّدوا من شكل الطربوش لينافس البرنيطة، فأضاف الخيّاطون السدّادة التي تُسمّى الفيْصليّة نسبةً لغطاء الرأس الذي كان يعتمره الأمير العراقي فيصل بن الحسين، كما أضافوا تقليدًا يشبه القبّعة التي كان يعتمرها القائد العثماني أنور باشا.
وعندما تغيّرت أشكال الطرابيش وكثرت أنواع البرانيط، ردّد المحافظون على شكل الطربوش القديم هذا المثل:برنيطة أبوه معلّقة بالتوتة” والمقصود منه إنتقاد عملية الخروج عن التراث، وتقليد الحضارة الغربيّة الغريبة، فمنْ لا يحافظ على تراثه ومقوّماته الحضارية، لن يجد أساسًا تاريخيًّا ولا مستقبلاً أصيلاً يستند إليه. إنطلاقا من هذا المعنى الإنتقاديّ اللاذع لعمليّة إستبدال الطربوش بالبرنيطة، نلاحظ دور العديد من الأمثلة الشعبية في تثوير الرأي العام وفي تثقيفه وفي تعزيز عناصر التربية الإجتماعية والحضارية في قاموسه المعرفي، لذلك كان أغلب أجدادنا البيارتة يتقنون فنّ النقد بكلمات محْكيّة قليلة الأحرف وكبيرة الفائدة.
*المثل التاسع: “ما كلّ مين صَفّْ صواني قال أنا حلواني”:
يعكس هذا المثل الصنعة الشهيرة التي كانت تميّز-ولا تزال- بعض العائلات البيروتيّة العريقة منذ مطلع القرن العشرين، وهي صناعة الحلويّات العربية. وقد إشتهر بها آل الزغلول والصمدي والبحصلي والرشيدي وسواهم. وكان لهذه العائلات سمعة ذائعة الصيت على صعيد صناعة أفخر الحلويات، وذلك نظرًا لصنعهم أطيب أصناف البقلاوة والمعمول والكنافة بالجبن والمشبّك والعوّامات والمغليّ والأرزّ بالحليب والتمريّات والصفوف. وقد توارث أبناء هذه العائلات سرّ المهنة التي كانت تتضمّن خلطات معينّة ومواصفات محدّدة، سعى الآباء ومِنْ قَبلِهم الأجداد إلى أنْ تظلَّ محصورة ضمن نطاق ضيّق داخل كل أسرة بحدّ ذاتها.
ومع مرور الأعوام وازدياد العمران في بيروت واكتظاظها بالسكّان القادمين من الجبل والجنوب والبقاع والشمال،إزدادت الحاجة لتوسيع الأسواق وافتتاح محلاّت في مناطق مختلفة من العاصمة، ففتح العديد من النّاس محلاّت للحلويّات منها الصغيرة ومنها الكبيرة، وتفنّنوا في أشكالها وإضافة بعض الملوّنات عليها . وعندما فتح صنّاع الحلوى الجُدد محلاّت في مناطق عديدة من العاصمة، أراد بعض البيارتة أنْ يجرّبوا حلويّاتهم بغية توفير المسافة والمال في الوقت عينه، ولكن ما إنْ ذاقوا الأصناف التي إشتروها حتى لاحظوا الفرق الكبير في الطعم والنوع والأصالة بينها وبين ما عوّدهم عليه الحلوانيّون الأصيلون على مرّ الأعوام. من هنا سارع البعض إلى ترداد هذا المثل: “ما كلّ مين صفّ صواني قال أنا حلواني”.
*المثل العاشر: “منكون عمْ نحلقْ منْصير عم نقبّع ضراس”:
يعكس هذا المثل واقعًا إجتماعيًّا قديمًا لبلاد الشام عامّةً، ولمدينة بيروت خاصّةً. فقد كان الحلاّق في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، يمتهن أكثر من مهنة، فهو مختصّ بحلق الشعر واللحى والشوارب من جهة، ومختصّ أيضًا بقلع الأضراس وبمداواة أمراض الجلد من جهة ثانية. وكان الحلاّق أيضًا يحوي في دكّانه مراهم وعقاقير مصنوعة من الأعشاب لعلاج داء الثعلبة وسواه من الأمراض الجلدية.
أمّا أدواته فكانت بسيطة، خصوصًا أداة قلع الأضراس التي هي عبارة عن كلاّبة، بالإضافة إلى ماء الخشخاش المخدِّر الذي يتمضمض به المريض قبل قلع الضرس وذلك لتخفيف الألم.
ومع أنّ هذه الظاهرة التي رافقت مهنة الحلاقة في عصر مضى، قد انتهت بعد تطوّر المهن وتطوّر العلوم والإختصاصات وأهمّها علم الطبّ،إلا أنّ هذا المثل “منكون عم نحلق منصير عم نقبّع ضراس” لا يزال شائعًا على الألسنة لغاية اليوم، إذ يقوله العوام عادةً عندما يكون أحدهم يعمل على توضيب أغراض ما، ثم يجد نفسه مضطرًّا لعمل شيء مختلف في الوقت عينه. وفي مثل هذه الحالة يردد المرء هذا المثل في سرّه أحيانًا، وأحيانًا يردّده بصوت عال.
من هنا، تُظهِر لنا الأمثلة الشعبيّة التي حفظها النّاس بالتواتُر من جهة، وهي كثيرة جدًّا، وعبر كتب التراث الشعبي، من جهة ثانية، الحالة العامّة لمظاهر الحياة التي عاشها أجدادنا، وتحتفظ لنا بعاداتهم المكرّسة في عصرهم، الأمر الذي يجعل من أدبيّات بعض هذه الأمثلة، نهجًا تراثيا يحمل عنوانًا عريضًا هو الادب الشّعبيّ.
الكاتبة الصحفية غادة كلش